الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضول أموالهم، وحينئذ يرجع التأويل في قوله صلى الله عليه وسلم:"ذلك فضلُ الله يؤتيهِ مَنْ يشاء" إلى الثواب المترتب على الأعمال عند الله تعالى، لا بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم.
ومنها: أن الإنسان قد يدرك بالعمل اليسيرِ في الصورة، العظيم في المعنى مَن سبقه، ولا يدركه مَن بعده في الفضل ممن لا يعمل به؛ فإن سياق الحديث يدل على ذلك.
ومنها: فضل الذكر أدبار الصلوات.
ومنها: أن أدبار الصلوات أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعوات وقبول الطاعات، ويصل بها متعاطيها إلى الدرجات العاليات والمنازل الغاليات، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَن عَائشِةَ رضي الله عنها: أَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلمّا انْصَرَفَ، قَالَ:"اذهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذ إلى أبِي جَهْمٍ، وَأتُوني بِأَنبِجَانِيَّة أَبي جَهْمٍ؛ فَإنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عن صَلَاتِي"(1).
الخميصة: كساء مربَّع له أعلام، والأنبجانية: كساء غليظ.
تقدم ذكر عائشة.
وأما أبو جهم المذكور في الحديث، فاسمه عامر بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي، المدني، الصحابي.
قال الحاكم أبو أحمد: ويقال: اسمه عبيد بن حذيفة، وهو غير أبي جُهيم -بضم الجيم وزيادة ياء على التصغير- المذكور في التيمم، وفي مرور المار بين يدي المصلي (2).
(1) رواه البخاري (366)، كتاب: الصلاة، باب: إذا صلّى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، ومسلم (556)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة في ثوب له أعلام.
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبير" لابن سعد (5/ 451)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 291)، =
والأنبجاني -بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء الموحدة منه، وتكسر، وأما الياء المثناة تحت آخره، فهي مشددة ومخففة-، قال ابن قتيبة: إنما هو منبجاني، ولا يقال: أنبجاني، منسوب إلى مَنْبِج، وفتحت الياء في النسب؛ لأنه خرج يخرج مخيراني، وهو قول الأصمعي، لكنه ليس بظاهر؛ فإن النسب إلى منبج منبجي.
وأما قوله في الحديث: "وأْتوني بأنبجانيةِ أبي جهم" فروي بتشديد الياء المثناة والتأنيث على الإضافة، وعلى التذكير من غير ذكر أبي جهم ثانيًا، قال المصنف رحمه الله: هو كساء غليظ، وقال غيره: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان له علم، فهو الخميصة، وإن لم يكن له، فهو أنبجانية، وقال ثعلب: هو كل ما كثف، وقال الداودي: هو كساء غليظ بين الكساء والعباء، وقال القاضي أبو عبد الله المازري: هو كساء سداه قطن أو كتان ولحمته صوف (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنها ألهتني عن صلاتي" معناه: أنها شغلت قلبي عن كمال الحضور في الصلاة وتدبر أذكارها وتلاوتها ومقاصدها من الانقياد والخضوع، وبعثهُ صلى الله عليه وسلم بالخميصة إلى أبي جهم وطلبُ أنبجانيه من باب الإدلال عليه؛ لعلمه بأنه يؤثر ذلك ويفرح به، ولا يلزم من بعثها إليه أن أبا جهم يصلي فيها، فإن حلَّة عطارد بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه، وقال:"لم أبعثْ بها إليكَ لتلبَسها"(2)، وفي رواية:"لم أَكسُكَها لتلبسَها"(3)، والله أعلم.
= و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1623)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 173)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 56)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 492)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 556)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 71).
(1)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 40 - 41)، و"المغرب" للمطرزي (2/ 282)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 37)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 43)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 372)، (مادة: نبج).
(2)
رواه مسلم (2068)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (846)، كتاب: الجمعة، باب: يلبس أحسن ما يجد، ومسلم (2068)، =
وفي هذا الحديث مسائل:
منها: جواز لبس الثوب ذي العلم.
ومنها: أن اشتغال الفكر يسيرًا في الصلاة غير قادح فيها، وأنها صحيحة، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء [ونقل عن بعض السلف والزهاد ما لا يعتد به في الإجماع].
ومنها: طلبُ الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذلك.
قال أصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: يستحب للمصلي النظر إلى موضع السجود، ولا يتجاوزه، وقال بعضهم: يكره تغميض عينيه، قال شيخنا أبو زكريا النووي رحمه الله: وعندي أنه لا يكره إلا أن يخاف ضررًا (1).
ومنها: المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعات، وإلى الإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها.
ومنها: النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف رحمهم الله لا يخطئُ نظرُ أحدهم موضعَ قدميه إذا مشى.
ومنها: ما استنبطه الفقهاء من هذا الحديث، وهو كراهة تزويق حيطان المساجد ومحاريبها بالأصباغ والنقوش وزخرفتها بالصنائع المستظرفة؛ فإن الحكم يعمُّ بعموم علته، والعلةُ: الاشتغالُ عن الصلاة، وزاد بعض المالكية في هذا: كراهةَ غرس الأشجار في المساجد.
ومنها: قبول الهدية من الأصحاب، والإرسال بها إليهم، والطلب لها ممن يظن به السرور به أو المسامحة.
* * *
= كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(1)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 44).