الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وإن أريد بسرر شهر شعبان أوله، على ما ذكره بعضهم أن سرر الشهر: أوله، فلا تعارض بين الحديثين -أيضًا-، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَقْدُرُوا لَهُ"(1).
قوله: "فإن غُمَّ عليكم" معناه: حالَ بينكم وبينه غيمٌ، يقال: غُمَّ وأُغْمِيَ وغُمِّي وغُمِيَ -بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما-، ويقال: غَبِي -بفتح الغين وكسر الباء-، وكلها لغات صحيحة، وقد غامت السماء وغَيَّمت وأَغامت وتَغيَّمت وأغتمت (2).
وقوله: "فاقدروا له" قال أهل اللغة: يقال: قدرتُ الشيء أقدُرُه وأقدِرُه وقَدَرْته وأقدرْتُه بمعنى واحد، وهو من التقدير (3)، ومنه قوله تعالى:{فَقَدَرنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، واختلف العلماء في معناه في الحديث، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور السلف والخلف: معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا، وتؤيده الروايات:"فعدوا ثلاثين"، "فاقدروا ثلاثين"، "فصوموا ثلاثين يومًا"، "فأكملوا العدد"، كل ذلك في "صحيح مسلم"(4)، وفي رواية
(1) رواه البخاري (1801)، كتاب: الصوم، باب: هل يقال: رمضان أو شهر رمضان؛ ومن رأى كله واسعًا، ومسلم (1080)، (2/ 760)، كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال.
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 135)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 388)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 186).
(3)
انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 254)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 186)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 77)، (مادة: قدر).
(4)
رواه مسلم (1081)، (2/ 762)، كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال.
للبخاري: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"(1)، وقال أحمد بن حنبل وطائفة: معناه: ضيقوا له؛ أي: قدروه تحت السحاب، ولهذا جوز صوم ليلة الغيم عن رمضان.
لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "فصوموا ثلاثين، وأكملوا عدة شعبان ثلاثين" يدلان على عدم التقدير لشعبان دون رمضان، ولا عكسه، بل لهما، فالتخصيص بأحدهما من غير مخصص خلف.
وقال ابن مطرف بن عبد الله، وابن سريج، وابن قتيبة، وآخرون من المالكية وغيرهم: معناه: قدروه بحساب المنازل الَّذي يراه المنجمون، وهو ضعيف جدًّا؛ لأن الناس لو كلفوا به، ضاق عليهم؛ فإن ذلك لا يعرفه إلا أفراد الناس، والشرع إنما يعرف إليهم بما يعرفه جماهيرهم.
قال شيخنا القاضي أبو الفتح بنُ دقيق العيد رحمه الله لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين؛ فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع؛ كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤيا مشترطة في اللزوم؛ فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم أن اليوم من رمضان، وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال، ولا أخبره من رآه، هذا آخر كلامه، والله أعلم (2).
وفي هذا الحديث فوائد:
منها: دلالة على تعليق الحكم بالرؤية، ولا يراد بها رؤية كل فرد من الأفراد، بل مطلق الرؤية، أما في أول شهر رمضان، فتكفي رؤية عدل -على
(1) رواه البخاري (1810)، كاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا".
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 206).
أصح الوجهين- لجميع الناس، وأما في الفطر، فلا بد من رؤية عدلين، عند جميع العلماء، وقال أبو ثور: يجوز الفطر برؤية عدل -أيضًا-.
ومنها: وجوب الصوم والفطر على منفرد رأى الهلال في رمضان أو شوال، لكن قال العلماء: يفطر سرًّا؛ لئلا يساء الظن به.
ومنها: أنه لا يجوز صوم الشك، ولا صوم يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم، وقد روى أبو داود بإسناد كلُّ رجاله محتجٌّ بهم في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصومه لرؤية رمضان، فإن غم عليه، عد ثلاثين يومًا، ثم صام، ورواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح (1).
ومنها: أنه قد يستدل به على أن حكم الرؤية ببلد لا يتعدى إلى بلد آخر؛ لأنه إذا فرض أنه رُئي الهلال ببلد في ليلة، ولم ير في تلك الليلة بآخر، فيكمل ثلاثين يومًا لرؤية الأولى، ولم ير بالبلد الآخر، فهل يفطرون أم لا؟ فمن قال: يتعدى الحكم على أحد الوجهين في المسألة، لم يجز لهم الإفطار، وقد وقعت المسألة في زمان ابن عباس، وقال: لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام، وهو قوله:"أفطروا لرؤيته"، أو لأنه شهادة واحد لم يثبت به إلا حديثًا خاصًّا بهذه المسألة، وهو الظاهر، والله أعلم.
ومنها: أنه استدل لمن قال بالعمل بالحساب في الصوم بقوله: "فاقدروا له"؛ حيث إنه أمر يقتضي التقدير، وتأوله غيرهم بأن المراد كمال العدد ثلاثين كما بيناه، والله أعلم.
(1) رواه أبو داود (2325)، كتاب: الصوم، باب: إذا أغمي الشهر، والدارقطني في:"سننه"(2/ 156)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 149)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1910)، وابن حبان في "صحيحه"(3444)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 206)، وهذا لفظ أبي داود.