الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرِّبَا والصرف
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "الذَّهَب بالوَرِقِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بالْبرِّ رِبًا إلّا هَاءَ وَهَاء، والشَّعِيرُ بِالشَّعِيرُ رِبًا إلّا"(1).
وتقدم الكلام على عمر أول الكتاب.
أَمَّا الذهَب: فَلَهُ أسماء، نظمها شيخنا، حجةُ العرب، أبو عبد الله بنُ مالك الجياني رحمه الله في بيتين، وهما:
نضرٌ نَضِيرٌ نُضارٌ زَبَرْجَد
…
سيرا عسجدٌ عقيانُ الذهَبُ
والتبرُ ما لم يذن وأَشْرَكوا
…
ذَهَبًا وفِضّةً في نسيك هَكَذَا العَرَبُ (2)
وأما الوَرِق: فهو بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز إسكان الراء مع فتح الواو وكسرها، قال الأكثرون من أهل اللغة: وهو مختصّ بالدراهم المضروبة، وقال جماعة منهم: تُطلق على كلِّ الفضة، وإن لم تكن مضروبة، والمراد بالحديث جميعُ صنوفها، وكل مقدار منها (3).
(1) رواه البخاري (2027)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (1586)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا.
(2)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 9).
(3)
انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 281)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 113)، =
وأمّا البُرُّ: فهو اسم من أسماء القمح، ويقال له: الحنطة، والسمراء.
وأما الشَّعِير: فهو بفتح الشين على المشهور، ويقال بكسرها، وقال ابن مكي الصقلي -رحمه الله تعالى-: يقال في كل ما كان وزنه على فعيل، وكان وسطه حرف حلق مكسورًا: بكسر أوله، وهي لغة لبني تميم، ثم قال: وزعم الليث أن قومًا من العرب يقولون في كل ما كان على فعيل مفتوح أوله: فعيل بكسره، وإن يكن حرف حلق، فيقولون: كِثير، وجِليل، وكِريم، بكسر أوّلها، وما أشبه ذلك، والله أعلم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "رِبًا": الرِّبا؛ مقصور يكتب بالألف؛ لأنه من ربا يربو، وتثنيته:[ربوان]، وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، بسبب الكسرة في أوله، وغلّطهم البصريون، قال أهل اللغة: ويقال في الرّبا: الرِّما؛ بالميم والمد. والرُّبية -بالضم والتخفيف-: لغة في الربا.
وأصل الربا: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو: زاد، وأربى الرجل وأرمى: عاملَ بالربا، وهو في الشرع: وجوبُ الحلول، وتحريمُ النساء، والتفاضل إذا كان في جنسٍ واحدٍ، فلو كان في غير جنسه، لكنه من نوعه؛ كالذهب والفضة، والحنطة والشعير، لم يعتبر إلا الحلول وتحريم النساء، دون التفاضل (2).
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "إلَّا هَاءَ وَهَاءَ"؛ فيه لغتان: المدّ والقصر، والمدّ أفصح وأشهر، وأصله: هاكَ، فأبدلت مدة من الكاف، ومعناه: خذ هذا، ويقول صاحبه مثله، وغلَّط الخطابي وغيرُه المحدِّثين في رواية القصر، وقالوا: الصواب المدُّ والفتح، وليست بغلط، بل هي صحيحة، وإن كانت قليلة، لكن أكثر أهل اللغة ينكرون القصر فيها، ويقال في لغة: بالمد وكسر الهمزة للذكر، والأنثى (هائي)
= و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 208).
(1)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 108).
(2)
انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 111)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 306).
بزيادة ياء، قال القاضي عياض رحمه الله: وفيه لغة أخرى: هاءك، بالمد وبالكاف، واللفظة موضوعة للتقابض، والله أعلم (1).
واعلم أن الرِّبا محرم في الجملة، وقد أجمع المسلمون عليه، وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه، قال الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وبينت السنَّة النبوية -على قائلها أفضل الصلاة والسلام- المحلّ الذي يجري فيه الربا، فذكر في هذا الحديث منها أربعة أشياء، وقد ذُكر في "صحيح مسلم" شيئان: فصارت ستة منصوصًا عليها، فالأربعة: الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والشيئان: التمر، والملح.
فأمّا أهل الظاهر، فجمدوا على تحريم هذه الستة، وقالوا: لا رِبا في سواها؛ بناء على أصلهم في نفي القياس، وقال جميع العلماء سواهم: يتعدى التحريم إلى غير الستة مما في معناها، وهو ما يشاركها في العلة.
واختلفوا في العلة التي هي سبب التحريم في الستة، فقال الشافعي: العلة في الذهب والفضة: كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدى منهما الرّبا إلى غيرهما من الموزونات وغيرها؛ لعدم المشاركة، قال: والعلة في الأربعة الباقية: كونها مطعومة، فيتعدى الرّبا منها إلى كل مطعوم.
وقال مالك في الذهب والفضة كقول الشافعي، وقال في الأربعة: العلّة فيها كونها تُدَّخَر للقوت وتصلُح له، فعدّاه إلى الزبيب؛ لأنه كالتمر، وإلى القطينة؛ لأنها في معنى البُرّ والشعير، وقال أبو حنيفة: العلّة في الذهب والفضة: الوزن، وفي الأربعة: الكيل، فيتعدى إلى كل موزون من نحاسٍ، وحديدٍ، وغيرهما، وإلى كل مكيل؛ كالجص والأشنان وغيرهما.
وقال أحمد، والشافعي في القديم -وهو قول سعيد بن المسيب من التابعين-: العلّة في الأربعة: كونها مطعومة وموزونة، أو مكيلة، فشرطوا
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 263)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 236)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 12)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 188).
الأمرين، فعلى هذا: لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه، مما لا يكال ولا يوزن.
وأجمع المسلمون في جواز بيع الربوي بالربوي الذي لا يشاركه في العلة متفاضلًا ومؤجلًا؛ كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدُهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالًا؛ كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلّة؛ كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير، وعلى أنه لا يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس، إذا كان يدًا بيدٍ؛ كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا، إلا ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في تخصيص الربا في النسيئة.
قال العلماء: إذا بيع الذهب بذهب، أو الفضة بفضة، سميت: مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب، سُمِّي: صرفًا، وإنما سُمِّي صرفًا؛ لصرفه عن مقتضى البياعات، من جواز التفاضل وعدم التفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان، والله أعلم.
وتقدم أن: التحيُّل على الخلاص من المحرم، والوقوعِ فيه، مطلوبٌ للشرع، وقد حصلت تصرفات ليست من الربا في شيء، التبسها الجهال بعلم الشريعة، وجعلوها من المعاملات الربويات؛ تنطعًا وجهلًا، فإن قصد بها التحيل على الوقوع فيه، من غير أن تكون صورته صورة العقود المحرمة في الربا، فقد اختلف العلماء في ذلك وصحته، مع اتفاقهم على كراهة التنزيه فيه الشديدة؛ لأجل ما قصد به، فقال جماعة: وهو صحيح، وبالغ بعضهم فقال: هو مثاب عليه لأجل التنفيس عن الناس بإعانتهم بهذه الطريق، وهذا لو تجرد عن قصد التحيل على الربا، كان صحيحًا؛ لأنّ المقاصد الأخروية غير مقابلة بشيء من أمور الدنيا الجائزة وغيرها، بل هي مقابلة بثواب الآخرة شرعًا.
وهذا بالنسبة إلى ما يتعلق بأحكام المكلفين، وأما بالنسبة إلى أفعال الله
تعالى، فلا؛ لأنه سبحانه يثيب من يشاء كيف يشاء في الدنيا والآخرة؛ حيث إنه سبحانه وتعالى يقضي ويحكم ويفعل ما يشاء، ولا يُقضى ولا يُحكم عليه، ولا يلزمه شيء، ولا يجب عليه شيء إلا بإيجابه، ولا يلزمه إلا بوعده، فهو سبحانه الحقُّ، وقوله حقٌّ، وحكمه حقٌّ، وقضاؤه ووعده حقٌّ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، نسأله المجازوة واللطف والعفو والرّأَف، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
وفي هذا الحديث دليل: على تحريم الربا في الجملة على ما ذكرنا.
وفيه: اشتراط التقابض في بيع الربوي بالربوي، إذا اتفقا في علّة الربا، سواء اتفق جنسهما؛ كذهب بذهبٍ، أم اختلف؛ كذهب بفضة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نبّه في هذا الحديث بمختلف الجنس على متفقه؛ حيث قال:"الذهَبُ بالوَرِق رِبًا"، واستدلّ المالكية بذلك على اشتراط التقابض عقب العقد، حتى لو أخره عن العقد، وقبض في المجلس، لا يصحّ عندهم، والمعتبر عند الشافعي رحمه الله وأصحابه: الحلولُ والتقابضُ في المجلس، وإن طال الزمان يومًا أو أيامًا لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة، وآخرون.
ولا دليل للمالكية في الحديث على ما ادّعوه؛ حيث لم يتعرض فيه على طول المجلس وقصره، وما ذكره مسلم فيه: من أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أراد أن يصارف صاحب الذهب، ويؤخر دفع الدراهم إلى مجيء الخادم، فإنَّما قاله ظنًّا اجتهاديًّا للجواز كسائر البياعات؛ حيث لم يبلغه حكم المسألة، فلما أبلغه عمر رضي الله عنه الحكم، ترك المصارفة.
ولا شك أن مأخذ الشافعي أقربُ إلى حقيقة اللفظ، ومأخذ المالكية أدخلُ في المجاز.
وقد جمع الحديث مختلفَ الجنس ومتفقَه بالذَّهب والفِضة، وبالبُرِّ بالبُرِّ، وبالشعير بالشعير، فاقتضى ذلك تحريم النّساء، لكنه لا يسمى نساء، إلا إذا تفرقا عن المجلس من غير قبض، والله أعلم.