الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتبايعين، أو أحدهما، لكن الفقهاء فسروا انقطاع خيار المجلس بالتخاير، إما لإمضاء البيع، أو فسخه، ولم يذكروا أنه إذا شرط أنه يكون مسقطًا لخيار المجلس، بل قالوا: خيار المجلس ثابت بأصل الشرع، لا يسقطه شيء، حتى قالوا: لو تبايعا، وشرطا عدم الخيار مطلقًا، أن فيه ثلاثة أوجه للشافعي:
أحدها: عدم صحة البيع، وهو الأصح عندهم.
والثاني: صحة البيع، وثبوت الشرط؛ حيث إن ثبوته من جهة الشرع.
والثالث: صحة البيع، وينتفي الشرط؛ حيث إن ثبوت الخيار إنما هو لحق المتبايعين، فإذا أسقطاه، سقط، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أو قال: حَتَّى يَتَفرَّقا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ برَكَةُ بَيْعِهِمَا"(1).
أما حَكِيم: فهو -بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف-، ويشتبه بحُكيم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف-.
وأَمَّا حِزَام: فهو -بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المفتوحة-، ويشتبه بحَرام -بفتح الحاء المهملة وبالراء-، والله أعلم.
وهو حَكِيمُ بنُ حِزَامِ بنِ خويلدِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العزى بنِ قصيِّ بنِ كلابِ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، كنيته: أبو خالد، أسلم عام الفتح، وشهد بدرًا مشركًا، وكان إذا اجتهد في يمينه يقول: والذي نجاني أن أكون قتيلًا يوم بدرٍ (2)! وروي عنهُ أنه قال: ولدت قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة، وأنا أعقل
(1) رواه البخاري (1973)، كتاب: البيوع، باب: إذا بيّن البيعان ولم يكتما ونصحا، ومسلم (1532)، كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(3071)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(15/ 128).
حين أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله حين وقع نذره، وذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين (1).
وولد حكيم في جوف الكعبة، ولا يُعرف من وُلد فيها غيره، ورُوي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد فيها، وهو ضعيف لا يصح، وممَّن نصَّ على ضعفه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" (2). وعاش مئة وعشرين سنةً: ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، والمراد بالإسلام: من حين ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ظهورًا فاشيًا، واشتهرت دعوته إلى الإسلام دعاءً ظاهرًا، وبالجاهلية ما قبل ذلك، ولم يرد من حين أسلم حكيم؛ لأنه مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، فلو أراد من حين أسلم، لكان عاش في الإسلام ستًّا وأربعين سنةً، لا ستين، ولو أراد من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم، لكان سبعًا وستين سنة، ولو أراد من الهجرة، لكان أربعًا وخمسين سنة، فتعين ما ذكرناه، والله أعلم.
روي له عن رسول صلى الله عليه وسلم أربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة منها، وروى عنه سعيد بن المسيب، وجماعة من التابعين، وروى عنه أصحاب السنن والمساند (3).
وتقدم في الحديث قبله الكلام على ثبوت خيار المجلس وما يتعلق به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا"؛ أي: بيَّن كلُّ واحد منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه، من عيب ونحوه في السلعة والثمن، وصدق في ذلك، وفي الإخبار بالثمن وما يتعلق بالعوضين، فالصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(6043)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(15/ 100).
(2)
انظر: "مثير الغرام الساكن الى أشرف الأماكن" لابن الجوزي (ص: 293).
(3)
وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 70)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 419)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 202)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 549)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 362)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 93)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 58)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 169)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 170)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 44)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 112)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 384).
الجنة، ومعنى "بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا"؛ أي: حصل النماء والزيادة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإنْ كَتَمَا وَكَذَبا، مُحِقَتْ برَكَةُ بَيْعِهِمَا"؛ أي: ذهبت بركته، وهي الزيادة والنماء، وقد روي مرفوعًا:"التاجرُ الصَّدوقُ معَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء والصَّالحين"(1)، وقد تكلم العلماء على حقيقة الصدق وأقله ودرجاته، فحقيقته: السعي عن مطالعة النفس بحيث لا يحصل لها إعجاب بالعمل، وأقله ما قاله القشيري -رحمه الله تعالى-: استواء السر والعلانية (2)، وقال سهل التستري رحمه الله. لا يشم رائحة الصدق، عبدٌ داهن نفسه أو غيره (3)، ودرجاته غير منحصرة.
وبعد ذلك كلِّه: فالصادق مسؤول عن صدقه، قال الله تعالى:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8].
وفي الحديث دليل: على ثبوت خيار المجلس.
وفيه دليل: على وجوب الصدق في البيوع؛ بذكر مقدار أصل الثمن في الإخبار، وما في الثمن أو السلعة من عيب وغيره.
وفيه دليل: على تحريم الكذب في ذلك.
وفيه: الحث على تعاطي الصدق، وعلى منع تعاطي الكذب.
وفيه: أنَّ الصدق سبب البركة، والكذب سبب لمحقها.
وفيه دليل: على ذكر الصدق، وإن ضرَّ ظاهرًا، وعلى ترك الكذب، وإن زاد ظاهرًا؛ فإنه يضرُّ باطنًا وظاهرًا، والله أعلم.
* * *
(1) رواه الترمذي (1209)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في التجَّار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وقال: حسن، والدارمي في "سننه"(2539)، والدارقطني في "سننه"(3/ 7)، والحاكم في "المستدرك"(2143)، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
انظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 211).
(3)
رواه السلمي في "آداب الصحبة"(ص: 74).