الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب دخول مكَّة وغيره
الحديث الأوَّل
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: ابنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، قَالَ:"اقتُلُوهُ"(1).
ابنُ خَطَلٍ: اسمه: عبد العزَّى، وقيل: غالبُ بنُ عبد الله بنِ عبد منافِ بن أسعدَ بنِ جابرِ بنِ كثيرِ بنِ تيمِ بنِ غالبٍ، قاله ابن الكلبيِّ، وقال ابن إسحاق: اسمه عبد الله، وقيل: سعيد بن حُريث، وخَطَل: بخاءٍ معجمةٍ وطاء مهملةٍ مفتوحتين.
وأمَّا المِغْفَرُ: فهو ما يلبسه الدَّارع على رأسه من الزَّرَدِ ونحوه، وقد رأيته، وهو شيء يشبه التحنك للنِّساء، يغطِّي الرأس وبعض الوجه والقفا، من الزَّرد، والله أعلم.
وأَمَّا أَسْتَارُ الكَعْبَةِ: فهو ما يكساه من القباطي وغيرها.
قال ابن جريح: كان أوَّلَ من كسا البيت كسوة كاملةً: تُبَّعٌ؛ فقد أُري في المنام أن يكسوها، فكساها الأنطاع، ثم أُري أن يكسوها الوصائل، وهي ثياب
(1) رواه البخاري (1749)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ومسلم (1357)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
حِبَرَة من عصب اليمن (1)، ثمَّ كساها النَّاس بعده في الجاهلية، وكساها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ومعاوية وابن زياد الديباجَ.
وكانت تُكسى يوم عاشوراء، ثمَّ كساها ابن الزبير ومعاوية في السَّنة مرَّتين، ثمَّ كان المأمون يكسوها ثلاث مرَّات، فيكسوها الدِّيباجَ الأحمرَ يوم التَّروية، وهو اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة، والقباطي يوم هلال رجب، والدِّيباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان.
وهذا الأبيض، ابتدأه المأمون سنة ستٍّ ومئتين، حين قالوا له: الدِّيباج الأحمر يتخرق قبل الكسوة الثَّانية، فسأل عن أحسن ما تكون فيه الكعبة؟ فقيل: الدِّيباج الأبيض، ففعله، والله أعلم.
وقد تقدَّم تاريخ دخول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مكَّة يوم الفتح، وثبت عن ابن شهابٍ رحمه الله: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن محرمًا ذلك اليوم، وظاهرُ كونِ المغفر على رأسه صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك، وكان أمره صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَلٍ؛ لأنَّه كان قد ارتدَّ عن الإسلام، وقتل مسلمًا كان يخدمه، وكان يهجو النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويسبُّه، وكان له قينتان تغنِّيان بهجاء المسلمين.
فإن قيل: ففي الحديث الآخر: "مَنْ دخلَ المسجدَ فهو آمِنٌ"(2)، فكيف قتله وهو متعلِّق بالأستار؟ فالجواب: أنَّه لم يدخل في الأمان، بل استثناه هو وابن أبي سرح والقينتين، وأمر بقتله، وإن وجد متعلِّقًا بأستار الكعبة، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: أنَّ المريد لدخول مكَّة، إذا كان محاربًا، يباح له دخولها بغير إحرام، لحاجة المحارب إلى التَّستُّر بما يقيه وقع السلاح.
(1) رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(ص: 250).
وقد روى في "تاريخه" أيضًا (ص: 249)، وتمام الرازي في "فوائده"(1695)، عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري -وهو تُبَّعٌ- وقال: وهو أول من كسا الكعبة".
(2)
تقدم تخريجه.
وقد اختلف قول الشَّافعيِّ فيمن أراد دخول مكَّة بغير إحرام، فقال مرَّة: يجوز، سواء كان دخوله لحاجةٍ تتكرر؛ كالحطَّاب، والحشَّاش، والسَّقَّاء، والصَّياد، وغيرهم، أو لا تتكرَّر؛ كالتاجر والزَّائر، وغيرهما، وسواء كان آمنًا أم خائفًا، وهذا أصحُّ القولين، وبه يفتي أصحابنا.
والقول الثَّاني له: أنَّه لا يجوز دخولها بغير إحرام، إن كانت حاجته لا تتكرَّر، إلَّا أن يكون مقاتلًا، أو خائفًا من قتالٍ، أو خائفًا من ظالم لو ظهر، وهذا قول أكثر العلماء.
ومنها: إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم، وتقدَّم اختلاف العلماء فيه، وفي التَّمسُّك من الحديث لذلك نظر؛ فإنَّ جواز قتل ابن خطلٍ وغيره محمولٌ على الخصوصيَّة التي دلَّ عليها قوله صلى الله عليه وسلم:"ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأَحدٍ بعدي، وإِنَّما أُحلَّتْ لي ساعةً من نهار"(1).
مع أنَّ أصحاب الشَّافعيِّ رحمه الله تأوَّلوا قتلَ ابن خطلٍ بعدَ السَّاعة التي أُبيحت له، لا في السَّاعة التي أبيحت له.
ومنها: جواز إقامة الحدود في الحرم، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، وموافقيهما.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وتأوَّل هذا الحديث في قتله على السَّاعة التي أبيحت له، وقيل: إنَّما قتله؛ لأنَّه لم يترك القتال، ولم يف بالشَّرط، بل قاتل بعد ذلك، والله أعلم.
ومنها: استحباب لبس المغفر ونحوه من السِّلاح حالَ الخوف من العدوِّ، أو لإرهابهم.
ومنها: شرعيَّة ستر الكعبة بالأستار؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّها على السَّتر، وسترها بكسوة بعد ذلك.
(1) تقدم تخريجه.