الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهرِ والعَصْرِ إذَا مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ (1).
تقدم ذكر ابن عباس.
ولفظ هذا الحديث للبخاري دون مسلم، وأطلق إخراجه عنهما نظرًا إلى أصل الحديث على عادة المحدثين، فإذا أرادوا التحقيق فيه، قالوا: أخرجاه بلفظه إن كان، أو بمعناه إن كان.
واعلم أن الفقهاء لم يختلفوا في جواز الجمع في الجملة، لكن أبا حنيفة رحمه الله يخصه بالجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وتكون العلة في جوازه النسكَ لا السفرَ، والحنفيون يؤولون أحاديث الجمع بعذر السفر على [أن] المراد بها تأخيرُ الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها، وجعل بعض الفقهاء الجمع نوعين: جمع مقارنة، وجمع مواصلة، قال: فجمع المقارنة كون الشيئين في وقت واحد؛ كالأكل والقيام مثلًا؛ فإنهما يقعان في وقت واحد، وجمع المواصلة أن يقع أحدُهما عقبَ الآخر، وقصد إبطال تأويل أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بما ذكرنا؛ لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتين؛ إذ
(1) رواه البخاري (1056)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، ومسلم (705)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.
وهذا لفظ البخاري.
لا يقعان في حالة واحدة، وأبطل جمع المواصلة -أيضًا-، وقصد إبطال تأويل الحنفيين المذكور؛ إذ لم يتنزل على شيء من النوعين، لكن الروايات الصحيحة؛ كحديث ابن عمر، وأنس، وابن عباس هذا يدل على جواز الجمع بعذر السفر، ويبطل تأويل الحنفيين، ولولا ذلك، لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع؛ لأن الأصل عدم جوازه، ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدود لها، لكن هذا الحديث دل على جواز الجمع على ظهر سير في الظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء، وهو رخصة، وجملة ما ذكروه من التأويل يقتضي الحصر والزيادة في المشقة على المسافر، وقد صح الجمع -أيضًا- في حال النزول، فالعمل به دليل آخر على الجواز في غير صورة السير، وقيام دليلهم يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، ولا يمكن معارضة دليل الوصف بالمفهوم من هذا الحديث؛ لأن المنطوق أرجح.
وقوله: "وكذلك المغرب والعشاء" يريد: في الجمع، وظاهره اعتبار الوصف فيهما، وهو كونه على ظهر سير.
وأجمع العلماء على أن الجمع ممتنع بين الصبح وغيرها، وبين العصر والمغرب، كما أجمعوا على جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ومن هاهنا ينشأ نظر القياس في مسألة الجمع، فأصحاب أبي حنيفة رحمه الله يقيسون الجمع المختلف فيه على الجمع الممتنع اتفاقًا، ويحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإجماع، وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما مطلقا، أو حالة العذر، وغيرهم يقيس الجواز في محل النزاع على الجواز في موضع الإجماع، ويحتاج إلى إلغاء الوصف الجامع، وهو النسك.
ثم اختلف في جواز الجمع بعذر المطر، فجوزه الشافعي وجمهور العلماء في الصلوات التي يجوز فيها الجمع، وخصه مالك بالمغرب والعشاء فقط.
وأما الجمع بعذر المرض، فمنعه الشافعي والأكثرون، وجوزه أحمد وبعض
الشافعية، منهم: القاضي حسين، وأبو حسين المتولي، والروياني، واختاره الطبري؛ لما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعًا بالمدينة في غير خوف ولا سفر (1)، وفي رواية من حديثه أيضًا: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال الراوي عن ابن عباس: قلت له: لِمَ فعل ذلك؟ قال: كي لا يُحرجَ أمته (2).
وهو محمول عند العلماء على المرض، وقد فعله ابن عباس رضي الله عنهما، وقال لمن استعجله في صلاة المغرب وقد بدت النجوم: أتعلمني بالسنة لا أمَّ لك؟! رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالتَه (3)، وتأويلُه عندهم على المرض، وفعلُ ابن عباس، وتصديقُ أبي هريرة يدلان على أن الحديث معمول به غير منسوخ، ومن هذا المعنى المشقةُ في المرض أشدُّ من المطر.
واعلم أن الترمذي رحمه الله قال في آخر كتابه في "العلل": ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع [بين الصلاتين] من غير خوف ولامطر، وحديث قتل شارب الخمر في الرابعة (4)، أما قوله في قتل شارب الخمر، فمسلَّم، وهو منسوخ دل الإجماع
(1) رواه مسلم (705)، (1/ 490)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2)
رواه مسلم (705)، (1/ 490)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(3)
رواه مسلم (705)، (1/ 491) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(4)
انظر: "العلل الصغير" للترمذي (ص:736)، وانظر:"شرح العلل" لابن رجب الحنبلي (1/ 323 - 324).
على نسخه، وقوله في حديث ابن عباس ممنوع بدليل من ذكرنا ممن تأوله وعمل به، والله أعلم.
وأما الجمع للحاجة في الحضر من غير اتخاذه عادة، فجوزه ابن سيرين، وأشهبُ من أصحاب مالك، والقفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، وحكاه الخطابي عنه عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، وهو ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرجَ أمته، ولم يعلله بمرض ولا غيره، والله أعلم.
واعلم أن جمع التقديم ثابت بين الظهر والعصر بعرفة، وجمع التأخير ثابت بين المغرب والعشاء بمزدلفة، وتقدم الاختلاف في علة جوازه، هل هو النسك أو السفر؟ وتظهر فائدة الخلاف بين أهل مكة وما حولها والغرباء، فمن علل بالنسك، جوزه لجميع الناس المقيمين والغرباء، ومن علل بالسفر، جوزه للغرباء دون المقيمين ومَنْ في معناهم، ثم الجمعُ بعذر السفر هل يجوز في كل سفر، أم يختص بالطويل؟ الصحيح أنه لا يجوز في القصير، كما لا يجوز فيه القصر، ويجوز في الطويل بلا خلاف، والطويل ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، وهو مرحلتان معتدلتان، والقصير دون ذلك، وفوق مسافة العدوى، وهي أن يستعدي على خصمه ويرجع إلى وطنه في يومه، والأفضل لمن هو في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إليها، ولمن هو سائر في وقت الأولى ويعلم أنه ينزل قبل خروج وقت الثانية أن يؤخر الأولى إلى الثانية، ولو خالف فيهما، جاز، وكان تاركًا للأفضل، وشرط الجمع في وقت الأولى أن يقدمها، وينوي الجمع قبل فراغه من الأولى، وألَّا يفرق بينهما، فإذا أراد الجمع في وقت الثانية، وجب أن ينويه في وقت الأولى، ويكون قبل ضيق وقتها، بحيث يبقى من الوقت ما يسع تلك الصلاة فأكثر، فإن أخرها بلا نية، عصى، وصارت قضاء، وإذا أخرها بالنية، استحب أن يصلي الأولى أولًا، وأن ينوي الجمع، وألَّا يفرق بينهما، ولا يجب شيء من ذلك.
وأما الجمع بعذر المطر، فشرط جوازه أن يمشي إلى الجماعة في غير كِنٍّ؛ بحيث يلحقه بلل المطر، ولا يجوز لغيره على الأصح من الوجهين، وشرطه -أيضًا- أن يكون في وقت الأولى عند الإحرام بها، والفراغ منها، وافتتاح الثانية، ولا يجوز الجمع في المطر في وقت الثانية، على أصح الوجهين؛ لعدم الوثوق باستمراره إليها.
* * *