الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشافعي: وأجمعوا على أنَّه لا يصلَّى عن الميِّت صلاة فائتة، وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته، وإنما الخلاف في الميت، والله أعلم (1).
ومنها: أن الأجنبي لا يصوم عن الميت، على ما تقدم تقريره وبيانه.
ومنها: أن غير الصوم لا يلحق به، والله أعلم.
* * *
الحديث الثامن
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله! إنَّ أُمِّي ماتَتْ، وعَلَيها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فقال:"لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قاضِيَهُ عَنْهَا؟ "، قال: نَعَمْ، قال:"فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَقْضَى"(2).
وفي رواية: جاءتِ امرأةٌ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ! إن أُمِّي مَاتَتْ، وعليها صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عنها؟، فقال:"أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ "، قالتْ: نَعَمْ، قال:"فَصُومي عَنْ أُمِّكِ"(3).
أمَّا ابن عبَّاس، فتقدَّم الكلام عليه.
وأَمَّا الرجل والمرأة وأمهما، فلا أعلم أسماءهم بعد الكشف والتَّعب، فمن علم ذلك، فليفد.
وقد اقتضى حديث ابن عبَّاس عدمَ تخصيص جواز النيابة بصوم النذر؛ فإنَّه قد أطلق القول فيه بموت أمه، وعليها صوم شهر، من غير تقييد بنذر، وهو منصوص الشافعي في القديم، وهو الراجح كما تقدم بيانه، خلافًا لما قاله أحمد من أنه يصوم عنه في النذر، ويطعم عنه في قضاء رمضان.
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 27).
(2)
رواه البخاري (1852)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1148)، (2/ 804)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت.
(3)
رواه مسلم (1148)، (2/ 804)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت.
ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم غير مقيَّد بعد سؤال السائل مطلقًا عن واقعة، يحتمل أن يكون وجوب الصَّوم فيها عن نذر، ويحتمل أن يكون عن غيره، لكن ذلك يرجع إلى قاعدة في أصول الفقه متَّفق عليها، وهي أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أجاب بلفظ غير مقيَّد عن سؤال وقع عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفًا: أنه يكون الحكم شاملًا للأمور كلها، وهو الَّذي نقل عن الإمام الشَّافعي - رحمه الله تعالى -، وغيره. وعن أئمة أصول الفقه: ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال.
وقد استدلَّ الشَّافعي بمثل هذا، وجعله كالعموم.
الوجه الثاني: أنَّه صلى الله عليه وسلم علَّل قضاء الصوم بعلة؛ للنذر وغيره، وبينه بالقياس على الدَّين، وذلك لا يختص بالنذر في كونه حقًّا واجبًا، والحكم يعم بعموم علته، وقد استدلَّ القائلون بالقياس في الشريعة، بهذا الحديث؛ من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قاس وجوب أداء حقِّ الله تعالى، على وجوب حق العباد، وجعله من طريق الأحق، ويجوز لغيره القياس بقوله تعالى:{فَاتَّبِعُوُهُ} لا سيَّما وقوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت" إرشاد وتنبيه على العلة التي هي والحكم كشيءٍ واحد مستقر في نفس المخاطب، وأما الرواية الثابتة، ففيها ما في الأولى؛ من دخول النيابة في الصَّوم، والقياس على حقوق الآدميين، إلا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر، وقد يتمسك بها من يرى التخصيص بصوم النذر، إما بأن يدل الدليل على أن الحديث واحد، فيتبيَّن من بعض الروايات أن الواقعة المسؤول عنها واقعة واحدة، وهي النذر، فيسقط الوجه الأول؛ وهو الاستدلال بعدم الاستفصال، إذا تبيَّن عين الواقعة، إلا أنَّه قد يتعدَّى هذا التباين بين الروايتين؛ فإن في إحداهما: أنَّ السائل رجل، وفي الثانية امرأة، وقد تقرر في علم الحديث: أنه يعرف كون الحديث واحدًا باتِّحاد سنده ومخرجه، وتقارب ألفاظه، وعلى كل حال، فيبقى الاستدلال بعموم العلَّة، وتقديمه على عموم الحكم، كيف ومعنى عموم آخر،
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من ماتَ وعليه صيامٌ، صامَ عنه وليُّه"؟! فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعًا إلى مسألة أصولية، وهو:
أنَّ التنصيص على بعض صور العام، لا يقتضي التخصيص، وهو المختار في علم الأصول.
وقد نسب بعض الشَّافعية المتأخرين إلى أنَّه قاس الاعتكاف والصَّلاة على الصَّوم في النيابة، وربَّما حكاه بعضهم وجهًا في الصلاة، فإن صحَّ، فقد يستدل بعموم التعليل.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: جواز صوم القريب عن الميِّت -كما تقدَّم-، واعتذر القاضي عياض رحمه الله عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصَّوم عن الميِّت والحج، بأنَّها مضطربة، وهو عذر باطل، بدليل صحَّتها بالاتفاق.
ومنها: جواز سماع كلام المرأة الأجنبية ونحوها في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة.
ومنها: صحَّة القياس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فدينُ الله أحقُّ بالقضاء".
ومنها: قضاء الدَّين عن الميِّت، وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف.
ومنها: تقديم دين الله عز وجل على دين الآدمي إذا تزاحما؛ كدين الزكاة، ودين الآدمي، ولم يمكن الجمع بينهما لضيق التركة عن الوفاء لكل منهما.
وقد يستدلُّ لتقديم الزكاة بقوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالقضاء"، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي:
أصحها: تقديم دين الله تعالى.
والثاني: تقديم دين الآدمي؛ لأنه مبنيٌّ على الشحِّ والمضايقة.