الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختلف العلماء في بيعها مطلقًا من غير شرط قطع ولا إبقاء: فمذهب مالك، والشافعي، وجمهور العلماء: المنعُ منه؛ استدلالًا بعموم هذا الحديث وإطلاقه؛ فإنه إذا خرج عن العموم بيعها بشرط القطع، دخل باقي الصور التي من جملتها الإطلاق، ولأن العادة إذا بيعت الثمرة بعد بدو الصلاح الإبقاء، فصارت العادة كالمشروط، فجاز بيعها حينئذ مطلقًا، وبشرط القطع، وبشرط التبقية. وما بعد الغاية يخالف ما قبلها إذا لم يكن من جنسها، والغالب السلامة في بيعها بعد بدو صلاحها؛ بخلاف ما قبله، ثم إذا بيعت بعد بدو صلاحها بشرط التبقية، أو مطلقًا، لزم البيع بتبقيتها إلى أوان الجداد، وحيث هو العادة من غير منازعة ولا خصام، وبه قال مالك، والشافعي -رحمه الله تعالى-، وقال أبو حنيفة -رحمهم الله تعالى-: يجب بشرط القطع، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بيع الثِّمَارِ حَتى تُزْهِيَ، قِيل: وَمَا تُزْهِي؟ قال: "تَحْمَرُّ"، قَالَ:: "أَرَأَيْتَ إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيه؟! "(1).
أَمَّا قولُه: "حَتَّى تُزْهِيَ" فقد أنكر بعض أهل اللغة ذلك، وقال: لا يقال أزهت الثمرة تُزهي، وهذه الرواية تردُّ عليه، وورد في "صحيح مسلم":"حَتَّى تَزْهُوَ" من: زهت تزهو، وأنكرها بعضهم، وقال: لا يقال: زهت تزهو، وإذا يقال زهت تزهي، والصواب جوازه؛ لما ثبت في "صحيح مسلم"، فيكون حينئذ فيها لغتان: زَهَتْ وَأَزْهْت، قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يُزهي: إذا احمرَّ أو اصفرَّ، وقال الأصمعي: لا يقال في
(1) رواه البخاري (2094)، كتاب: البيوع، باب: بيع المخاضرة، ومسلم (1555)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح.
النخل: أزهى، إنما يقال: زهى، وقال الخليل: أزهى النخل: بدا صلاحه، وحكاهما أبو زيد لغتين، وقال الخطابي: يروى: حتى يزهو، والصواب في العربية: حتى تزهي، والإزهاء في الثمر أن يحمرَّ أو يصفرَّ، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل صلاحها من الآفة، وقال الجوهري: الزَّهو بفتح الزاي، وأهل الحجاز يقولون بضمِّها، وهو البُسْر الملون، يقال: إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل، فقد ظهر فيه الزهو، وقد زها النخل زهوًا، وأزهى لغةٌ، فالزيادة من الثقة مقبولة في الرواية والنقل، ومن نقل شيئًا لم يعرفه غيره، قبلناه إذا كان ثقة (1).
ولا شك أن الإزهاء يغير لون الثمرة إلى حال الطيب، والعلة في منع بيع الثمار قبل الازهاء يعرضها للجوائح، وقد أشار إلى ذلك في هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم:"أَرَأَيتَ إذا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَستَحِلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيه؟! ".
وفي هذا الحديث دليل: على منع بيع الثمرة قبل الإزهاء، وقد تقدم الكلام عليه مفصلًا في الحديث قبله.
وفيه دليل: على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط مكاملة؛ لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي، وبأوله يحصل المسمى.
وفيه دليل: على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث ينطلق عليها أنها أزهت بإزهاء بعضها مع حصول المعنى، وهو الأمن من العاهة غالبًا، ولولا وجود المعنى، كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها قد لا يكتفى به؛ لكونه مجازًا.
وفيه دليل: على أن مال الغير لا يَحِلُّ ولا يُستحل إلا بالوجوه الشرعية لا بالحلية، ولا ببعض شروط الحل دون بعض.
(1) انظر: "العين" للخليل (4/ 73)، و"معالم السنن" للخطابي (5/ 41)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 312)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 156).