الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يَلْبسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّياب
الحديث الأوَّل
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ: "لَا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ، إلا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ"(1).
وللبخاريِّ: "وَلَا تَنتَقِبُ المَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ"(2).
أمَّا ابن عمر، فقد تقدَّم ذكره والكلام عليه.
وأمَّا الرَّجل المبهم: فلا أعلم له ذكرًا فيما اطلعت عليه من نوعه.
وأمَّا القُمُصُ: فجمع قميص، وهو معروف، يقال: تقمَّصت القميص: إذا لبسته، وتقمَّصت الأمر استعارة: إذا دخلت فيه.
وأمَّا العَمَائم: فجمع عِمامة، وهو ما يُلفُّ به الرَّأس، سُمِّيت بذلك لأنَّها تعمُّ جميع الرَّأس بالتغطية.
(1) رواه البخاري (1468)، كتاب: الحج، باب: ما لا يلبس المحرم من الثياب، ومسلم (1177)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح.
(2)
رواه البخاري (1741)، كتاب: الحج، باب: ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة.
وأمَّا السَّرَاوِيلَات: فهي جمع سراويل، وهي مؤنَّثة عند الجمهور، وقيل: مذكَّر، والجمهور: على أنَّها أعجمية معرَّبة، وقيل: عربيَّة، والجمهور على أنَّها مفردة، وجمعها: سراويلات، وقيل: سراويل جمع سروالة، ويقال فيها: سراوين، بالنُّون، وبعض الأعراب تقول: سِرْوال -بالسِّين المهملة-، وبعضهم: بالشين المعجمة، ويقال: سرولته فتسرول؛ أي: ألبسته السراويل، والأكثرون على أنَّه لا ينصرف إذا كان نكرة، وقيل: ينصرف (1).
وأمَّا البرَانِسُ: فجمع بُرنُس، -بضمِّ الباء والنّوُن-، وهو كلُّ ثوب رأسه ملتزق به ذراعه، كان أو جبة أو غيرهما، وقال ابن دريد: البُرنس -بضمِّ الباء-: نوع من الطَّيالسة يلبسه العبَّاد، وأهل الخير، قاله ابن قرقول في:"المطالع".
وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النُّسَّاك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البُرس -بضمِّ الباء-، وهو القطن، والنُّون زائدة. وقيل: إنَّه غير عربي (2).
وأَمَّا الخِفَافُ: فجمع خفٍّ، ويجمع على أخفاف أيضًا، ذكره صاحب "المطالع"، وهو معروف (3).
أَمَّا الزَّعفَرَانُ: فهو نبت يكون باليمن، وورد ذكره في الحديث كثيرًا.
وأمَّا الوَرْسُ: فهو نبت باليمن، أصفر، تصبغ به الثِّياب، والخبر معروف.
وفي الحديث: ثياب ورسية، وملحفة وريسة؛ أي: مصبوغة به.
وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله (4): الورس نبات يزرع باليمن زرعًا، ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون قويًّا، نباته مثل السمسم، فإذا جفَّ، تفتَّتت
(1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 57)، و"مختار الصحاح" (ص: 125)، (مادة: سرول).
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 85)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 122)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 26).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 54).
(4)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (2/ 222)، إلا أنَّه نسبه إلى أبي حنيفة الدينوري.
خرائطه، فينتفض منه الورس أحمر، يزرع سنةً، فيقيم في الأرض عشر سنين، ينبت ويثمر، وأجوده حديثه. يقال: أورس فهو وارس، وتورس لغة ضعيفة.
وأمَّا القُفَّاز: فهو بضمِّ القاف، وتشديد الفاء، وهو شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن، يغطي الأصابع والكفَّ والسَّاعد من البرد، يحشى بقطنٍ، ويكون له أزرار يزر على السَّاعدين، وهما قفَّازان، وقيل: هو ضرب من الحليِّ تتخذه المرأة ليديها.
وقوله: "وَلَا تَنْتَقِبُ المَرْأَةُ": يعني: المحرمة؛ أي: لا تستر وجهها بذلك، والنِّقاب: شدُّ الخمار على الأنف، وقيل: على المحجر.
أَمَّا الحكمة في تحريم هذه المذكورات على المُحرم؛ فَلِما فيها من التَّرفُّه والتزيُّن؛ ليتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكَّر أنَّه محرم في كلِّ وقتٍ، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكَّر به الموت ولباس الأكفان، وليتذكَّر البعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلى الدَّاعي.
ونبَّه صلى الله عليه وسلم بكلِّ واحد من المذكورات على ما في معناه، فنبَّه بالقميص والسَّراويل على كلِّ مخيط، أو مخيطٍ معمول على قدر البدن، أو عضوٍ منه؛ كالجوشن والرَّان والتبَّان وغيرها.
ونبَّه بالعمائم والبرانس على كلِّ ساترٍ للرَّأس، مخيطًا كان أو غيره، حتَّى العصابة، فإنَّها حرام، فإن احتاج إليها لصداع أو شَجَّة ونحوها، شدَّها، ولزمته الفدية.
ونبَّه بالخِفَاف على كل ساتر للرِّجل من مداسٍ وجمجم، وجورب وغيرها.
ونبَّه بالوَرْسِ والزَّعْفَرَان على كلِّ طيب، فيحرم على كلِّ محرم، رجلًا كان أو امرأة، جميعُ أنواع الطِّيب الَّذي يقصد له، أما ما لا يقصد له؛ كالأترج والتُّفاح، وأزهار البراري؛ كالقيصوم ونحوه، فليس بحرام؛ لأنَّه لا يقصد للطيب.
أمَّا المرأة: فإنَّه يباح لها ستر جميع بدنها بكلِّ ساتر، إلا سترَ وجهها وكفَّيها بغير القفَّازين، وفي ستر يديها به خلاف للعلماء، وهما قولان للشَّافعيِّ: أصحُّهما: تحريمه؛ للحديث، والله أعلم.
فإن قيل: سؤال الرَّجل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّما هو عمَّا يلبس المحرمُ، والجوابُ وقع عمَّا لا يلبس! فالجواب: أنَّ هذا من باب بديع الكلام وجزله، وهو أنَّه إذا كان المسؤول عنه غير منحصر، وغيرُه منحصر: أنَّه يُجاب بالمنحصر؛ لينضبط المسؤول عنه للسائل، فينتهي عن المنحصر، ويلبس ما سواه؛ تنبيهًا على أمرين:
أحدهما: أنَّ الإباحة هي الأصل فيه.
والثاني: أنَّه لا ينبغي أنَّ يعتبر أنَّ يتغيَّر في الجواب المطابقة للسؤال، بل المعتبر ما يحصل المقصود، وكيف كان، ولو بتغير، أو زيادة، ولا تشترط المطابقة، وذلك لأنَّ مطلوب الشَّرع البيان والتقريب إلى الأفهام، وبأيِّ نوع كان يرجَّح الإتيان به على غيره.
وبهذا شُرِّفَ اللِّسان العربيُّ على غيره من الألسنة، حتَّى جعله الله عز وجل لسانَ أهل الجنّة ولغتَهم، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: تحريم ما ذكر على المحرم في الحديث، وهو إجماع واتِّفاق من العلماء. وعدّاه القياسون إلى ما رواه في معناه على ما ذكرناه.
ومنها: أنَّ المحرم هو من دخل في الحجِّ أو العمرة معًا، أو أحدهما، والإحرام: الدُّخول في أحد النُّسكين، والتشاغل بأعمالهما، قاله شيخنا أبو الفتح القاضي رحمه الله.
وقد كان شيخنا العلَّامة أبو محمَّد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدًّا، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنَّه النيَّة، اعترض عليه بأنَّ النيَّة شرط الحجِّ الَّذي الإحرام ركنُه، وشرط الشَّيء غيرُه، ويعترض عليه أنَّ التَّلبية، بأنَّها
ليست بركن، والإحرام ركن هذا أو قريب منه، وكان يحوم على فعل تتعلق به النيَّة من الابتداء (1).
ومنها: التنبيه على عظم عبادة الحجِّ والعمرة؛ باعتبار ما فيهما مشروع من شرائطهما وأركانهما وواجباتهما وسننهما وآدابهما، والخروج عن العادات المألوفات.
ومنها: جمع لهم ما من تلبّس بهما لمقاصد الآخرة، والإعراض عن مقاصد الدُّنيا وملاذها وترفها.
ومنها: اغتفار ما منع الشَّرع من إتلافه بسببهما، وهو قطع الخفِّ من أسفل الكعبين، إذا لم يجد نعلين، مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
وجوَّزت الحنابلة جواز لبس الخفَّين للمحرم من غير قطعهما، وقالوا: روى ابن عبَّاس وجابر مرفوعًا: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ"(2)، ولم يذكر قطعهما، فكأنَّهم يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرِّح بقطعهما بذلك، ويزعمون أنَّ قطعهما إضاعة مال، والَّذي قاله مالك، وأبو حنيفة، والشَّافعيُّ، وجماهير العلماء: أنَّه لا يجوز لبسهما إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين.
والنَّسخ لا يصار إليه إلا بتعين تاريخ متأخِّر، كيف وحديث ابن عبَّاس وجابر مطلق، وحديث ابن عمر مقيَّد، والمطلق يحمل على المقيَّد، والزيادة من الثِّقة مقبولة.
وقولهم: إنَّه إضاعة مال، غير مقبول؛ فإنَّ الإضاعة إنَّما تكون فيما نهى
(1) ذكره ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام"(3/ 12)، وعنه أخذ المؤلف. وانظر ترجمة شيخ المؤلف العلَّامة أبو محمد بن عبد السلام في مقدمة هذا الكتاب، عند ذكر شيوخ الشارح ابن العطار رحمه الله.
(2)
رواه البخاري (5467)، كتاب: اللباس، باب: السراويل، ومسلم (1178)، كتاب: الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ورواه مسلم (1179)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه.
الشَّرع عنه، لا فيما أذن فيه وأمر به؛ فإن قطعهما عند عدم النَّعلين، وعدم الخفاف حقٌّ يجب الإذعان له، والله أعلم.
ثم لابس الخفين لعدم النعلين من غير قطع، يجب عليه الفدية، عند أبي حنيفة وأصحابه؛ كما إذا حلق ولبس، فإنَّه يفدي، وقال مالك، والشَّافعيُّ، ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنَّه لو وجبت فدية، لبيَّنها صلى الله عليه وسلم.
ومنها: تحريم لباس الثِّياب المورَّسة والمزعفرة وما في معناهما ممَّا هو مطيَّب، على المحرم، سواء كان مخيطًا، أو محيطًا، أو غيرهما.
والحكمة في تحريم ذلك: أنَّه داعية إلى الجِماع، وأنَّه ينافي حال الحاجِّ؛ فإنَّه أشعث أغبر.
وسواء في تحريم ذلك الرَّجلُ والمرأة، فلو لبس مخيطًا مطيَّبًا، قاصدًا للبس والتَّطيُّب، عامدًا، لزمه فديتان بلا خلاف، وإن كان ناسيًا: فلا فدية عند الثوري، والشَّافعيِّ، وأحمد، وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة، ومالك.
أمَّا اللِّباس المعصفر، فلا يحرم على المحرم، عند مالك والشَّافعيِّ، وحرَّمه الثَّوري، وأبوحنيفة، وجعلاه طيبًا، وأوجبا فيه الفدية، ويكره للمحرم لبس الثِّياب المصبوغة بغير طيب، ولا يحرم، والله أعلم.
ومنها: تحريم لبس السَّراويل على المحرم مطلقًا، وبه قال مالك، وجوَّزه الشَّافعيُّ، وأحمد، والجمهور للمحرم إذا لم يجد إزارًا من غير قطعه؛ لحديثي ابن عبَّاس وجابر رضي الله عنهم في إباحته، عند عدم الإزار، وكونه لم يذكر ذلك في حديث ابن عمر هذا؛ لأنَّه ذكر حالة وجود الإزار، فلا منافاة بين الحديثين حينئذٍ، والله أعلم.
ومنها: تحريم لباس القفَّازين على المحرمة، وهو الصَّحيح من قولي الشَّافعيِّ كما تقدَّم، والله أعلم.
* * *