المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

له، فإنهم اختلفوا في وجوب الكفارة، ومدار جميعهم في دليلهم - العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار - جـ ٢

[ابن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌باب التشهد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الذكر عقيب الصلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب العيدين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الكسوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الاستسقاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌كتاب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الصيام

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب الصوم في السفر وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السَّابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب أفضل الصِّيام وغيره

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السَّادس

- ‌الحديث السَّابع

- ‌الحديث الثَّامن

- ‌باب ليلة القدر

- ‌الحديث الأَوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌كتاب الحجّ

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب ما يَلْبسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّياب

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌بَابُ الفِدْيةِ

- ‌باب حُرمة مكَّة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌باب دخول مكَّة وغيره

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التَّمتُّع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الهدي

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌باب فسخ الحجِّ إلى العُمْرَةِ

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب المُحْرِم يأكل من صيد الحلال

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما نُهي عنه من البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب السَّلَمِ

- ‌الحديث الأول

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الرِّبَا والصرف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

الفصل: له، فإنهم اختلفوا في وجوب الكفارة، ومدار جميعهم في دليلهم

له، فإنهم اختلفوا في وجوب الكفارة، ومدار جميعهم في دليلهم على الإفساد والكفارة قصور حالة المجامع ناسيًا عن غيره فيما يتعلق بالعذر بالنسيان، فمن أراد إلحاق المجامع بالمنصوص عليه، فإنما طريقه القياس، والقياس مع الفارق متعذر، إلا إذا بَيَّنَ القائسُ أن الوصف الفارق ملغى.

ثم إن أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - اتفقوا على أن الأكل والشرب القليل ناسيًا لا يفطر، واختلفوا في الكثير على وجهين: أصحهما عند الأكثرين منهم: لا يفطر؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيًا من غير تقييد بكثرة أو قلة، وقياسًا على الجاهل بكون الأكل مفطرًا؛ بأن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ، وكان يجهل مثل هذا؛ فإن صومه لا يبطل اتفاقًا، والله أعلم.

* * *

‌الحديث السابع

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! هَلَكْتُ، قَالَ:"مَا لَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ -وفي رواية: أَصَبْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُها؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ تَجدُ إطْعَامَ سِتيِّنَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ: لَا، فَمَكَثَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ: المِكْتَلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَيْنَ السَّائِلُ؟ "، قَالَ: أَنَا، قَالَ:"خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَوَاللهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْها -يُرِيدُ: الحَرَّتَينِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ، ثُمَّ قَالَ:"أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"(1).

(1) رواه البخاري (1834)، كتاب: الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، فتصدق عليه، فليكفِّرْ، ومسلم (1111)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، وهذا لفظ البخاري.

ص: 851

أما الرجل المجامِع، فهو مبهَم في الروايات كلِّها، لا أعلم تسميتَه في رواية ولا نقل.

وقوله: "يا رسول الله! هلكت"؛ أي: وقعت في الإثم والمخالفة بفعل ما حرم علي فعلهُ في الصوم، وهو الجماع فيه، وفي لفظ لمسلم:"وَطِئْتُ امرأتي في رمضانَ نهارًا"، ورواه مسلم، وأبو داود في "سننه": أنه قال: "يا رسولَ الله! احترقتُ"(1)، وروي في بعض طرق الحديث الضعيفة:"هلكتُ وأهلكتُ"(2)، واستدل بها بعضهم على مشاركة المرأة إياه في الجناية، واتفق الحفاظ على ضعفها، وأنها غير محفوظة، وبينوا من رواها ومن دخلت عليه، وضعفوه، والله أعلم.

قوله: "أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر"، العرق -بفتح العين والراء- في الرواية واللغة، وروي بإسكان الراء، وهو غلط أو ضعيف، وقد فسره في الحديث: المِكْتَل، وهو: بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق-، ويقال للعرق: الزبيل -بفتح الزاي من غير نون-، والزنبيل -بكسر الزاي وزيادة نون-، قال ابن دريد: سمي زبيلًا؛ لأنه يُحمل فيه الزِّبل، ويقال له: القُفَّة، والسفيفة -بفتح السين المهملة وبالفاءين-، والفَرَق عند الفقهاء: ما يسع خمسةَ عشرَ صاعًا، وهي ستون مُدًّا، لستين مسكينًا، لكل مسكين مد (3).

قوله: "فوالله ما بين لابتيها"، اللابتان: الحَرَّتان، والمدينة بينَ حَرَّتين، والحرَّةُ: الأرض الملبسة حجارة سوداء إذا كانت بين جبلين، ويقال: لابة،

(1) رواه مسلم (1112)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، وأبو داود (2394)، كتاب: الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان.

ورواه البخاري أيضًا (6436)، كتاب: المحاربين، باب: من أصاب ذنبًا دون الحد فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيًا، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 209)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 227).

(3)

انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 105)، و"الزاهر" للأزهري (ص: 165)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 225).

ص: 852

ولوبة، ونوبة، حكاهن أبو عبيد، والجوهري، ومن لا يُحصى من أهل اللغة، قالوا: ومنه قيل للأسود: لوبي، ونوبي -باللام والنون-، قالوا: وجمع اللابة: لوب، ولاب، ولابات، وهي غير مهموزة (1).

قوله: "أهلُ بيت أفقرُ من أهل بيتي"، أفقرُ مرفوعٌ نعتٌ لأهلُ بيت.

وقوله: "حتى بدت أنيابه"، الأنباب: جمع ناب، وهي الأسنان التي خلف الرباعية، وضحكه صلى الله عليه وسلم يحتمل التعجبَ من حال السائل وتبيانه؛ حيث كان أولًا محترقًا، هالكًا، متلهفًا، حاكمًا على نفسه بذلك، ثم انتقل إلى طلب الطعام لنفسه وعياله، ويحتمل أنه من رحمته صلى الله عليه وسلم به، وشفقته عليه، وإطعامه هذا الطعام بعد أن أمره بإخراجه، وإحلاله له.

وفي هذا الحديث أحكام كثيرة:

منها: وجوب السؤال عن علم ما يفعله الإنسان مخالفًا للشريعة.

ومنها: الخوف من سوء عاقبته.

ومنها: جواز إظهار المعصية لمن يرجو منه تخليصه من إثمها وعاقبتها.

ومنها: عدم تعزيره عليها مع وجوب الكفارة إذا فعلها جاهلًا، وكانت لا حدَّ فيها، خصوصًا إذا جاء مستفتيًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه، مع اعترافه بالمعصية، لكنه باعترافه بها يقتضي أن يكون فعله إياها كان وهو عالم بأنها معصية، لا جاهل؛ فإن مجيئه مستفتيًا معترفًا بالهلاك يقتضي العلم والندم والتوبة، والتعزيرُ استصلاح، ولا استصلاحَ مع الصلاح؛ فإنه لو عزرنا كلَّ من جاء يستفتي عن مخالفة، أدى ذلك إلى ترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في المخالفات والخروج منها، وذلك مفسدة عظيمة يجب دفعها، كيف والمفتي في زماننا لم تكن إليه إقامة التعزيرات، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الحاكمَ والإمامَ

(1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 315)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 465)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 309)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 746)، (مادة: لوب).

ص: 853

والمفتيَ والمشرع، ولم يُقم عليه التعزير بقول ولا فعل.

قال البغوي في "شرح السنة"(1): وأجمعت الأمة على أن [من] جامع متعمدًا في نهار رمضان يفسد صومه، وعليه القضاء، ويعزَّر على سوء صنعه.

قال بعض أصحاب الشافعي: ومن جامع امرأته حائضًا، وقلنا: يكفِّر، عُزِّر بلا خلاف، وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي فيما يجب التعزير فيه مع وجوب الكفارة، قال: وفي المجامع في رمضان، وفي الظهار والقبل وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لما ذكرنا، وأرجحهما عندهم: الوجوب، قالوا: لأن الكفارة إنما وجبت لانتهاك حرمة الوقت، ولقول الزور، وفوات الروح، والتعزيرُ يجب لحق الله تعالى في الرحم والمخالفة، والله أعلم.

ومنها: استعمال الكنايات فيما يُستقبح ظهوره بصريح لفظه؛ كالمواقعة والإصابة ونحوهما عن النكاح النيك.

ومنها: وجوب الكفارة بإفطار المجامع عامدًا، وهو مذهب جميع العلماء سوى من شذ منهم، وقالوا: لا تجب، وهو قول للشافعي ضعيف، قال: لأنها لو وجبت، لما سقطت بالإعسار، قلنا: قولكم: سقطت بالإعسار يقتضي تقدم وجوب حتى يقتضى السقوط، وإلا لما صح السقوط الَّذي هو بمعنى الخروج، كيف والأصل والقياس الوجوب، والمسبب لا يبطل السبب؛ فإن الإعسار مسبب، والوطء في رمضان سبب، والوجوب إنما يسقط للاستحالة أو المشقة، ولا استحالة ولا مشقة؛ فإن المطالبة بالكفارة إنما يكون عند القدرة، ومع الإعسار لا قدرة، فحينئذٍ لا يرفع الإعسار الوجوب من غير معارض سائغ.

فإن قيل: سقطت بمقارنة الإعسار؛ لأنها لم تؤد، ولا أعلمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنها تبقى في الذمة، فإنها لو بقيت، لأعلم به صلى الله عليه وسلم، كيف والبيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب: أن الحديث دل على استقرار الكفارة؛ بدليل إخبار السائل بالعجز عن العتق والصيام والإطعام، ومجيء العَرَق وإعطائه إياه؛ ليخرجه كفارة، فلو

(1) انظر: "شرح السنة" للبغوي (6/ 284).

ص: 854

لم تجب، لما أمره بإخراجها، ولو سقطت بالعجز، لم يكن عليه شيء، فدل على ثبوتها في ذمته، وإذنه له بإطعام عياله للاضطرار وإزالته تجب على الفور، والكفارة لا تجب على الفور، بل على التراخي، خصوصًا في هذا الحال، وهي صدقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"خيرُ الصدقةِ ما كانَ عن ظهرِ غِنًى"(1)، فلم يكن له أن يتصدق على غيره، وتأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة جائزٌ عند جماهير الأصوليين، والله أعلم.

ولو جامع ناسيًا، فهل يفطر، وتجب عليه الكفارة، أم لا يفطر، ولا تجب، أم يجب القضاء والإمساك ولا كفارة؛ ثلاثة مذاهب تقدم ذكرُها في الحديث قبله، والصحيح عند الشافعي: أنه لا يفطر، ولا كفارة؛ كالأكل ناسيًا، واحتج من قال بوجوبها بأنه حكم ورد على جواب سؤال من غير استفصال عن عمد أو نسيان، فنزل منزلة العموم؛ لأن الحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ورد عقب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم، كان حملُه على العموم أولى؛ حملًا على الفوائد المتكثرة، والجواب عن ذلك: بأن حالة النسيان في حق هذا السائل بعيدة جدًّا بالنسبة إلى الجماع، ومحاولة مقدماته، وطول زمانه، وعدم اعتياده في كل وقت، فلم يحتج إلى الاستفصال بناء على الظاهر، وقد قال: هلكت، فإنه يشعر بتعمده ظاهرًا، ومعرفته بالتحريم، والله أعلم.

ومنها: جريان وجوب العتق ثم الصوم ثم الإطعام مرتبا لا مخيرًا، وهو قول جميع العلماء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة"(2)، ولا يعرف عن مالك في ذلك غير الإطعام وعدم جريان العتق والصوم في كفارة المفطر.

قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله: وهي معضلة زَبّآء ذات وبر، يهتدى إلى ترويجها مع مصادمتها الحديث.

(1) رواه البخاري (1361)، كاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (1034)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.

(2)

انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (1/ 218).

ص: 855

غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، وذكروا وجوهًا في ترجيح الطعام على غيره، منها: أن الله تعالى ذكره في القرآن رخصة للقادر؛ يعني: في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، ونسخ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذكر والتعيين للإطعام لاختيار الله تعالى له في حق الفطر.

ومنها: جريان حكمه في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان.

ومنها: مناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصوم الَّذي هو إمساك عن الطعام والشراب، وهذه الوجوه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البداءة بالعتق ثم الصوم، ثم بالإطعام، فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب، فلا أقلَّ من أن تقتضي استحبابه، وقد وافق بعض أصحاب مالك على استحباب الترتيب على ما جاء في الحديث، وبعضهم قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدائد تكون بالإطعام، وبعضهم فرق بين الإفطار بالجماع والإفطار بغيره: يكفر بالإطعام لا غير، وهذا أقرب مخالفة للنص من الأول.

أما ترتيبها والتخيير فيها، فقد اختلف فيه مالك والشافعي، فقال مالك: إنها على التخيير، ومذهب الشافعي أنها على الترتيب، وبه قال أصحاب مالك، واستدل على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال بأن قوله أولًا:"هل تجد رقبة تعتقها؟ "، ثم رتب الصوم بعد العتق، ثم الإطعام بعده.

ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك، وقال: مثل هذا قد يستعمل في التخيير، وقال: فيدل على الأولوية مع التخيير، وهو غير مسلم؛ فإن ذكر هذه الأشياء الثلاثة مرتبة في معرض البيان والسؤال بمنزلة الشرط للحكم، ومقتضى ذلك الترتيب لا التخيير، والله أعلم.

ومنها: أن إطلاق الرقبة يدل على جواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة، وهو قول أبي حنيفة وغيره، وقال الشافعي: لا يجوز إلا رقبة مؤمنة؛ حملًا

ص: 856

للمطلق على المقيد، وأبو حنيفة يحمل المقيد على المطلق، فمن يشترط الإيمان فيها، يقيد الإطلاق هاهنا بالتعيين به في كفارة القتل.

وهذا الحكم مبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يتقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد، فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، لكن الأقرب أنه قيد بالقياس، والله أعلم.

ثم شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب التي تضر بالعمل إضرارًا بينًا.

ومنها: أنه ينتقل من الصوم إلى الإطعام عند عدم استطاعته، وفي بعض طرق الحديث: أن الرجل قال: وهل أُتيت إلا من الصوم؛ فاقتضى ذلك عدم استطاعته بسبب شدة الشَّبق وعدم الصبر في الصوم عن الوقاع، لكنها رواية ضعيفة، ونشأ منه انظر للشافعية في أن هذا هل يكون عذرًا مرخصًا في الانتقال إلى الإطعام في حق من هو شديد الشبق؟ فقال به بعضهم.

ومنها: أنه إذا قدر على الإطعام دون غيره، وجب إطعامه العددَ المذكور في الحديث، وهو ستون مسكينًا، فلو ضاق عليه الإطعام الَّذي هو مصدر أطعم إلى ستين، لا يكون ذلك موجودًا في حق من أطعم عشرين مسكينًا ثلاثة أيام، ولو قيل بإجزاء ذلك، كان عملًا بعلة مستنبطة تعود على ظاهر النص بالإبطال، وهو غير جائز في أصول الفقه.

وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة على اشتراط إطعام ستين مسكينًا، وحكي عن الحسن البصري: أنه إطعام أربعين مسكينًا عشرين صاعًا، ثم جمهور المشترطين ستين قالوا: لكل مسكين مد، وهو ربع صاع، وقال أبو حنيفة والثوري: لكل مسكين نصف صاع.

ومنها: أنه إذا عجز عن الإطعام، ودُفع إليه ما يكفر به طعامًا، وكان محتاجًا إليه هو وعياله، فصرفه في ذلك، هل يقع كفارة، وتبرأ به ذمته، ويلزم من ذلك سقوطها عن المعسر، أو بقاؤها في ذمته إلى أن يوسر، وقرن سقوطها عنه بصدقة الفطر؛ حيث يسقط للإعسار المقارن لاستهلال الهلال، وتقدم الكلام عليه قريبًا.

ص: 857

وقد ادعى بعضهم أن هذا الحكم خاص بهذا الرجل، وادعى غيره أنه منسوخ، وهما ضعيفان؛ إذ لا دليل على التخصيص، ولا على النسخ؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"أطعمه أهلك" عطية لا عن جهة الكفارة مقدمة في هذا الحال على الكفارة، مع استقرار وجوبها أولًا، وعدم رفعه بالحاجة التي هي واجبة مترتبة في الذمة لثبوته أول الحديث، والسكوت عن بيان بقائه لتقدم العلم به إما لأن ما ثبت في الذمة يتأخر بالإعسار، ولا يسقط؛ للقاعدة الكلية والنظائر؛ كالمفلس، أو الدليل يدل عليه أقوى من السكوت.

ومنها: وجوب القضاء على مفسد الصوم بالجماع، وبه قال جمهور الأئمة، وقال الأوزاعي: إن كفر بالعتق، أو الإطعام، صام يومًا مكانه، وإن يكفر بالشهرين، أجزأه عنه، وذهب بعضهم إلى عدم وجوب القضاء؛ لسكوته صلى الله عليه وسلم، والصحيح: وجوبه، والسكوتُ عليه لتقريره وظهوره، وقد روى أبو داود في بعض طرق هذا الحديث من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: "كلْه أنتَ وأهلُ بيتك، وصُمْ يومًا"(1)، وروي القضاء في غير أبي داود، من حديث عمرو بن شعيب، وسعيد بن المسيب، وهذا الخلاف في وجوب القضاء موجود في مذهب الشافعي ثلاثة أوجه لأصحابه، كالمذاهب الثلاثة، وفي حق الرجل، أما المرأة، فيجب عليها القضاء بلا خلاف.

ومنها: أن ما ثبت في حق الرجل من الكفارة إذا مكنت، ثبت في حق المرأة؛ لأنه ما ثبت في حق واحد ثبت في حق جميع الناس؛ لاستوائهم في الحكم، كيف إذا كانت المرأة ممكنة، فالتحريم منسوب إليها -أيضًا- بالتمكين، وهي آثمة به، مرتكبة كبيرة من الكبائر كما في الرجل، وقد أضيف اسم الزنا إليها في كتاب الله تعالى، ومدار الوجوب على هذا المعنى، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين

(1) رواه أبو داود (2393)، كتاب: الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والدارقطني في "سننه"(2/ 190)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 226).

ص: 858

عنه، والشافعي في أحد قوليه: إلى أنها إذا مكنت طائعة، ووطئها الزوج، وجبت عليها كفارة -أيضًا-، وللشافعي قول آخر: أنه لا تجب عليها، بل يختص الوجوب بالزوج، وهو الراجح المنصوص عند أصحابه.

ثم اختلفوا هل هي واجبة على الزوج لا تلاقي المرأة وهي كفارة واحدة تقع عنهما جميعًا؟ وفيه قولان مخرجان من كلام الشافعي رحمه الله، واحتج لعدم الوجوب عليها بأمور لا تتعلق بالحديث، وأمور تتعلق به، وهي: استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها، مع الحاجة إلى الإعلام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنيسًا أن يغدو على امرأة العَسيف، فإن اعترفت، رجمها، فلو وجبت عليها، لأعلمها صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث أنيس، والذين أوجبوا الكفارة عليها، أجابوا بوجوه:

أحدها: أنا لا نسلم الحاجة إلى إعلامها، فإنها لم تعترف بسبب الكفارة، وإقرار الرجل لا يوجب عليها حكما، وإنما تمس الحاجة إلى إعلامها إذا ثبت الوجوب في حقها، ولا يثبت على ما بينا.

وثانيها: أنها قضية حال يتطرق إليه الاحتمال لا عموم لها، كيف وهذه المرأة يجوز أن تكون ممن لا تجب عليها الكفارة بهذا الوطء؛ إما لصغرها، أو جنونها، أو كفرها، أو حيضها، أو طهارتها من الحيض في أثناء اليوم؟ واعترض على هذا بأن علمَ النبي صلى الله عليه وسلم بحيض امرأة الأعرابي أو عدمه عسر، ولو كان علمه، ولم يخبره به الأعرابي، ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم كان مستحيلًا، وباقي الأعذار المذكورة من الصغر والجنون وغيرها تنافي التحريم على المرأة، وينافيها قوله فيما روي في الحديث، وإن كان ضعيفًا:"هلكت وأهلكت"(1)، فعلى المعترض بيان صحة هذه الرواية وجودة هذا الاعتراض.

وثالثها: أنا لا نسلم عدم بيان الحكم بأن بيانه في حق الرجل بيان في حق المرأة؛ لاستوائهما في تحريم الفطر، وانتهاك الحرمة، مع العلم بأن إيجاب

(1) تقدم تخريجه.

ص: 859

الكفارة هو ذاتي، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر إيجاب الكفارة على سائر الناس غير الأعرابي؛ لعلمه بالاستواء في الحكم، وهذا وجه قوي، والذي حاولوه في التعلل عليه بأن يبنوا في المرأة معنى يمكن أن يظن به اختلاف حكمها مع حكم الرجل، بخلاف غير الأعرابي من الناس؛ فإنه لا معنى يوجب اختلاف حكمهم مع حكمه، وذلك المعنى الَّذي أيدوه في حق المرأة هو أن مؤن النكاح لازمة على الزوج؛ كالمهر، وثمن ماء الغسل، فيمكن أن يكون هذا منه، - وأيضًا - فجعلوا الزوج في باب الوطء هو الفاعل المنسوب إليه الفعل، والمرأة محل، فيمكن أن يقال: الحكم مضاف إلى من ينسب إليه القول، فيقال: للواطئ: واطئ ومواقع، ولا يقال للمرأة ذلك، وليس هذا أمر بين، فإن المرأة يحرم عليها التمكين، وهي آثمة به، مرتكبة كبيرة كالرجل، كما ذكرنا أولًا، والله أعلم.

ومنها: وجوب التتابع في صوم الشهرين، وهو مذهب الجمهور، وأجمع عليه أئمة الفتوى، ونقل عن ابن أبي ليلى: أنه لا يلزم فيها التتابع.

ومنها: أنه لا مدخل لغير هذه الخصال الثلاث في الكفارة، ونقل عن بعض المتقدمين فيها دخول البدنة بعد الرقبة إذا تعذرت، رواه عطاء عن سعيد، وقيل: إن سعيدًا أنكره، والله أعلم (1).

* * *

(1) جاء في خاتمة نسخة "ش" ما نصه: نجز الجزء الأول من كتاب "العدة في شرح العمدة" بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، يتلوه في الجزء الثاني، باب: الصوم في السفر وغيره، ووافق الفراغ منه على السنة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر الله المحرم سنة ست وسبع مئة.

ص: 860