الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه دليل على الأخذ بالرخصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله يحبُّ أن تُؤْتى رخصُه، كما تُؤْتى عَزائمُه"(1).
وقد قال الفقهاء: الرخصة إذا وقعت، عمت، لكن عمومها إنما هو في المحل الَّذي وقعت من أجله، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمنَّا المُفْطِر، قالَ: فنزلْنا منزلًا في يوم حارٍّ، وأكثرُنا ظلّاً صاحبُ الكساء، فمنَّا مَنْ يتقي الشمسَ بيدِه، قالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَربوا الأبنيةَ، وسَقَوا الركابَ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ذهبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ"(2).
أما الأبنية، فجمع بناء، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء، فمنها الطراف، والخباء، والبناء، والقبة، والمضرب، وقد تكرر ذكره مفردًا ومجموعًا في الحديث.
والركتاب: الإبل، وتجمع ركائب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ"، والأجر وجهان:
أحدهما: الأجر الخاص المرتب على الأفعال التي فعلوها، والمصالح التي جرت على أيديهم، لا مطلق الأجر على سبيل العموم.
والثاني: أن يكون أجر المفطرين قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغًا ينغمر فيه أجر الصُّوَّام، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، وتجعل كأن الأجر
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(354)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 276)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11880)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (2733)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1119)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر إذا تولى العمل.
كله للمفطرين، ويقرب هذا مما تقوله بعض الناس في إحباط بعض الأعمال الصالحة ببعض الكبائر، وأن ثوابها ينغمر في الكبائر وعقابها، فتصير كأنَّها محبطة لثوابها، وإن كان الصوم هنا ليس من المحبطات، ولكن المقصود المبالغة في أنَّ الثواب -وإن قلَّ جدًّا- أنه كالمعدوم، وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات، من يفعل منها شيئًا بسيئاته، فإنهم يجعلون اليسير جدًّا كالمعدوم بالنسبة إلى الإحسان والإساءة؛ كحجامة الأب لولده، وإيجار الأم لولدها الوجور [الكريه] لدفع الأمر الأعظم منه؛ كالمرض وغيره؛ فإن كلًّا منهما يعد محسنًا مطلقًا، ولا يعدُّ مسيئًا بالنسبة إلى الإيلام بالحجامة والمرارة لستارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع الأمر الشديد من المرض وغيره، والله أعلم.
وفي هذا الحديث دليل على ما كانت الصحابة عليه؛ من الزهادة في الدنيا، والصبر على المؤلمات في طاعة الله تعالى.
وفيه: جواز حكاية مثل ذلك للقدوة والتأسِّي.
وفيه: جواز اتخاذ الأبنية ونحوها في الأسفار للاستظلال.
وفيه: اتقاء الشَّمس وحرِّها عن البصر والبدن باليد ونحوها.
وفيه: وجوب القيام بمصالح الدواب من الإبل وغيرها بالسقي وغيره.
وفيه: التنبيه على فعل الرخصة بكثرة الأجر فيه إذا كان في تركها مشقة.
وفيه: أنَّ اطِّلاع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الشيء وتقريره إياه من غير نكير شرعٌ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على الصوم والفطر.
وفيه: أنَّه إذا تعارضت المصالح، قُدِّم أولاها وأقواها، والله أعلم.
* * *