الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التبن على الأبواب، وذبح الذبائح لموت الميت، وعقر الحيوان، ولطم الخدود، وشق الجيوب، وإعلاء الأصوات بالبكاء والندب، والمراءاة بذلك، وارتكاب ذلك لأجل فلان وفلانة، بل يجب في ذلك كله الامتناع منه، والرجوع إلى الله تعالى، وليكثر من قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون عند وجود المصيبة وبعدها وقبلها، والله أعلم.
ومن الأفعال المحرمة في ذلك المراءاة به، وقصد التسميع والمفاخرة بها، بل يكون المكلف في ظاهره وباطنه متبعًا لا مبتدعًا، مقيدًا بالشرع لا مطلقًا ولا متكلفًا ولا متخلفًا عن فعل خير، خصوصًا في هذه الحال المذكرة بالزهد في الدنيا ومقابحها، الحاملةِ على الرغبة في الآخرة وموانحها، فينبغي المراقبة لله تعالى في كل حال من الحالات، والاستغفار من كل زلة من الزلات، والرجوع إليه في كل لحظة من اللحظات، وسؤاله الثبات حتى الممات، إنه ولي ذلك، وجميع المؤمنين والمؤمنات.
* * *
الحديث الحادي عشر
عَنْ عائشِةَ رضي الله عنها قاَلت: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَ بَعْضُ نِسائهِ كَنيسَةً رأينَها بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقَالُ لَها: ماريةَ، وكانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبَيبَةَ أَتَتا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتا مِنْ حُسْنِها وَتَصاويَر فيها، فَرَفَعَ رَأسَهُ فَقَالَ:"أولئكَ إذا ماتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ، سَوَّوا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أولَئِكَ شِرارُ الخَلْقِ عِنْدَ الله"(1).
أما عائشة وأم سلمة، فتقدم ذكرهما، وأن اسم أم سلمة: هند، ويقال: رملة، وليس بشيء، وهما أما المؤمنين.
(1) رواه البخاري (1276)، كتاب: الجنائز، باب: بناء المسجد على القبر، ومسلم (528)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، وهذا لفظ البخاري.
وأما أم حبيبة، فاسمها رملة، وقيل: هند، والأول أشهر، كُنيت بابنتها حبيبة بنتِ عبيد الله بن جحش، وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان صخرِ بن حرب ابن أمية، أمُّ المؤمنين، الأموية، كانت من السابقين إلى الإسلام، هاجرت مع زوجها عبيد الله إلى أرض الحبشة، فتوفي عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هناك سنةَ ست من النبوة قبل الهجرة، ويقال: سنة سبع، زوجه إياها عثمان بن عفان، وأمها صفية بنت أبي العاصي عمة عثمان، وقيل: إن النجاشي رضي الله عنه زوجه إياها، وأصدقها مئتي دينار، وقيل: أربع مئة دينار، فلعل واحدًا منها أوجب، والآخر قبل منه صلى الله عليه وسلم، وقيل: عقد عليها خالد ابن سعيد [بن] العاصي، وأولم عليها عثمان بن عفان لحمًا وثريدًا، وجهزها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحبيل بن حسن، فجاءه بها، وقيل: بل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقيل: إنه الصحيح، وكان أبوها إذ ذاك بمكة، والله أعلم بالصواب.
وروي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بحديثين، وروى عنها أخواها: معاوية وعتبة، وابنُ أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وجماعة كثيرة من التابعين، وروى لها أصحاب السنن والمساند، وتوفيت قبل موت معاوية بسنة، وتوفي معاوية في رجب سنة ستين، وقيل: توفيت سنة أربع وأربعين، وأما موضع دفنها، فأهل الشام يقولون: إنه بدمشق بمقبرة باب الصغير، وقال أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى-: روي عن علي بن حسين قال: قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب، فحفرنا في ناحية منه، فأخرجنا منه حجرًا، فإذا فيه مكتوب: هذا قبر بنت صخر، فأعدناه مكانه، والله أعلم (1).
(1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 96)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 130)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 116)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 175)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 651)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 448).
وأما مارية، فهي -بكسر الراء، وفتح الياء المثناة تحت الخفيفة، بالكسر والفتح فيهما-: الكنيسة المذكورة في الحديث.
وفي هذا الحديث دليل على تحريم تصوير الحيوان، خصوصًا الآدمي الصالح، سواء كان التصوير في حائط، أو ثوب، أو رق، أو مجسدًا قائمًا بذاته، والأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما تدل على ما ذكرته، ولقد غلط من حمل التحريم على المجسد القائم بذاته؛ حيث أشبهت الأصنام، وأبعدُ من ذلك من حمل الأحاديث على كراهة التنزيه، وأن التشديد الوارد في التصوير إنما كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان انتشر الإسلام، وتمهدت قواعده، فلا تساويه في المعنى، ولا في التشديد في التحريم، وكل من القولين غلط باطل قطعًا؛ حيث أخبرنا الشارع صلى الله عليه وسلم بعذاب المصورين في الآخرة، وأنه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وذلك مخالف لمقالتهم، كيف وقد صرح في قوله صلى الله عليه وسلم في وصف المصورين: المشبهون بخلق الله، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تحصى زمنًا دون زمن، وليس لنا التصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة الصريحة بمعنى خيالي يمكن ألا يكون مرادًا، مع اقتضاء اللفظ للتعليل بغيره، وهو التشبيه بخلق الله.
وفيه دليل على منع بناء المساجد على القبور، وهو منع يقتضي التحريم، كيف وقد ثبت في الحديث الآتي لعنُ اليهود والنصارى على اتخاذ القبور مساجد، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد"(1).
وفيه: دليل جواز حكاية الإنسان ما رآه من البناء والتصاوير، وأنه لا حرج في ذلك.
وفيه: دليل على وجوب البيان عند حكاية ما يقتضي مخالفة الشرع.
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 172)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 241)، عن عطاء بن يسار، مرسلًا. ورواه موصولًا: ابن عبد البر في "التمهيد"(5/ 42)، من طريق البزار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفيه: دليل على أن المرض ليس عذرًا في عدم البيان والإنكار.
وفيه: دليل على تحريم التعظيم بما لا يحل فعله، وقوله.
وفيه: دليل على وصف فاعل المحرمات المضاهية لخلق الله تعالى والآمر بها، ومرتضيها بأقبح وصف؛ فإنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بشرار الخلق عند الله.
وفيه: دليل على أن الاعتبار في الأحكام والأوصاف وغيرها إنما هو بما عند الله، لا بما عند الخلق.
وفيه: دليل على جواز الكلام عند المريض والشاكي.
وفيه: دليل على أن الكلام عنده إنما يكون بما يناسب حال الشاكي ومقامه؛ حيث ذكرتا أماكن العبادة وتعظيم النصارى لها بما ذكرتا، فبين صلى الله عليه وسلم حكمَ ذلك، ودليل جميعه.
أما بناء غير المساجد على القبور، فإن كان لمعنى مقصود شرعي، فهو جائز إجماعًا، بشرط ألا يكون في بقعة محرمة من غصب أو تسبيل على المسلمين، وقد نص الشافعي وأصحابه على تحريم البناء في المقبرة المسبلة للمسلمين، قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى فيها (1)، ويؤيد الهدم، ومن المقصود الشرعي فعلُ الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه حيث دفنوا في بيت عائشة رضي الله عنها، وأخفيت قبورهم بالبناء كي لا تتخذ مسجدًا كما ذكرته عائشة في الحديث الآتي، أما البناء في ملك الباني غير المساجد على القبر، فهو مكروه، وعموم النهي عنه في الأحاديث الصحيحة يقتضي التحريم، والله تعالى أعلم.
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 277) ونصّه فيه: "وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك. . .".
قلت: وما نقله المؤلف رحمه الله من كلام الإمام الشافعي، فإنما أخذه من شيخه النووي في شرحه على "مسلم"(7/ 27)، وهذا يؤيد ما قلناه مرارًا، من أن المؤلف رحمه الله يأخذ من كتب شيخه النووي والآخرين، دون عزو إليهم، فينقل عبارات الأئمة السابقين كالشافعي وأبي حنيفة وغيرهما من غير مصادرها الأم، كما وقع هنا، والله أعلم.