الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه: أَن رَجُلًا دَخَلَ المَسجِدَ يَومَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِم يَخْطُبُ، فَاستَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادعُ اللهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُم قَالَ: اللهم أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنَا، قَالَ أَنسٌ: وَلَا واللهِ! مَا نَرَى في السمَاء مِنْ سَحَاب وَلَا قَزَعَةٍ، وَما بيننَا وَبينَ سَلْع مِنْ بيتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِه سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السمَاءَ، انْتَشَرَتْ، ثُم أَمْطَرَتْ، قَالَ:[فلا] وَاللهِ! ما رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبلَةِ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَتِ اَلأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنا، قَالَ: فَرَفعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُم قَالَ: اللَّهُمَ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللهم عَلَى الآكامِ والظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَأقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي في الشَّمْسِ، قَالَ شريك: فَسَألْتُ أَنس بنَ مالكٍ: أَهُوَ الرَّجُل الأَولُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي (1).
الظراب: الجبال الصغار.
وأما أنس، فتقدم الكلام عليه.
وأما ألفاظه، وما يتعلق به:
فقوله: "إن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب نحو دار القضاء": أما دار القضاء، فهي دار بيعت في دَيْن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتبه على نفسه، وأوصى ابنَه عبدَ الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله، استعان ببني عدي، ثم بقريش، فباع ابنُه داره هذه لمعاوية، وماله بالغابةِ، فقضى دينه، وكان
(1) رواه البخاري (967)، كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، ومسلم (897)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء.
دينه ستة وثمانين ألفًا فيما رواه البخاري في "صحيحه"(1)، وغيرُه من أهل الحديث والسير والتواريخ وغيره.
وقال القاضي عياض: كان ثمانية وعشرين ألفًا، وهو غلط (2)، فكان يقال: دارُ قضاءِ دَيْنِ عمر، ثم اختصر، فقالوا: القضاء، وهي دار مروان، وقال بعضهم: هي دار الإمارة، وهو غلط؛ لأنه بلغه أنها دار مروان، فظن أن المراد بالقضاء الإمارة، والصواب ما ذكرنا، والله أعلم.
ودخول الرجل من باب كان نحو دار القضاء، وكلامُه للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على جواز كلام الداخل مع الخطيب في حال خطبته، ويحتمل أن يكون إنما كلمه في حال سكتة كانت من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما لاستراحة في النطق، وإما في حال الجلوس، والله أعلم.
وقوله: "ثم قالَ: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل": المراد بالأموال: الأموال الحيوانية؛ لأنها التي يؤثر فيها انقطاع الغيث من المطر وغيره، بخلاف الأموال الصامتة، والسبلُ: الطرق، وانقطاعُها إما بعدم المياه التي يعتاد المسافرون ورودها، وإما باشتغال الناس وشدة القحط عن الضرب في الأرض.
وقوله: "فادع الله يغثنا"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أغثنا" المشهور في اللغة أنه يقال في المطر: غاثَ اللهُ الناسَ والأرضَ، يَغيثهم -بفتح الياء- ثلاثي؛ أي: أنزل المطر، والذي في هذا الحديث وغيره من رواياته: أغثنا -بالألف-، ويغيثنا: -بضم الياء- من أغاث يُغيث، رباعي، لكن الهمزة فيه للتعدية، ومعناه: هب لنا غيثًا، وقال بعضهم: المذكور في الإغاثة بمعنى المعونة، وليس من طلب الغيث، إنما يقال في طلب الغيث: اللهم غِثْنا، قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث؛ أي: هبْ لنا غيثًا، وارزقنا غيثًا، كما يقال:
(1) رواه البخاري (3497)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة، والاتفاق على عثمان رضي الله عنه.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 191).
سَقاه الله وأسقاه؛ أي: جعل له سُقيا، على لغة من فرق بينهما، والصواب أن الهمزة فيه للتعدية كما ذكرنا، والله أعلم (1).
قوله: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهمَّ أَغثْنا" إلى آخره: لا شك أن السنة في دعاء الاستسقاء رفعُ اليدين فيه، وقد عداه بعضُهم إلى كل دعاء، وقالوا: السنةُ رفعُ اليدين في الدعاء مطلقًا، ومنهم من لم يعده، مستدلًا بما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وغيرهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتي يُرى بياض إبطيه (2)، ولا شك أن هذا مؤول على عدم الرفع البليغ؛ بحيث يُرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء، أو أن المراد: لم أره رفع، وقد رآه غيره، فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة، وهم جماعات، على واحد لم يحضر ذلك، وقد ورد في حديث آخر أنه: استثنى ثلاثة مواضع: الاستسقاء، والاستنصار، وعند رؤية البيت، وفي موضع آخر عشية عرفة.
وقد روى رفعَ اليدين في الدعاء جماعةٌ من الصحابة، وقد روى أنس حديثًا يعارض حديثَه هذا، وهو حديث القراء الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاله حَرامٌ، وفيه: فقال أنس: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلي الغداه رفع يديه يدعو عليهم (3)، وقد صنف الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذري في ذلك جزءًا رحمه الله، وقد جمع شيخنا أبو زكريا النواوي -قدس الله روحه ونور ضريحه- في "شرح المهذب" نحوًا من ثلاثين حديثًا من "الصحيحين"، أو
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 140)، "شرح مسلم" للنووي (6/ 191)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 174)، (مادة: غوث).
(2)
تقدم تخرجه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند" وأعوانه في "مسنده"(7343)، وعبد بن حميد في "مسنده"(1276)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3606)، وفي "المعجم الأوسط"(3793)، وفي "المعجم الصغير"(536)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 123)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 211).
أحدهما في رفع اليدين في الدعاء مطلقًا في أواخر باب: صفة الصلاة، منه (1)، والله أعلم.
قوله: "ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعة"، المراد بالسماء هنا: الفضاء المرتفع بين السماء والأرض، والسحابُ معروف، والقَزَعة -بفتح القاف والزاي- وهي: القطعةُ من السحاب، وجمعها قَزَع؛ كقصبة وقَصَب، قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون في الخريف، ومنه أخد القزع في الرأس، وهو: حلقُ بعضِ رأس الصبي وتركُ بعضه (2).
قوله: "وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار":
قوله: "من بيت ولا دار"هو تأكيد لقوله: وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة؛ لأنه أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع، فلو كان بينه وبينهم دار، لأمكن أن تكون السحابة والقزعة موجودة حال بينهم وبينها ما بينهم وبين سلع من دار لو كانت، وسَلْع -بفتح السين المهملة وسكون اللام-، وهو جبل بقرب المدينة من غربها (3)، والمقصود بهذا كله الإخبارُ عن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيمِ كرامته على الله سبحانه وتعالى بإنزال المطر سبعة أيام متوالية من غير تقدم سحاب ولا قزع ولا سبب آخر، لا ظاهر، ولا باطن، سوى سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نحن مشاهدون له صلى الله عليه وسلم ولسلع وللسماء، وليس هناك سبب للمطر أصلًا.
وقوله: "ثم أمطرت"، يقال: مَطَرت، وأَمطرت، في المطر، وهذا الحديث دليل لجواز أمطر -بالألف-، وهو المختار عند المحققين من أهل اللغة، وقال بعضهم: لا يقال: أمطرت -بالألف- إلا في العذاب؛ كقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، والمشهور الأول، ولفظة أمطرت: تطلق في الخير
(1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 469) وما بعدها.
(2)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 440).
(3)
انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (3/ 236).
والشر، وتعرف بالقرينة، قال الله تعالى:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، وهذا من أمطر، والمراد به: المطر في الخير؛ لأنهم ظنوه خيرًا، فقال الله تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ} (1)[الأحقاف: 24].
وقوله: "ما رأينا الشمس سبتًا"؛ أي: جمعة، وقد بين في رواية أخرى، والمراد به: سبعة أيام، أولها يوم الجمعة ويوم السبت، وآخرها يوم الخميس وبعض يوم الجمعة، وهو في اللغة: القطع، وبه سمي يوم السبت، وقال: بانت في تفسير قوله: سبتًا؛ أنه: القطعة من الزمان، يقال: سبت من الدهر؛ أي: قطعة منه، وسبتُّه: قطعته، وقد رواه الدارقطني: ستًّا، وفسره: ستة أيام من الدهر، وهو تصحيف، كذا قاله أبو العباس القرطبي: إنه تصحيف (2)، وهو الصحيح؛ من حيث إن الرواية فيه سبتًا -بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وبالتاء المثناة فوق- أما من حيث معنى السبت في العدد، فهو صحيح؛ فإنهم ما رأوا الشمس سبعة أيام كوامل، بل ستًا كوامل وبعض يومي جمعة، وذلك لا يطلق عليه يوم كامل، والله أعلم.
وقوله في الجمعة الثانية: "هلكت الأموال، وانقطعت السبل"؛ أي: بكثرة المطر فإن إمساك المطر وكثرته مُضرٌّ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا": هو ظرف معلق بمحذوف تقديره: اللهم أنزل حوالينا، ولا تنزل علينا، ويقال: حولنا، وحوالينا، وهما روايتان صحيحتان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم على الآكام والظَّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر": سأل صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى ذلك أدبًا معه؛ حيث لم يسأل رفعه من أصله، بل سأل رفعَ ضرر المطر، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق؛ بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، وسأله بقاءه في مواضع الحاجة؛ بحيث يبقى
(1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 179)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 261)، (مادة: مطر)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 192).
(2)
انظر: "المُفهم" للقرطبي (2/ 543).
نفعه وخصبه، وهي بطون الأودية وغيرها من المواضع المذكورة.
والإكام -بكسر الهمزة، ويقال: بفتحها مع المد فيها-: جمع أكمة، ويقال: جمع أَكَم -بفتح الهمزة والكاف-، وأُكُم -بضمهما- والذي يقتضيه القياس أن يكون الأكم والأكمات جع الأكمة، أما الأكُم بضمهما فيقتضي أن يكون جمع الإكام؛ مثل كِتاب وكُتُب، وقد يكون ذلك جمع أكم -بفتحهما- مثل جبال وجبل، وهو التل المرتفع من الأرض، دون الجبل، وأعلى من الرابية، وقيل: دون الرابية.
والظِّراب -بكسر الظاء المعجمة-: جمع ظَرِب -بفتحها وكسر الراء-، وهي الروابي الصغار (1).
وقوله: "فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري"، وثبت في "صحيح البخاري" وغيره في بعض طرق هذا الحديث أنه الرجل الأول.
وفي هذا أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأحكام:
منها: استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء والاستصحاء، وعظيم قدره وحرمته عند ربه سبحانه وتعالى حتى أمطرت في الاستسقاء عقب دعائه أو معه، وحتى أمسكت في الاستصحاء حتى خرجوا يمشون في الشمس.
ومنها: أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه وتعالى حيث لم يسأل ربه سبحانه وتعالى رفعَ المطر، بل سأل دوامه حيث ينتفع به.
ومنها: استحباب سؤال الإمام الاستسقاء والاستصحاء.
ومنها: استحباب ذلك في خطبة الجمعة، وهو أحد الأنواع فيه كما تقدم ذكره.
ومنها: جواز الاستسقاء منفردًا عن الصلاة المخصوصة له، واغترت به الحنفية، وقالوا: هذا هو الاستسقاء المشروع لا غير، وجعلوا الاستسقاء بالبروز
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 30)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 543)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 193)، و"القاموس" للفيروزأبادي (ص: 1391)، (مادة: أكم).
إلى الصحراء والصلاة بدعةً، وليس كما قالوا، بل هو سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الأول وغيره من الأحاديث الصحيحة، وقد ذكرنا أنه ثلاثة أنواع، وفيما قالوه إبطال نوع ثابت، والله أعلم.
ومنها: استحباب تكرير الدعاء ثلاثًا، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دعا بدعوة، دعا بها ثلاثًا.
ومنها: استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به، وهو الاستصحاء، ولكن لا تشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء.
ومنها: إجابة الإمام الرعية إذا سألوه في مصالحهم الدنيوية والأخروية، خصوصًا إذا كانت مصلحة عامة.
ومنها: الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع في جميع حالات العبد وما ينزل به.
ومنها: الاستعانة في ذلك بالصالحين وأهل الخير في المجامع والمساجد والأماكن الشريفة.
ومنها: استقبال القبلة في الدعاء.
ومنها: الدعاء قائمًا للإمام ومن في معناه.
ومنها: رفع اليدين فيه.
ومنها: الدعاء في الخطبة وقطعها للأمر يحدث.
ومنها: الاعتبار بعظيم قدرة الله تعالى وما يجريه على يدي أنبيائه ورسله من المعجزات، وعلى يدي أوليائه من الكرامات.
ومنها: الاقتداء بهم في جميع ذلك كما فعل الصحابة والتابعون والسلف الصالحون وهلم جَرًّا إلى اليوم، والله تعالى أعلم.
* * *