الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التَّمتُّع
الحديث الأول
عَنْ أَبي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِي، قالَ: سَألْتُ ابْنَ عَباسٍ رضي الله عنهما عَنِ المُتْعَةِ، فَأمرني بِهَا، وَسَألْتُهُ عَنِ الهَدْيِ، فَقَالَ: فيها جَزُورٌ أَو بقرة أَوْ شَاة أو شِركٌ في دَمٍ، قَالَ: وَكأنَّ ناسًا كَرِهُوهَا، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كأن إنْسَانا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، ومُتْعَة مُتَقَبَّلَة، فَأتيتُ ابْنَ عباسٍ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ أكبر! سُنَّةُ أَبي القاسِمِ صلى الله عليه وسلم (1).
أما أبو جمرة، فهو بالجيم والرَّاء، وليس في الكنى بهذه الضيغة غيره مطلقا.
وإذا أطلقه شعبة في الرِّواية عنه من غير تسميةٍ، فهو بالجيم والزَّاء، فإنه يروي عن شعبة عن ابن عباسٍ: بالحاء والزاي، إلا أبا جمرة هذا، والسنة لا يذكرهم إلا معرفين بشيء.
وأبو جمرة هذا، اسمه نصر -بالصاد المهملة- بنُ عمران، واختلف في صحبة أبيه عمران، وممن ذكر الاختلاف فيه: ابن منده، وأبو نعيم، وابن عبد البر.
وكان عمران هذا قاضيًا على البصرة رحمه الله، وعمران هذا هو ابن
(1) رواه البخاري (1603)، كتاب: الحج، باب:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ومسلم (1242)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.
عصام، وقيل: عاصم بن واسع، وأبو جمرة هذا تابعيٌّ بصري، متّفق على توثيقه، والرواية له في "الصحيحين" والسُّنن والمساند، وروى عن عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك وغيرهما، ومات سنة ثمانٍ وعشرين ومئة. وذكر مسلم بن الحجاج موته بسرخس في آخر كتاب الجنائز، في حديث القطيفة التي فرشت تحت النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، من "صحيحه"(1). وحكى موته بسرخس -أيضًا- الحاكم أبو عبد الله، عن مسلم بن الحجاج وغيره، والله أعلم.
وأما الضُّبَعِي: -بالضاد المعجمة المضمومة، ثم الباء الموحدة المفتوحة، ثمَّ العين المهملة، ثمَّ ياء النسب-، فنسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن بكر بن وائل بن قاسط. وتشتبه هذه النسبة [بالضِّبْغي: بالصَّاد المهملة المكسورة، وسكون الباء الموحّدة، وبالعين المعجمة، ثمَّ ياء النسب] (2)، وبالصنْعِي -بالصَّاد المهملة المفتوحة وسكون النُّون، وبالعين المهملة، ثمَّ ياء النسب- (3).
قوله: "سَأَلْتُ ابْنَ عَباسٍ عَنِ المُتْعَةِ، فَأَمَرَني بِهَا" اعلم أن المتعة تطلق في الشَّرع بمعانٍ: منها: نكاح المرأة إلى أجلٍ، وليس هذا مرادًا بسؤال ابن عباس وجوابه اتفاقًا؛ فإن المتعة بنكاح المرأة مؤجلًا كان مباحًا، ثمَّ نسخ يوم خيبر، ثمَّ أبيح يوم الفتح، ثمَّ نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى الآن وإلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثمَّ ارتفع، وأجمعوا على تحريمه.
وأما المُتْعَةُ المرادة بسؤال ابن عباس وأمره بها، فالظاهر أنها الإحرام بالعمرة
(1) رواه مسلم (967)، كتاب: الجنائز، باب: جعل القطيفة في القبر، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
ما بين معكوفين ساقط من "ح 2".
(3)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 235)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 104)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 491)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 362)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 243)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 385).
إلى الحج في أشهر الحج قبل الحج، ثمَّ الحجّ من عامه، وهو المراد بقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، قال ابن عبد البر: لا خلاف في ذلك بين العلماء (1).
وقال ابن الزُّبير، وعلقمة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير: معنى التَّمتُّع في الآية: المحصَر يفوته الحجُّ، فيتحلل بعمل عمرة، ثمَّ يحج في العام المقبل، فيكون متمتِّعًا بما بينهما في العامين، وقد نُقل عن ابن عمر وعثمان النَّهيُ عن ذلك، وهو نهي أولوية، لا نهي تحريم وكراهة؛ للتَّرغيب في الإفراد؛ فإنَّه أفضل؛ لكونه أكثر عملًا، ولا يجبر بدم ولا غيره.
وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على جواز الإفراد والتَّمتع والقِران من غير كراهةٍ. واختلف العلماء من الأفضل في الثلاثة.
وقوله: "فَأمَرَنيِ بِهَا" يدل على جوازها من غير كراهةٍ.
وقوله: "وَكانَ ناسٌ كَرِهُوهَا"، الكراهة منقولة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وقد قام عمر بذلك فقال: إن الله تعالى يحلُّ لرسوله ما شاء بما شاء، وإنَّ القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، وأبقوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة (2).
قال المازريّ: وقد اختُلف في المتعة الَّتي نهى عنها عمر في الحج: فقيل: هي فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: هي العمرة في أشهر الحجّ، ثمَّ الحجُّ من عامه (3).
وعلى هذا، إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد -الَّذي هو أفضل- لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها.
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 93).
(2)
رواه مسلم (1217)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 169).
قال القاضي عياض: الظاهر أن المتعة المكروهة إنما هي فسخ الحج إلى العمرة، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الناس عليها، ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنَّما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة رضي الله عنهم أن فسخ الحج إلى العمرة كان خصوصًا في تلك السنة؛ للحكمة التي اقتضته، والله أعلم (1).
وقوله: "وَسَألتُهُ عَنِ الهَديِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَو بقَرَةٌ أَوْ شاةٌ أو شِركٌ في دَمٍ".
أما الهَدْيُ: فهو ما يُهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، لكن المراد به في الآية والحديث؛ ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم، ويقال: هَدْي وهَدِي، بإسكان الدال وتخفيف الياء، وبكسرها وتشديد الياء، ذكرهما الأزهري وغيره، قال الأزهري: أصله التشديد، والواحدة هَدْية وهَدِية، وتقول: أهديتُ الهديَ (2).
وأما الجَزُورُ: فلفظها مؤنث، نقول: هذه الجزور، والمراد بها البعير، ذكرًا كان أو أنثى، وجمعها جُزُر وجِزار (3).
والبقَرَةُ: فهي الواحدة من البقر، وهو اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال في الواحدة -أيضًا-: باقورة، والبيقور، والبقير، والبقرات، كلها بمعنى البقر، مشتقة من بقرت الشيء: إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة، ومنه قيل لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: الباقر؛ لأنه بقر العلم، فدخل فيه مدخلًا بليغًا (4).
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 156)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 636)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 204).
(3)
انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 98)، (مادة: جزر).
(4)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 102)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 145)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 73)، (مادة: بقر).
والشاةُ: الواحد من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها: شوهة، ولهذا إذا صغرت عادت الهاء فقيل: شُوَيْهة، والجمع شياه بالهاء في الوقف والدرج (1).
وقولُه: "أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ"؛ أي: ما يجزي ذبحه في الأضحية عن سبعة؛ كالبدنة ونحوها.
وقوله: "فيها" الضمير فيها عائد إلى المتعة؛ أي: الواجب على من تمتع بالتحلل بين العمرة والحج بما كان محرمًا عليه في إحرامه، إما في عام أو عامين، دمٌ صفته ما ذكر، والله أعلم.
واعلم: أن لوجوب الدم للمتمتع عند الجمهور من العلماء أربع شرائط:
أحدها: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
والثاني: أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة.
والثالث: أن يحرم بالحج في مكة، ولا يعود إلى الميقات لإحرامه.
والرابع: ألَّا يكون من حاضري المسجد الحرام.
فمن وجدت فيه هذه الشرائط، فعليه ما استيسر من الهدي، وهو دم شاةٍ أو نحوه، يذبحه يوم النحر، فلو ذبح قبله بعدما أحرم بالحج، فذهب بعض أهل العلم إلى جوازه؛ كدماء الجبرانات، وذهب بعضهم إلى عدم الجواز قبل يوم النحر؛ كدم الأضحية، والله أعلم.
وقولهُ: "رَأَيتُ في المَنَام كأن إنسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبرُورٌ، وعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ" الى آخره: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثمٌ.
واعلم أن الاستئناس بالرؤيا فيما يقوم عليه الدليل الشرعي، ليس من باب التقوية له، وإنما هو للتنبيه على عظم قدر الرؤيا، وأنها جزء من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، وهذا الاستئناس والترجيح ليس منافيًا للأصول.
(1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 103)، و"النهاية في غريب الحديث" للنووي (2/ 521 - 522)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 510)، (مادة: شوه).