الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما شاكل ذلك، فأما ما كان منه خشية لله تعالى، وخوفًا، فهو شعار عباد الله العارفين، وهو جلاء للقلوب، وتطهير للذنوب، وتقريب من علام الغيوب، وقد يغلب على الفاجر البكاء كما ورد في بعض الأحاديث مرفوعًا وموقوفا:"إذا كَمُلَ فُجورُ الرجلِ مَلَكَ عينيهِ، فإذا أراد أن يبكي، بكى"(1)، وقد يقع البكاء على أمر نفساني، فيتوهم أنه من خشية الله تعالى، فليتفطن لذلك؛ ليقطع ويجتنب، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ أَبي [مُوسَى]رضي الله عنه قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أن تكونَ السَّاعَةُ حَتى أتى المَسْجِدَ، فَقَامَ، فَصَلَّى بأطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهَ في صلَاةٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ:"إن هَذه الآيَاتِ التي يُرْسِلُهَا اللهُ لَا تكونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِن اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائه وَاسْتِغْفَاره"(2).
أما أبو موسى، فتقدم ذكره، وأن اسمه: عبد الله بن قيس بن سليم بن حصار الأشعري، وتقدم الكلام على معظم هذا الحديث قبله، فإن ذلك جميعه دليل على جواز استعمال الخسوف في الشمس، وهي لغة صحيحة ثابتة كما تقدم.
وقوله: "فقام فزعًا يخشى أن تكونَ الساعة".
قد استشكل ذلك من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة لا بد من وقوعها، ولم
(1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(4/ 150)، عن عقبة بن عامر مرفوعًا، ومن طريقه رواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 819).
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 72)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(953)، عن سفيان الثوري.
ورواه ابن المبارك في "الزهد"(ص: 42)، عن شعيب الجُبَّائي.
(2)
رواه البخاري (1010)، كتاب: الكسوف، باب: الذكر في الكسوف، ومسلم (912)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة.
تقع؛ كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار، والدجال، وقتال الترك، وأشياء كثيرة لا بد من وقوعها قبل الساعة؛ كفتوح الشام والعراق ومصر وغيرها، وإنفاق كنوز كسرى في سبيل الله، وقتال الخوارج، وغير ذلك من الأمور المشهورة في الأحاديث، وأجيب عنه بأجوبة:
أحدها: لعل هذا الكسوف قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور.
وثانيها: لعله خشي أن يكون ذلك بعض مقدماتها.
وثالثها: إن قيامه صلى الله عليه وسلم فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة إما هو ظن من الراوي لما رآه خرج إلى الصلاة مستعجلًا مبادرًا إليها؛ لا أنه صلى الله عليه وسلم خشي ذلك حقيقة، ولعله صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون الكسوف نوعَ عقوبة؛ لخوفه عند هبوب الريح أن يكون عذابًا، فظن الراوي خلاف ذلك، ولا اعتبار بظنه، وذلك دليل على دوام مراقبته صلى الله عليه وسلم لفعل الله تعالى، وتجريد الأسباب العادية عن إيجادها لمسبباتها.
وفي الحديث أحكام:
منها: أن السنة في صلاة الكسوف أن تكون في المسجد الجامع، وهو المشهور من مذاهب العلماء، قال أصحاب الشافعي: وإنما لم يخرج إلى المصلى خوفًا من فواتها بالانجلاء؛ فإن السنة المبادرة إليها، وخيَّر بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، وهو خلاف الصواب، والمشهور لانتهاء فعل الصلاة بالانجلاء، وهو مقتض لأن يعتني بمعرفته، ويراقب حال الشمس، ولولا أن المسجد أرجح، لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضًا فإنه يخاف من اجتماع الناس في المصلى فوات إقامتها كما ذكره الشافعيون، والله أعلم.
ومنها: جواز الإخبار بما يوجب الظن من شاهد الحال، وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك؛ فإن إخباره أنه قام فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة محتمل له ولغيره.
ومنها: الدوام على مراقبة الله تعالى، وطاعته، والخوف منه؛ بحيث لا يخرجه الخوف إلى اليأس من رحمته.
ومنها: تطويل الركوع والسجود، وتقدمَ الكلامُ عليه في الحديث قبله.
ومنها: شرعية صلاة الكسوف للنساء والمسافرين وكل واحد؛ فإنه وإن كان الخطاب للذكور؛ بقوله: "فافزعوا إلى الصلاة" في الحديث قبله والدعاء والذكر والاستغفار والصدقة وغير ذلك، فالنساء مندرجات فيه كما في قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، و {كُتِبَ عَليكُمُ اَلصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وغير ذلك من خطاب التعبدات العامة، فإنهن داخلات فيها باتفاق.
وكونها مشروعة للنساء وغيرهن هو مذهب الشافعي، ومشهور مذهب مالك، وروي عن مالك -أيضًا-: أن المخاطب بها من يخاطب بالجمعة، فيخرج منها النساء والمسافرون ونحوهم، وذهب الكوفيون إلى أنهن يصلين أفذاذًا لا جماعة، وقد صح حضورهن لها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أنهن مخاطبات بها في جماعة.
ومنها: شرعية الدعاء والذكر والاستغفار عند الكسوف، ولا شك أن كل واحد من المذكورات عبادة مستقلة مطلوبة في جميع الحالات والآنات، سواء كان أمر مخوف، أم لا، لكنه آكد في المخوف، والله أعلم.
فالدعاء والذكر والاستغفار مشروع لمزيد الخيرات واستدفاع المكروهات.
* * *