الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: استعمال الرفق وترك العجلة في السير عند الازدحام؛ لعدم التأذي والإيذاء.
ومنها: استحباب الإسراع عند ترك الزحمة، وخلوِّ الطريق؛ للمبادرة إلى مقصده من المناسك وغيرها، ولاتساع الوقت له في ذلك.
ومنها: جواز الرواية والتحمل لمن سمع شيئًا، وإن لم يسأل عنه، ولا قصد المجيب ترويته إياه.
ومنها: أن الإسراع في موضعه، والمشي في موضعه من مناسك الحج، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سيره لأصحابه:"عليكم السكينة، لتستعملوها في موضعها"(1)، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَسَأَلَ رَجُلٌ: فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ:"اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ"، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ:"ارْمِ وَلَا حَرَجَ"، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيءٍ يَوْمَئِذٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ:"افْعَلْ وَلَا حَرَجَ"(2).
هذا الوقوف كان بمنًى يوم النحر، وكان بعد صلاة الظهر، وقف على راحلته للخطبة، وهي إحدى خطب الحج المشروعة الأربعة، وهي الثالثة منها، والله أعلم.
وقولُهُ: "لَمْ أشعر"؛ أصل الشعور: العلم، وهو مأخوذ من المشاعر، وهو
(1) رواه البخاري (1587)، كتاب: الحج، باب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة، ومسلم (1282)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، عن ابن عباس بلفظ: "
…
أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع".
(2)
رواه البخاري (83)، كتاب: العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (1306)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي.
الحواس، فكأنه يستند إلى الحواس في عدم العلم.
واعلم: أن النحر ما يكون في اللبَّة، والذبح ما يكون في الحلق.
والوظائف يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، والسنَّة ترتيبها هكذا، فلو خالف وقدَّم بعضها على بعض، جاز، ولا فدية عليه، وعلى ذلك دل قولُه:"فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ، إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ".
ومعنى قوله: "لَا حَرَجَ": لا شَيْءَ عليكَ مطلقًا، لا إثم ولا فدية، والله أعلم.
وقولُه: "فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ"، إلى آخر الحديث؛ معناه: افعل ما بقي عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير.
واعلم: أن نفي الحرج يستعمل لغة في نفي الضيق، وهو معنى قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛أي: من ضيق، وقد استعمل كثيرًا عرفًا وشرعًا في نفي الإثم، فاستعماله في عدم الفدية فيه نظر، فهو خلاف الظاهر، لكن وجوب الفدية ضيق، وتركه إثم، على تقدير الوجوب، فحسن تفسير قوله:"ولا حرج" بنفيهما -أعني: الإثم والفدية-.
واعلم: أنه قد يشعر التقييد كثيرًا في الأحاديث، بإضافة حجَّته صلى الله عليه وسلم إلى الوداع؛ حيث أشعرت بانتقاله أنه يحجُّ غيرها. ولم يحجَّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حَجَّة واحدة، وهي حَجَّة الوداع، وقد نقل ابن إسحاق: أنه حجَّ أخرى -يعني: قبل الهجرة- من مكة، وروي في حديث في غير "الصحيح": أنه صلى الله عليه وسلم حجَّ قبل الهجرة حجتين، والله أعلم.
وفي الحديث هذا فوائد:
منها: وجوب اتباع أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج؛ حيث إنهم سألوه عن تقديم بعض الأفعال الأربعة المذكورة على بعض، لما فعلها على صفة الترتيب
من تقديم الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف للإفاضة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم"(1).
ومنها: وجوب السؤال عما وقعت المخالفة فيه؛ ليعلم جوازه أو أفضليته.
ومنها: وجوب البيان على المسؤول إذا علم الحكم في المسؤول عنه.
ومنها: أن السنَّةَ ترتيب الأفعال الأربعة على ما ذكرنا، وأنَّه لو خالف وقدَّم بعضها على بعض، جاز، ولا فدية عليه، وبهذا قال جماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي، وله قول ضعيف: أنه إذا قدَّم الحلق على الرمي والطواف، لزمه الدم، بناء على قوله الضعيف: إن الحلق ليس بنسك. وبهذا القول -هنا- قال أبو حنيفة، ومالك. وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، ورواية شاذة عن ابن عباس: أَنَّ مَنْ قدَّم بعضها على بعضى لزمه دم، وهم محجوجون بهذه الأحاديث، فإن تأوَّلوها على أن المراد نفي الإثم، وادعوا أن تأخير البيان لوجوب الدم يجوز، قلنا: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حرج" يخالف هذا التأويل؛ حيث معناه: أنه لا شيء عليك مطلقًا.
وقد صرح في بعض الأحاديث في "صحيح مسلم" بتقديم الحلق على الرمي، وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي، لا شيء عليه، واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في ذلك؛ في وجوب الفدية وعدمها، وإنما يختلفان في الإثم عند من يمنع التقديم، والله أعلم.
نعم، ليس في الحديث المذكور -من السؤال والجواب- ما يدل على أن تقديمهم وتأخيرهم بعضَ الأفعال الأربعة على بعض كان عمدًا، ولا غيره، بل هو مطلق بالنسبة إلى حال السؤال والجواب، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يكون حجة في حال العمد.
ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة، والحكم علق به، فلا يمكن اطِّراحه وإلحاق العمد به؛ إذ لا يساويه، والله أعلم.
(1) تقدم تخريجه.