الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه: تحريم إفساد المال، أو تنقيصه، خصوصًا عند السخط والجزع.
وفيه: تحريم تعاطي ما كانت الجاهلية تفعله؛ لأنه إذا حرم مثل ما ذكر عند المصائب، مع أن فاعل ذلك كالمكره عليه طبعًا، فغيره من الأمور الاختياريات من فعلهم الذي يقرر الشرع عدم فعلها بالتحريم أولى، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع عشر
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَان"؛ قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ". ولِمسلمٍ: "أَصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ"(1).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراطٌ"، فالقيراط: اسم لمقدار معلوم في العرف، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، وقد يراد به الجزء مطلقًا، ويكون عبارة عن الحظ والنصيب، فيكون تمثيلًا لجزء من الأجر، ومقدارٍ منه، ألا ترى أنه قال: مثل الجبلين العظيمين، أو مثل أحد؟ وهذا من مجاز التشبيه؛ تشبيهًا للمعنى العظيم بالجسم العظيم، والمقصود من الحديث: أن من صلى على جنازة، فله أجر عظيم من الثواب والأجر، فإن صلى عليها واتبعها حتى تدفن، كان له حظان عظيمان من ذلك؛ إذ قد عمل عملين: أحدهما: صلاته، والثاني: كونه معه إلى أن يدفن، ولا يلزم من هذا أن يكون هذا القيراط هو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:"من اقتنى كلبًا إلَّا كلبَ صيدٍ أو زَرْع أو ماشيةٍ، نقصَ من أجره كلَّ يومٍ قيراطٌ"(2)، وفي رواية:"قيراطان"(3)، بل ذلك
(1) رواه البخاري (1261)، كتاب: الجنائز، باب: من انتظر حتى تدفن، ومسلم (945)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.
(2)
رواه البخاري (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ومسلم (1575)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (5164)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو =
قدر معلوم يجوز أن يكون مثل هذا وأقل وأكثر، فإن قيل: في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن شهدَها حتى تدفن، فله قيراطان" ما يقتضي أن القيراطين يحصلان بشهودها ودفنها، أحدهما: بالشهود، وهو اتباعها، والثاني: بدفنها، فيكون حينئذٍ له بالصلاة والاتباع والدفن ثلاثة قراريط، قلنا: هذا مردود بما ثبت في "صحيح البخاري" في أوائل كتاب الإيمان منه، وهو: أن القيراط الثاني على مجموع الشهود والدفن، ولا يحصل بهما قيراطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من شهدَ جنازةَ وكانَ معها حتى يصلَّى عليها، ويفرغَ من دفنها، رجعَ من الأجر بقيراطين"(1)، وهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان، وقد سبق مثل هذا في باب المواقيت في حديث:"مَنْ صلَّى العشاءَ في جماعة، فكأنَّما قامَ نصفَ الليل، ومن صَلَّى العشاءَ والصُّبحَ في جماعة، فكأنَّما قامَ الليلَ كلَّه"(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تدفن"، وفي رواية في "صحيح البخاري ومسلم":"حتى يُفْرَغَ من دفنِها"(3) دليلٌ على أن القيراط الثاني لا يحصل إلَّا لمن دام معها من حين صَلَّى إلى أن فرغ من دفنها، وهذا الصحيح عند أصحاب الشافعي، وقال بعض أصحابه: يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللَّبِنِ، وإن لم يُلْق عليه التراب، وفي وجه لهم: أنه يحصل بمجرد الوضع في اللَّحد، وإن لم يلق عليه التراب، والله أعلم.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلَّى عليها" ما يؤذِنُ بما ورد في
= ماشية، ومسلم (1574)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(1)
رواه البخاري (47)، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان.
(2)
رواه مسلم (656)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه.
بعض الروايات، وهو اتباعها من عند أهلها، وأن المراد: شهودها حتى يصلَّى عليها، ولا شك أن من صلى عليها مجردًا، حصل له قيراط، لكن قيراط من شهدها من عند أهلها حتى صُلِّي عليها أكملُ، وكذلك قيراطُ من تبعها حتى يُفرغ من دفنها أكملُ ممن حضر الدفن والفراغ منه دون الاتباع، والله أعلم.
وفي هذا الحديث: استحباب شهود الميت من حين غسله وتكفينه واتباعه، والصلاة عليه إلى حين يفرغ من دفنه، ولا شك أن النفوس لما كانت لاهية بالحياة الدنيا وزينتها، شُرع لها ما يلهيها عن ذلك بشهود الجنائز، ورُغبت في ذلك بالأجور والثواب؛ ليكون أتقى لها وأزكى، وأبعد لها عما اشتغلت به، فينبغي أن تستعمل في ذلك كله الآداب الشرعية؛ من السكينة والوقار، وعدم الجبرية والاستكبار، والحديثِ فيما يلهي عن ذلك من المحظورات والمباحات شرعًا في ظاهره وباطنه، ولا يغفل عما يجب عليه في ذلك كله، والله أعلم.
وفيه: وجوب الصلاة على الميت، ودفنه.
وفيه: التحضيض على الاجتماع لهما.
وفيه: التنبيه على عظيم فضل الله تعالى فيما شرعه للنفوس، وما رتبه من الأجور على ما شرعه لها لمصلحتها الدنيوية والأخروية.
وفيه: أداء حقوق الموتى بالصلاة والتشييع وحضور الدفن.
وفيه: التنبيه على ما الإنسان صائر إليه ومشاهدته؛ ليعلم أنه راجع إلى الله تعالى، ومتصرف فيه، لا يملك لنفسه موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فلا تكثر التبعات عليه، ويأخذ نفسه بالعزائم وعدم الراحات؛ ليجدها يوم فقره وفاقته، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتبعَ نفسَه هواها، وتمنى على الله، والله أعلمُ بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *