الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتارة بالمعاني، وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة رحمه الله توافق الأصول في أن قضاء الطائفتين بعد سلام الإمام، وأما ما اختاره الشافعي، ففيه قضاء الطائفتين معًا قبل سلام الإمام، والله أعلم.
الحديث الثاني
عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلاةَ الخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِم، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِم (1).
الَّذِي صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ.
أما يزيدُ بن رومان، فكنيته: أبو روح، وهو أسدي قرشي، مولاهم، كان مولى الزبير بن العوام، معدود في المدنيين، تابعي، روى عن عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وجماعة من التابعين، عالم، كثير الحديث، ثقة، روى عنه الزهري، وهشام بن عروة، وخلق سواهم من الأئمة والثقات، مات سنة ثلاثين ومئة، روى له البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمساند.
وأبوه: رومان -بضم الراء-، وحكي في اسم رومان: فتحُ الراء مطلقًا، وهو شاذ (2).
وأما صالح بن خوات بن جبير، فهو أنصاري، مدني، تابعي، ثقة، روى له
(1) رواه البخاري (3900)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.
(2)
وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 331)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 260)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 615)، و"تهذيب الكمال" للمزي (32/ 122)، و"الكاشف" للذهبي (2/ 382)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 284).
البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمساند، وخَوَّات -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو، ثم ألف، ثم تاء مثناة-، وهو ابن جبير بن النعمان، له صحبة، وكان أحد فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مشابه، والله أعلم (1).
وأما: سهل بن أبي حثمة، فكنيته: أبو يحيى.
ويقال: أبو محمد.
وقيل: أبو عبد الرحمن، وأبو حَثْمَة -بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة، ثم الميم المفتوحة، ثم تاء التأنيث-، واسمه: عبد الله بن ساعدة.
وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي بن خيثم بن مجدعة بن حارثة ابن الحارثِ بنِ الخزرجِ بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأنصاريُّ، المدينيُّ، مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة أحاديث، روى عنه جماعة من التابعين، منهم: ابن شهاب الزهري.
وقيل: لم يسمع منه، وروى له أصحاب السنن والمساند، وذكر ابن [أبي] حاتم الرازي: أنه سمع رجلًا من ولده يقول: كان ممن بايع تحت الشجرة، وكان دليلَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد، وشهد ما بعدها من المشاهد، قال ابن الأثير في "معرفة الصحابة" له، وقول الواقدي أصح؛ يعني: موت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، قال: وتوفي في أول أيام معاوية، وحديثه في صلاة الخوف صحيح مشهور (2).
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 259)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 276)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 399)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 372)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 237)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 35)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 339).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 304)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 97)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 200)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 169)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 661)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 570)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 177)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (3/ 195).
وأما غزوة ذات الرقاع، فكانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد، سميت ذات الرقاع؛ لأن أقدام المسلمين تعبت من الحفا، فلفوا عليها الخرق، هكذا ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (1).
وقيل: سميت به بجبل هناك يقال له: الرقاع؛ لأن فيه بياضًا وحمرة وسوادًا.
وقيل: سميت بشجرة يقال لها: ذات الرقاع.
وقيل: لأن المسلمين رقعوا راياتهم فيها.
وقيل: يحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها، وشرعت صلاة الخوف فيها، وقيل: في غزوة بني النضير، وتقدم ذكرنا لسبب نزول آية صلاة الخوف أول الباب، وأنه كان في عسفان سنة ست، والله أعلم.
وأما الطائفة: فهي الفرقة والقطعة من الشيء، تقع على القليل والكثير، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون الطائفة في صلاة الخوف أقلَّ من ثلاثة، فينبغي أن تكون الطائفة التي تكون مع الإمام ثلاثة فأكثر، والذين في وجه العدو كذلك، واستدل بقوله تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] إلى آخر الآية، فأعاد على كل طائفة ضمير الجمع، وأقل الجمع ثلاثة على المشهور، والله أعلم.
وقوله: "وطائفة وجاه العدو" وهو -بكسر الواو وضمها-، يقال: وِجاهه ووُجاهه وتُجاهه؛ أي: قبالته.
واعلم أن هذا الحديث اشتمل على أمرين مخالفين للصلاة المفعولة في الأمن: وهو جوازها إلى غير القبلة إذا كان العدو في غير جهتها.
الثاني: انتظار الإمام قائمًا الطائفةَ الثانيةَ في الركعة الثانية ليصلوها ثم يسلموا جميعًا، وهذا في الصلاة الثانائية مقصورة كانت أو بأصل الشرع، وهذا مختار الشافعي، أما الرباعية: فهل ينتظرها قائمًا في الثالثة أو قبل قيامه؟ فيه اختلاف
(1) رواه البخاري (3899)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1816)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذات الرقاع.
للفقهاء، وإذا قيل بأنه ينتظرها قبل قيامه، فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهُّدِه عند رفع رأسه من السجود، أو بعد التشهد؟ اختلف الفقهاء فيه، وليس في الحديث دلالة على أحد المذهبين، وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه.
قال: شيخنا القاضي أبو الفتح -رحمه الله تعالى-: ومقتضى الحديث -أيضًا- أن الطائفة الأولى تتم لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام، وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة، لكنه فيها ترجيح من جهة المعنى؛ لأنها إذا قضت وتوجهت إلى نحو العدو، وتوجهت فارغة من الشغل بالصلاة، وتوفر مقصود صلاة الخوف، وهو الحراسة على الصفة التي اختارها أبو حنيفة بتوجيه الطائفة للحراسة، مع كونها في الصلاة، فلا يتوفر المقصود من الحراسة، وربما أدى إلى أن يقع في الصلاة الضرب والطعن وغير ذلك من منافيات الصلاة، ولو وقع في هذه الصورة، لكان خارج الصلاة، وليس بمحذور، ومقتضى الحديث -أيضًا-: أن الطائفة الثانية تتم لنفسها قبل فراغ الإمام، وفيه ما في الأول، ومقتضاه -أيضًا-: أنه يثبت حتى تتم لنفسها ويسلم بهم، وهذا اختيار الشافعي، وقول في مذهب مالك، ثم ظاهر مذهب مالك أن الإمام يسلم، وتقضي الثانية بعد سلامه، وربما ادعى بعضهم أن ظاهر القرآن يدل على أن الإمام ينتظرهم ليسلم بهم؛ بناء على أنه فهم من قوله:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]؛ أي: بقية الصلاة التي بقيت للإمام، فإذا سلم الإمام بهم، فقد صلوا معه البقية، وإذا سلم قبلهم، لم يصلوا معه البقية؛ لأن السلام من البقية، وليس بالقوي الظهور، وقد يتعلق بلفظ الراوي من يرى أن السلام ليس من الصلاة من حيث إنه قال: فصلى بهم الركعة التي بقيت، فجعلهم مصلين معه بما يسمى ركعة، ثم أتى بلفظه، ثم ثبت جالسًا، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم، فجعل لفظ السلام متراخيًا عن مسمى الركعة، إلا أنه ظاهر ضعيف، وأقوى منه في الدلالة ما دل على أن السلام من الصلاة، والعملُ بأقوى الدليلين متعين، هذا آخر كلامه -رحمه الله تعالى- (1).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 154).