الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين جعلوا اختلاف الروايات بحسب الانجلاء جعلوا ذلك سنة صلاة الكسوف، لا أن يكون سنتها أن يكون هيئتها منوية من أولها، فيكون الفعل مبينًا لنسبة هذه الصلاة، وعلى مذهب من جعلها ركعتين، كانهم أرادوا أن يخرجوا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة عن المشروعية مع مخالفتهم للقياس في زيادة ما ليس من الأفعال المشروعة، في الصلاة.
وقال إسحاق بن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم من العلماء: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلاف صفاتها محمولٌ على بيان جواز جميعها، فتجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهذا قوي، والله أعلم.
الثامن: جواز إطلاق لفظ الركعات على نفس الركوع.
التاسع: تقدم الإمام على المأمومين.
العاشر: أن يكون إحرام الإمام وتكبيره عقبَ كونه في مصلاه.
الحادي عشر: استحباب بعث الإمام من ينادي بصلاة الكسوف، وكذلك ينبغي أن يفعل في كل صلاة شرعت لها الجماعة.
الثاني عشر: نُقِل فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند تغير الأحوال والأزمنة إلى أمته للاقتداء والعمل، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ أَبي مَسعودٍ عُقْبةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِي البَدْرِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بهمَا عِبَادَهُ، وإنَّهُمَا لا يَنكسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإذَا رَأَيْتُم مِنْهَا شَيئًا، فَصَلوَا، وادْعُوا حَتَّى يَنكشِفَ مَا بِكُمْ"(1).
(1) رواه البخاري (994)، كتاب: الكسوف، باب: الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم (911)، =
أما أبو مسعود الأنصاري، فتقدم ذكره.
واعلم أن كسوف القمر كان في جمادى الَاخرة السنة الخامسة من هجرته صلى الله عليه وسلم[إلى] المدينة فيما ذكره أبو حاتم بن حبان رحمه الله في "تاريخه"، قال رحمه الله: فجعلت اليهود يرمونه بالشهب، ويضربون بالطاس، ويقولون: سحر القمر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف، هذا آخر كلامه.
قلت: فثبت بما ذكره أن الضرب على الطاس ونحوه عند كسوف القمر من فعل اليهود، فينبغي أن يُجتنب؛ لعموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن التشبُّه بالكفار، وأمرِه صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود.
وأما كسوف الشمس، فكان في سنة ست من الهجرة، وبعد رجوعهم من سرية إلى العمر وقبل سرية إلى ذي الفضة، ثم كان بعد ذلك في سنة عشر من الهجرة، يقال: إنه كان يوم مات إبراهيم يوم عاشوراء، ولا يصح؛ فإن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وعاش ستة عشر شهرًا، وكان من مارية القبطية، هكذا ذكره ابن حبان الحافظ (1)، وأما القضاعي، فقال: ولد سنة ثمان من الهجرة، ومات وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام، وعلى كلا القولين لا يصح موته يوم عاشوراء نقلًا، ولا يصح -أيضًا- في اصطلاح أرباب تسيير الكواكب، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، معناهما: أنهما علامتان دالتان على عظم قدرة الله تعالى وقهره، وكمال إلهيته، وإنما خصهما بالذكر؛ لما وقع للجاهلية من أنهما لا يخسفان إلا لموت عظيم، وهذا لا يصدر إلا ممن لا علمَ له، ضعيفِ العقل، مختلِّ الفهم، فرد صلى الله عليه وسلم جهالتهم، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم بالمعنى الذي لأجله ينكسفان، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يخوف الله بهما عباده"؛ أي: إنه ينبغي للعباد الخوف عند وقوع
= كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، وهذا لفظ مسلم.
(1)
انظر: "الثقات" لابن حبان (1/ 261).
التغيرات العلوية، فإن قيل: وأي تخويف في ذلك؟ والكسوف أمرٌ عادي بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما يقابله من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويف، فيكون لكسوف الشمس والقمر أسبابٌ عادية يخرج كسوفهما عن التخويف، فينافي التخويف المذكور في الحديث، وذلك فاسد؛ فإنا لا نسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك بالعقل أم بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة تطرأ، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا:[إن] ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية يفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع إفضاء ما ذكروه إلى القطع، وهو أول المسألة، ولئن سلمنا ذلك جدلًا، لكنا نقول: يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة: أوضحها: أن ذلك مذكر بالكسوفاتِ التي تقع بين يدي الساعة، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا وقد قال تعالى:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7، 8، 9]، قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما، وقيل غير ذلك.
و-أيضًا- فإن كل ما في العالم علويِّه وسفليِّه دليل على تفرد قدرة الله تعالى وتمام قهره باستغنائه وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته؛ كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فأصحاب المراقبة له ولأفعاله سبحانه وتعالى الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعظيم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها، إذا وقع عندهم شيء غريب، حدث عندهم الخوف؛ لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى على ما يشاء، وذلك لا يمنع أن يكون ثم أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عافى، وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة، فيكون لله تعالى أفعال خارجة عن كل الأسباب، وأفعال خارجة على الأسباب، وقدرته سبحانه وتعالى حاكمة على كل سبب، فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض.
وخص هنا خسوفهما بالتخويف؛ لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان، والنادر العظيم مُخيف موجع، بخلاف ما كثر وقوعهُ؛ فإنه لا يحصل منه ذلك غالبا، و -أيضًا- فلما وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدها، ولما وقع من اعتقاد تأثيرهما حتى قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام ردًّا عليهم، والحكمة في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ينكسفان لموت أحد من الناس": أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظِّمون الشمسَ والقمر، ويقولون: انخسفا لموت العظماء؛ لعظمهما عندهم، فبين صلى الله عليه وسلم أنهما مخلوقان، لا صنع لهما؛ كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغيير كغيرهما، وكان بعض الضلال من المنجمين وغيرهم يقولون: لا ينكسفان إلا لموت عظيم، حتى قالوا عند مصادفة موت إبراهيم رضي الله عنه، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا باطل -أيضًا-؛ لئلا يغتر أحد بأقوالهم، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم منها شيئًا، فصلُوا وادعوا حتى ينكشفَ ما بكم" معناه: بادروا بالصلاة والدعاء، وأسرعوا إليهما حتى يزول هذا العارض الذي يخاف كونه مقدمةَ عذاب أو وجود عذاب، ولا شك أن الله عز وجل امتنَّ على البشر بالشمس والقمر ونورهما، ووصف القمر بالنور، والشمسَ بالسراج، فإذا زال ذلك، أو تغير، فهو عذابٌ حاضر، سواء عاد نورهما، أم لم يعد، لكن عدم عودهما أشدُّ عذابًا؛ لما يدل على قرب الساعة وأهوالها، فالإسراعُ إلى الصلاة والدعاء سببٌ لرفع البلاء غالبا، وفي أمره بالصلاةُ والدعاء جميعا ما يدل على أن المراد بالصلاة: الصلاة المشروعة للكسوف؛ لجمعه في الأمر بينهما، فلو كان المراد بالصلاة: الدعاء الذي به سميت الصلاة، لما حسن ذلك، فدل على ما ذكرنا، وإذا كان كذلك، فيقتضي الأمر بهما أن تكون غاية فعلهما إلى الانجلاء.
قال الفقهاء: إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المشروع، ولم يقع الانجلاء: إنها لا تصلى ثانيًا، بخلاف صلاة الاستسقاء؛ فإنهم إذا لم يُسْقَوا، صَلَّوا ثانيًا وثالثًا.
وقال شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله: وليس في هذا الحديث ما يدل