الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قصر الصلاة في السفر
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَحِبْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذِلِكِ (1).
هذا لفظ رواية البخاري، ولفظ رواية مسلم أطول وأبسط وأزيد، فليعلم ذلك.
وتقدم ذكر ابن عمر.
القَصْر: رد الرباعية إلى ركعتين، ويقال: قصر الصلاة وقصَّرها -مخففًا ومثقلًا-، وحكى الواحدي في "الوسيط" (2): أقصرها -رباعيًّا- ثلاث لغات، وبالتخفيف جاء القرآن، قال الله تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، والمصدر منها القَصْر والتقصير، والقياس من الثالثة الإقصار، والله أعلم (3).
واعلم أن الصلاة كانت فرضيتها ركعتين ركعتين مدة شهر من قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانوا يتنفلون، فرآهم صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس! اقبلوا فريضة الله"،
(1) رواه البخاري (1051)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، ومسلم (694)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: قصر الصلاة بمنى، وهذا لفظ البخاري.
(2)
كتاب "الوسيط" للواحدي وهو أحد ثلاثة كتب في التفسير له، تسمى "الحاوي لجميع المعاني". انظر:"كشف الظنون"(1/ 460).
(3)
انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 273).
فأقرت صلاة المسافر، وزيدت في صلاة المقيم (1).
وقوله: "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين" لا شك أن مذهب ابن عمر رضي الله عنهما عدم التنفل في السفر، حتى لو قال: لو كنت متنفلًا، لأتممت، فحينئذ قوله:"فكان لا يزيد على ركعتين" يحتمل أن يكون ذكره دليلًا على عدم التنفل وقصر الصلاة، فلا يزيد على ركعتين في الرباعية، ولا يتنفل قبلها ولا بعدها، ويحتمل أنه أراد عدم التنفل فقط، ويكون ذكر قصر الصلاة لازمًا لذلك، وقد وردت أحاديث يدل سياقها على أنه أراد ذلك، والظاهر الذي يفهم منه أنه أراد عدم زيادة في الفرض على ركعتين وترك الإتمام؛ حيث أتم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم الصلاة في السفر، فذكر ذلك دليلًا عليهم، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان في ذلك، مع أن الحجة قائمة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن ذلك كان معمولًا به عند الأئمة، لم يتطرق إليه نسخ ولا معارضة راجحة، وقد فعل ذلك جماعة من الأئمة في استدلالهم؛ كمالك وغيره، والله أعلم.
واعلم أن القصرَ في السفر الطويل والإتمامَ جائزان بالإجماع، واختلف العلماء في أن الأفضل القصر أو الإتمام؟ فذهبَ مالكٌ والشافعي وأحمد وأكثرُ العلماء على أن القصر أفضل، وللشافعي قول: أن الإتمام أفضل؛ قياسًا على قوله: إن الصوم في السفر أفضل، ولأصحابه وجه: أنهما سواء.
وقال أبو حنيفة وجماعة: القصر واجب، ولا يجوز الإتمام.
والحجة عليهم ما ثبت في "صحيح مسلم" وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (2)، وبأن عثمان كان أمير
(1) رواه البخاري (343)، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ومسلم (685)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (1117)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في =
المؤمنين، وعائشة كانت أمهم، وأتما الصلاة في السفر، فلو كان القصر واجبًا، لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم من أتم من الصحابة معه في السفر عليه، ولَما فعله عثمان وعائشة، فدل على جوازه، وأنهم أخذوا بأحد الجائزين، وتركوا الأفضل؛ لمعان اقتضت ذلك في اجتهادهم، لا أنهم تركوا الواجب وما أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في حياته عليه، والله أعلم.
والحجة على أن القصر أفضلُ من الإتمام مواظبةُ النبي صلى الله عليه وسلم عليه في السفر، وقال بعض العلماء بوجوبه فيه كما تقدم تبيينه قريبًا، بخلاف الصوم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه في السفر، ولم يقل أحد بوجوبه في السفر -أيضًا-، ولأنه إذا أفطر فيه، خرج به عن وقته، ووجب قضاؤه، والقصر لا يخرج الصلاة عن وقتها، بل يأتي بالصلاة في وقتها المشروع، إما منفردة، أو جمعًا، وقد تقدم في الباب قبله حدُّ السفر الطويل والقصير.
قال الشافعي ومالك وأصحابهما، والليث، والأوزاعي، وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع ست شعرات معترضات معتدلات.
وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا تقصر في أقل من ثلاث مراحل، وروي عن عثمان، وابن مسعود، وحذيفة.
وقال داود وأهل الظاهر: يجوز في السفر الطويل والقصير، حتى لو كان ثلاثة أميال، قصر.
ثم مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونَه سفرَ خوف، وبعضهم كونَه سفرَ حج أو عمرة أو غزو، وبعضهم كونَه سفرَ طاعة، وجوزه أبو حنيفة والثوري في سفر المعصية، ومنعه الشافعي، ومالك، وأحمد والأكثرون.
= غير معصية، عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
قال أصحاب الشافعي رحمهم الله: العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، والعاصي في سفره يترخص، والله أعلم.
ولا تجوز صلاة الفرض في حال من الأحوال ركعة واحدة، وجوزه في الخوف جابر، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وإسحاق بن راهويه، مستدلين بما ثبت في "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله عز وجل الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة (1)، وخالف ذلك الشافعي ومالك والجمهور، وقالوا: صلاة الخوف كصلاة الآمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر، وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر، وجب ركعتان، ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردًا كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة، والله أعلم.
* * *
(1) رواه مسلم (687)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.