الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفضل، وهذا الحديث محمول على ذلك، والله أعلم.
وقول ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات؛ لصغره، وقد ذكر بعض المصنفين في كتاب "ما العوام عليه موافقون للسنة والصواب دون الفقهاء".
وذكر مسائل:
منها: رفع الصوت بالذكر عقيب الصلوات، وهذان الحديثان يدلان على صحة قوله، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَمْلَى عَلَى المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبة رضي الله عنه فِي كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ عَلَى مُعَاوِيةَ، فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ (1).
وفي لَفْظٍ: كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمْهَاتِ وَوَأْدِ البَنَاتِ وَمَنْعٍ وهَاتِ (2).
أما المغيرة بن شعبة، فتقدم ذكره في باب المسح على الخفين.
وأما وَرَّادٌ: فهو كاتب المغيرةِ بن شعبةَ ومولاه، وهو ثقفيٌّ، كوفيٌّ، كنيته: أبو سعيد، ويقال: أبو الوراد، تابعي ثقة، روى له البخاري ومسلم وأصحاب
(1) رواه البخاري (808)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (471)، كتاب: الصلاة:، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام.
(2)
رواه البخاري (6862)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم (593)، كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.
السنن والمساند، وروى عنه جماعة من التابعين الصغار (1).
وأما معاوية: فهو ابن أبي سفيان، وهو صَخْرُ بنُ حربِ بنِ أميةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ، كنيته أبو عبد الرحمن، وأمه هندٌ بنتُ عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، كان هو وأبوه وأخوه يزيدُ بن أبي سفيان من مسلمة الفتح، وروي عن معاوية أنه قال: أسلمتُ في عمرة القضية، ولكني [كنت] أخاف أن أخرج، وكانت أمي تقول: إن خرجتَ، قطعت عنك القوت.
وأما أبوه صخر، فذكر ابن قتيبة: أن عينيه ذهبت إحداهما يوم الطائف، والأخرى يوم اليرموك، ومات في خلافة عثمان أعمى.
وهو أول من عمل المقصورة سنة أربع وأربعين بجامع دمشق والجوامع، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مِرْقاة، وأول من جعل ابنه وليَّ العهد خليفةً بعده في صحته، وأول من جعل على رأسه حَرَسًا، وأول من قِيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخِصْيان في الإسلام، وأول من قتل مسلمًا صبرًا؛ حجرًا وأصحابه، وكان يقول: أنا أول الملوك (2)، وولاه عمر رضي الله عنه الشام بعد موت أخيه يزيد، وكان معاوية أحدَ كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضر غزوةَ قيسارية مع أخيه يزيد، واستخلفه على غزوها حين سار إلى دمشق، ولم يزل معاوية عليها حتى فتحها، وقد قيل: إن فتحها كان في سنة تسع عشرة في خلافة عمر رضي الله عنه، وفي ذي الحجة منها توفي يزيد بن أبي سفيان في دمشق، وولي معاويةُ بعده، وجزع عمر على يزيد جزعًا شديدًا، وكتب بالولاية بعده لمعاوية، فأقام أربع سنين، فأقره عثمان عليها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات، ثم كانت الفتنة بينه وبين علي رضي الله عنه، فحاربه
(1) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 48)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 498)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 427)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 441)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 431)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 100).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30714)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(59/ 177).
معاوية أربع سنين، على الصواب، وقيل: خمس سنين، ولما دخل عمر الشام، وشهد فتح بيت المقدس حين دخوله الشام سنة ست عشرة -وكان فتحها صلحًا- رأى معاويةَ في موكب عظيم، فلما دنا منه قال: أنت صاحبُ الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك!، قال: ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو، وبها كثير، فيجب أن نظهر فيها من السلطان ما يرهبهم، فإن أمرتني، فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال عمر: يا معاوية! ما نسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًّا، إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا، إنها لخدعة أديب، قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا آمرك ولا أنهاك، فقال عمرو ابن العاص: يا أمير المؤمنين! ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردتَهُ فيه! قال: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جشمناه (1)، وذم معاويةَ عند عمر رضي الله عنه قومٌ، فقال: دعونا من ذم فتى قريش، من يضحك في الغضب لا ينال ما عنده إلا على الرضا، ولا يوجد ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه (2).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية، فقيل له: ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا -والله- خيرًا من معاوية، وأفضل، وكان معاوية أسود منهم (3).
وقيل لنافع: ما لابن عمر بايع معاوية ولم يبايع عليًّا؟ فقال: كان ابن عمر لا يضع يدًا في فرقة، ولا يمنعها من جماعة، ولم يبايع معاويةَ حتى اجتمع عليه.
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(59/ 112).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(59/ 112).
(3)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(516)، والطبراني في "المعجم الكبير"(13432)، وفي "المعجم الأوسط"(6759)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(59/ 174).
قال أبو عمر بن عبد البر: كان معاوية رضي الله عنه أميرًا بالشام نحو عشرين سنة، وخليفةً مثل ذلك؛ كان من خلافة عمر نحوًا من أربعة أعوام، وخلافة عثمان كلها اثنتي عشرة سنة، وبايع له أهل الشام خاصة بالخلافة سنة ثمان أو تسع وثلاثين، واجتمع الناس عليه حين بايع له الحسن بن علي وجماعة ممن معه، وذلك في ربيع أو جمادى سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة.
وقال أبو بشر الدولابي: وبويع له في ذي الحجة سنة أربعين ببيت المقدس، وكانت خلافته تسع عشرة سنة، وتسعة أشهر، وثمانية وعشرين يومًا.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث، وثلاثة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بمثلها، ومسلم بخمسة.
وروى عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، والسائب بن يزيد، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وجماعة من التابعين، وروى له -أيضًا- أصحاب السنن والمسانيد، ومات في رجب سنة ستين بدمشق ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين، واختلف في يوم وفاته، وفي سنتها، والمشهور ما ذكرنا، وقال القضاعي محمد بن سلامة بن جعفر: وتوفي بدمشق مستهل رجب، وقيل: للنصف سنة ستين بدمشق، ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين، واختلف في يوم وفاته، وفي سنتها، والمشهور ما ذكرناه.
وصلى عليه ابنه يزيد، وقيل: إن ابنه كان غائبًا، فصلى عليه الضحاك ابن قيس، ودُفن بين باب الجابية وباب الصغير، ورأيت بخط بعض علماء وقتنا المتأخر في جواب فتيا له: أن معاوية مات بدمشق، ودفن تحت حائط جامعها في قبلته في الموضع الذي يسمى بقبر هود صلى الله عليه وسلم، وأُخفي قبره كما أخفي قبرُ عليٍّ بالعراق خشيةً عليه، وما أعلم من أين أخذ هذا، ثم وجدت معنى ما أفتى به في جزء مخرج عن أبي الفتح محمد بن هارون بن نصر بن السدي، وأنه دفن أولًا
بمقبرة باب الصغير، ثم نقل إلى المكان المذكور، وكان مشهورًا، ثم بني الجامع بعد ذلك، ثم لعله أخفي بعد ذلك، والله أعلم.
ولا شك أن هودًا صلى الله عليه وسلم لم يقدم الشام فيما ذكره المؤرخون، وإنما كان بحضرموت، ومات بها، وقيل: قدم مكة، ومات بها، ودفن، والله أعلم.
ولما حضرت معاويةَ الوفاةُ، وثقل في مرضه، وكان ابنه يزيدُ غائبًا، كتب إلى ابنه بحاله؛ فيما ذكر محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول ذلك، وأنشد ابنه يزيدُ أبياتًا مشهورة لما أتاه الرسول بذلك، فلما وصل إليه ابنه وجده مغمورًا، فأفاق معاوية فقال: يا بني! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج لحاجة، فاتبعته بإداوة، فكساني أحد ثوبيه الذي يلي جلده، فخبأته لهذا اليوم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من أظفاره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبأته لهذا اليوم، فإذا أنا مت، فاجعل ذلك القميص دون كفني مما يلي جلدي، وخذ ذلك الشعر والأظفار فاجعله في فمي وعلى عيني ومواضع السجود مني، فإن نفع شيء، فذاك، وإلا، فإن الله غفور رحيم.
ولمعاويةَ منقبةٌ جليلة رويناها في "جزء ابن عرفة": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَّ عَلِّمْ معاويةَ الكتابَ والحسابَ، وقِهِ العذابَ"(1).
وقال قتادة: قلت للحسن: يا أبا سعيد! إن هاهنا ناسًا يشهدون على معاوية أنه من أهل النار، فقال: لعنهم الله، وما يدريهم من في النار (2)؟
ورزق عمر بن الخطاب معاوية رضي الله عنهما على عمله بالشام عشرة آلاف دينار كل سنة (3).
(1) ورواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 127)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1938)، وابن حبان في "صحيحه"(7210)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 251)، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(59/ 206).
(3)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 32)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 326)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 373)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1416)، =
وأما ألفاظ الحديث ومعانيه وأحكامه:
فقوله: "دبرَ كلِّ صلاة"، فالمعروف المشهور في الروايات واللغة: دُبر -بضم الدال-، وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دُبر الشيء ودَبره -بالضم والفتح-: آخر أوقاته، والصحيحُ: الضم، ولم يذكر الجوهري آخرون غيره، وقال أبو عمر المطرزي في كتابه "اليواقيت" (1): دبر كل شيء -بفتح الدال-: آخر أوقاته من الصلاة وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، والمراد به في الحديث: عقب السلام منها، سواء كان آخر وقتها، أو أوسطه، أو أوله، إلا أن يكون مراد أهل اللغة بآخر أوقات الشيء الفراغَ من فعله، فيتطابق تفسيرهم ومراد الحديث، والله أعلم (2).
وقوله: "ولا ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ" المشهور الذي عليه الجمهور أن الجَد بفتح الجيم، ومعناه: لا ينفع ذا الغنى والحظِّ منك غِناه، وضبطه جماعة بكسر الجيم (3)، والجد هنا وإن كان مطلقًا، فهو محمول على حظوظ الدنيا، يعني: إنما ينفعه العمل الصالح، والنافع في الحقيقة هو الله تعالى بالتوفيق للعمل الصالح والإخلاص فيه وقبوله، والله أعلم.
واعلم أن الذكر مطلوب محثوث عليه من الشرع، وهو مطلق ومقيد، فالمطلق لا يكره في وقت من الأوقات، ولا حالة من الحالات، إلا في حالة فضاء من البول والغائط والجماع، واختلف العلماء في كراهته في الحمام
= و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 207)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (59/ 55)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 201)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 406)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 176)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 119)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 151)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 187).
(1)
كتاب "اليواقيت في اللغة" للمطرزي أبي عمر محمد بن عبد الواحد المطرز، صاحب ثعلب، المتوفى سنة (345 هـ). انظر:"كشف الظنون"(2/ 2053).
(2)
انظر: "لسان العرب"(4/ 268)، (مادة: دبر)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 95 - 96)، وعنه أخذ المؤلف رحمه الله هذه المادة.
(3)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 142)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 90).
والمواضع النجسة، وقراءة القرآن أفضلُ من المطلق منه، والمقيدُ منه هو الذي ورد فيه نص خاصّ بزمان أو مكان أو حال، وهو أفضل من تلاوة القرآن، هكذا نص عليه العلماء، وإنما شرع هذا الذكر المخصوص عقيب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من معاني التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرًا مع خفة اللسان بالأذكار وقلتها، وإنما كان كذلك اعتبارًا بمدلولاتها؛ لأنها كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء.
وقوله: "منك" هو متعلق بينفع، وينفع مضمَّنٌ معنى يمنع، أو ما يقاربه، ولا يعود "منك" إلى الجد؛ فإن ذلك نافع.
وقوله: "عن قيلَ وقال" الأشهر فيه: قيلَ -بفتح اللام- على سبيل الحكاية، وهذا النهي لا بد فيه من التقييد بالكثرة التي لا يؤثر معها وقوع الخطل والخطأ، والسبب إلى وقوع المفاسد من غير يقين، والأخبار الباطلة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمعَ"(1)، وقال بعض السلف: لا يكون إمامًا من حدَّث بكل ما سمع (2).
وقوله: "وإضاعةِ المال"، فمعناه النهيُ عن إنفاقه في غير وجوهه المأذون فيها شرعًا، سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتُ تلك المصالح المأذون فيها، إما في حق مضيعها، أو في حق غيره، أما بذله وإنفاقه كثيرًا في تحصيل مصالح الآخرة، فهو مطلوب محثوثٌ عليه بشرط إلَّا يبطل حقًّا أخرويًّا أهمَّ منه، وقد قال السلف: لا سرفَ في الخير، ولا خيرَ في السرف (3)، وبذلُ المترفين من أهل
(1) رواه مسلم (5)، في المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود (4992)، كتاب: الأدب، باب: في التشديد في الكذب، عن حفص بن عاصم، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وهذا لفظ أبي داود.
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 109)، عن عبد الرحمن بن مهدي.
(3)
انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 454).
الدنيا وإنفاقُهم -غالبًا- إنما هو فيما لم يأذن فيه الشرع، فيقدمون حظوظ نفوسهم في الأموال على حقوق الله تعالى فيها، فيقع الهلاك بعد الإمهال من غير إهمال؛ لأن فعلهم عين الإضاعة، والله أعلم.
وأما إنفاق المال في مصالح الدنيا وملاذٍّ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدرِ ماله، فإن كان لضرورة مداواة، أو دفع مفسدة تترتب، فليس بإسراف، وإلا ففي كونه إسرافًا فيه وجهان: المشهور أنه إسراف، وصحح الرافعي في "المحرر"(1) الإسراف، ووجهه أنه يقوم مصالح البدن وملاذه، وهو غرض صحيح، لكنه يؤدي به الحال غالبًا إلى ارتكاب المحذور والذل، وما أدى إلى المحذور فهو محذور، وظاهر القرآن العظيم يقوي أنه إسراف في غير آي، والله أعلم.
قال شيخنا أبو الفتح رحمه الله: والأشهر في مثل هذا أنه يباح؛ أعني: إذا كان الإنفاق في غير معصية، وقد نوزع فيه (2).
وقوله: "وكثرة السؤال" فيه وجهان للعلماء:
أحدهما أنه راجع إلى الأمور العملية، وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وقال صلى الله عليه وسلم:"أعظمُ الناسِ جُرْمًا عندَ الله من سألَ عن شيء لم يُحَرَّمْ على المسلمين، فَحُرِّمَ عليهم من أجلِ مسألته"(3)، وفي حديث اللعان لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلًا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابها (4)، وفي حديث معاوية رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن
(1) كتاب: "المحرر في فروع الشافعية" للإمام أبي القاسم عبد الكريم أبي محمد الرافعي القزويني المتوفى سنة (623 هـ)، وهو كتاب معتبر مشهور بين الشافعية، وعليه شروح كثيرة. انظر:"كشف الظنون"(2/ 1612).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 91).
(3)
رواه مسلم (2358)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (1498)، كتاب: اللعان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الأغلوطات، وهي شِدادُ المسائل وصِعابُها (1)، وإنما كان ذلك مكروهًا؛ لما يتضمن كثيرًا من التكاليف في الدين، والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصلُ المنعُ من الحكم بالظن، إلا حيث تدعو الضرورة إليه، ومما دعت الضرورة إليه من ذلك جوازُ الاجتهاد في المياه، والأخذ بما غلب على الظن طهارتهُ، مع وجود الماء المتيقن طهارته، وكذلك الأخذُ بالأصل في طهارتها، وإن شك في نجاستها، وكذلك إلحاق الولد بالفراش؛ لتعذر اليقين فيه، وكذلك عدمُ الحكم بالعلم، والعملُ بالبينة استبراءً للعرض المحثوثِ عليه شرعًا.
وأما قول الشافعي رحمه الله: لولا قضاة السوء، لقلتُ بجواز الحكم بالعلم لما يقع الاشتباه بالقاضي المحق والمبطل، ولا يقع النقاد من العلماء في كل عصر، ولو وقع، قد تضعف نفوسهم عن إظهار الزيف، ولو أظهروا الحق، قد لا يجدون من يعينهم على إظهاره والعمل به، فمنع القول بجوازه سدًّا للتهمة في الدين والعرض عملًا تحضيض الشرع على ذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فمنِ اتقى الشُّبهاتِ استبرأَ لدينهِ وعرضِه"(2). وأمره صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر، وقطعه صلى الله عليه وسلم قطعةً من النار لمن حكم له بالظاهر الذي يخالف الباطن، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم تقبيح مسألة الناس، ولا شك أن لفظ الحديث يدل على النهي عن الكثرة في السؤال، لا عن السؤال مطلقًا، وهو عام في سؤال الله تعالى والناس، خرج سؤال الله تعالى بالأمر به، والحث عليه في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 435) والطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 389)، وفي "مسند الشاميين"(2108)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 299)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(29/ 46).
(2)
رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
فَضْلِهِ} [النساء: 32] وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألتَ فاسألِ الله"(1)، وهو مطلق، كثيره وقليله، ففي القليل من سؤال الناس لبعضهم، وفي حديث رواه أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض من سأله عن المسألة مرارًا، قال له في الثالثة:"فإنْ كنتَ لا بدَّ سائلًا، فاسألِ الصالحين"(2)، وإذا ثبت بعض سؤال بعض الناس، فلا شك أن بعضه ممنوع حيث يكون السائل غنيًّا لاحاجة به إلى ما سأل، ويُظهر الحاجة، وهو في الباطن بخلافها، أو يخبر السائل عن أمر هو كاذب فيه، وفي السنة ما يشهد باعتبار ظاهر الحال في هذا، وهو ما ثبت أن رجلًا من أهل الصُّفة مات وترك دينارين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كَيَّتان"(3)، وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنهم كانوا فقراء مجردين يتصدَّق عليهم، ويأخذون بناء على الفقر والعدم، وظهر معه هذان الديناران على خلاف ظاهر حاله.
والمنقول عن مذهب الشافعي جوازُ السؤال، لكن ذكر العلماء من أصحابه وغيرهم له شروطًا، وهي أنه لا يلحُّ في السؤال، ولا يذلُّ نفسه ذلًّا زائدًا على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسؤول، ثم ينظر في السؤال، إن كان في صورة لا يحرم من العلم أو المال، فإن كان في صورة تقتضي، "المنع منه تنزيهًا، فينبغي الامتناع من قليله وكثيره، لوان لم يقتض المنع منه، حمل النهي على الكثير من السؤال المباح دون قليله؛ لأن كراهتها في الكثير أشد، وليس في الحديث ما يدل إلا على الكثرة فقط، أو يحمل الحديث على السؤال عن كثرة السؤال عن المسائل المتعلقة بالدين، الحاملة على التنطُّع والتدقيق والتضييق فيه.
(1) رواه الترمذي (2516)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب:(59)، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 303)، والحاكم في "المستدرك"(6303)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود (1646)، كتاب: الزكاة، باب: في الاستعفاف، والنسائي (2587)، كتاب: الزكاة، باب: سؤال الصالحين، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 334)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 197)، عن الفراسي رضي الله عنه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 405)، وأبو يعلى في "مسنده"(4997)، وابن حبان في "صحيحه"(3263)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(6962)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ثم إن الحديث المذكور مراد بكثرة السؤال لنفسه فيما ذكر، فهل يكون السؤال لغيره حكمُه حكم نفسه في الكثرة والقلة، أو يمنع منه مطلقًا، أو يؤذن فيه مطلقًا؟ يختلف ذلك باختلاف المقاصد والنيات، وحال السائل والمسؤول، والله أعلم.
وقوله: "وكانَ ينهى عن عقوقِ الأُمهات" تخصيص النهي بالأمهات مع امتناعه في الآباء -أيضًا- لأجل كثرة حقوقهن وشدتها، ورجحان الأمر ببرِّهِنَّ وتكريره مرات دون الآباء، وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لعظم موقعه في الأمر إن كان مأمورًا [به]، وفي النهي إن كان منهيًا عنه، وقد يذكر في موضع آخر بالتنبيه بذكر الأدنى على الأعلى، فيخص الأدنى بالذكر، وذلك بحسب اختلاف المقصود، وقد يقع التنبيه بالأعلى على الأدنى.
وقوله: "ووَأدِ البنات" هو عبارة عن دفنهنَّ بالحياة، وخُصت البنات بالذكر دون الأبناء؛ لأنه كان هو الواقع، فتوجه النهي إليه، لا لأن الحكم مخصوص بالبنات.
وقوله: "ومَنْعٍ وهات" وهذا النهي راجع إلى السؤال الصحيح وغير الصحيح بالمنع والإعطاء، وحينئذ يحتمل وجهين:
أحدهما: النهي عن المنع حيث يؤمر بالإعطاء، وعن السؤال حيث يمنع منه، فيكون كل واحد منهما مخصوصًا بصورة غير صورة الآخر.
الثاني: أن يجمعا في صورة واحدة لا تعارض بينهما، فيكون وظيفة الطالب ووظيفة المعطي ألا يمنع إن وقع السؤال، وهذا لا بد أن يستثنى منه، أما إذا كان المطلوب محرمًا على الطالب، فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه؛ لكونه معينًا على الإثم، ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على الكثرة من السؤال، والعبارة الواضحة في ذلك النهيُ عن منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، والله أعلم.
وفي هذا الحديث دليل على: استحباب هذا الذكر عقيب الصلاة المكتوبة.