الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنهما قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ، فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلَفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والعَدُوُ بَيْنَنَا وَبينَ القِبْلَةِ، وَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيه، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ، وَتَأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَرَفَعْنَا جَميعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأُوَلَى، فَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ والصَّفُّ الَّذِي يَليهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا، قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائهِمْ.
ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِه، وَذَكَرَ البُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ، وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع (1).
أما جابر، ونسبه، ونسبته، فتقدم ذكره جميعه.
واعلم أن هذه الصلاة المذكورة كانت والعدو في جهة القبلة، وبهذه الكيفية قال الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ويجوز عند الشافعي تقدُّم الصف وتأخر الصف الأول كما في هذا الحديث، ويجوز بقاؤهما على حالهما، وقد رواه مسلم في حديث ابن عباس، ولا شك أن الحراسة تتأتى للكل مع الإمام في الصلاة، ويتأتى فيها التأخير عن الإمام لأجل العذر، إذا ثبت هذا، فموضع الحراسة في السجود، وأما في الركوع، فالمشهور في مذهب الشافعي أنه ليس
(1) رواه البخاري (3898)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (840)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.
موضعها؛ لأنه لا يمنع من إدراك العدو بالبصر، فالحراسة ممكنة معه بخلاف السجود، وفيه وجه لبعض أصحاب الشافعي: أنه يحرس في الركوع -أيضًا-، والمراد بالسجود الذي سجده النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد معه الصف الذي يليه، هو السجدتان جميعًا.
ثم الحديث يدل على أن الصف الذي يلي الإمام يسجد معه في الركعة الأولى، ويحرس الصف الثاني فيهما، ونص الشافعي على خلافه: وهو أن الصف الأول الذي يليه يحرس في الركعة الأولى، فقال بعض أصحابه: لعله سها، ولم يبلغه الحديث، وجماعة من العراقيين وافقوا الصحيح في مذهبه، ولم يذكر بعضهم سوى ما دل عليه الحديث؛ كأبي إسحاق الشيرازي، وبعضهم قال بذلك بناء على المشهور عن الشافعي: أن الحديث إذا صح يؤخذ به ويترك قوله، أما الخراسانيون فإن بعضهم تبع نص الشافعي؛ كالغزالي في "الوسيط"(1)،
ومنهم من ادعى أن في الحديث رواية لذلك، ورجح ما ذهب إليه الشافعي بأن الصف الأول يكون جُنة لمن خلفه، ويكون ساترًا له عن أعين المشركين، وبأنه أقربُ إلى الحراسة، وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية، والترجيح إنما يكون بعدها.
ثم الحديث يدل على أن الحراسة يتناوبها الطائفتان في الركعتين، فلو حرست طائفة واحدة في الركعة معًا، ففي صحة صلاتهم خلاف للشافعي، والله أعلم.
ولا شك أن في بعض طرق حديث جابر هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين، وهي صحيحة في "صحيح مسلم"، وغيره، ورواها أبو داود في "سننه" من رواية أبي بكرة رضي الله عنه (2)، فكانت الطائفة الثانية مفترضين خلف
(1) كتاب: "الوسيط في الفروع" لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي، المتوفى سنة (505 هـ)، وهو أحد الكتب الخمسة المتداولة بين الشافعية، وله عدة شروح. انظر:"كشف الظنون"(2/ 2008).
(2)
رواه مسلم (843)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، عن جابر بن =
متنفِّل، وبه قال الشافعي، وهو محكيٌّ عن الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه منسوخ، ولا تقبل دعواه؛ إذ لا دليل لنسخه.
واعلم أن الخوف لو كان أكثر مما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فيه، فإنه يصلي على حسب حاله، راكبًا وقائمًا، يومئ إيماء، مستقبل القبلة وغيرَ مستقبلها، وهو قول ابن عمر، وبه أخذ مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وعامة العلماء، ويشهد له قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال بعض العلماء: بحسب ما يتمكن منه.
وقال جماعة من الصحابة والسلف: يصلي في الخوف ركعة يومئ بها إيماء.
وقال الضحاك: فإن لم يقدر على ركعة، فتكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال إسحاق: إن لم يقدر على ركعة إيماء، صلى سجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة.
وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح، لكن إن لم يَقدِر على ركعة، ولا على سجدة، لم يجزئه التكبير، وأخرها حتى يؤمنوا.
وهذه المذاهب كلها لها أصل صحيح من الكتاب والسنة، وهو قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتُكم بأمر فَأتوا منه ما استطعتُم"(1)، وهو مأمور بالصلاة على صفة من قيام وركوع وسجود وتكبير وتلاوة، فإذا تعذر بعضها، أتى بالباقي؛ محافظةً على امتثال الأمر، والله أعلم.
ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة الخائف جمله متى لم يتهيأ له أن
= عبد الله رضي الله عنه.
ورواه أبو داود (1248)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 315)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 259)، عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(1)
تقدم تخريجه.
يأتي بها على وجهها، ويؤخرها إلى أن يتمكنوا من ذلك، واحتجوا بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق، ولا حجة لهم فيه؛ لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك كما ذكرنا.
واختلف الذين قالوا بالجواز للمطلوب في جواز ذلك للطالب:
فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما.
وقال الشافعي، والأوزاعي، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض.
ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة، فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو، وما يضطر إليه من ذلك؛ من مشي ونحوه، وقال الشافعي: إنما يجوز له من ذلك المشي اليسير، والطعنة والضربة، فأما ما كثر، فلا تجزئه الصلاة، ونحوُه عن محمد بن الحسن، والله أعلم.
* * *