الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوتر
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: "مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشِيَ الصُّبْحَ، صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى"، وَأَنَّه كَانَ يَقُولُ:"اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا"(1).
أما ابن عمر، فتقدم الكلام عليه.
وأما الرجل السائل، فلا أعلم اسمه بعد الكشف عليه.
وأما المنبر: فهو مأخوذ من النبر، وهو الارتفاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاةُ الليل مثنى مثنى"، فهكذا هو في "صحيح البخاري ومسلم".
وقد تمسك به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، سواء كان بالليل أو النهار، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة رحمه الله: صلاة نفل الليل مثنى مثنى، وأما نفل النهار، فرباع؛ حيث إن صلاة النهار، وهي الظهر والعصر، رباعيتان، فنفله كفرضه، وأما الليل، فصلاته
(1) رواه البخاري (460)، كتاب: المساجد، باب: الحِلَق والجلوس في المسجد، ومسلم (749)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، وهذا لفظ البخاري.
فرضًا ثلاثية ورباعية، وقد نص الشارع على أن نفله مثنى، فلا يتعدى.
أجاب الأولون والجمهور بأنه صح بالإسناد الصحيح الذي أجاب البخاري بصحته، وهو في "سنن أبي داود والترمذي": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاةُ الليل مثنى مثنى"(1)، لكن ظاهر لفظ الحديث في "الصحيحين" يقتضي حصرَ صلاة الليل فيما هو مثنى، وبعد ثبوت لفظ النهار، ارتفع الحصر في الليل، واقتضى أن حكم النهار كالليل في كون صلاة نفله مثنى، وهو المقصود؛ إذ ذلك ينافي الزيادة؛ لأنه لو جازت الزيادة، لما انحصرت صلاة الليل والنهار في المثنى، لكن الشافعي حمل ذلك على الأفضل والأولى، وهو أن يسلم من كل ركعتين، فلو جمع ركعات بتسليمة واحدة، أو تطوع بركعة واحدة، جاز، وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لو تطوع بأزيد من ركعتين شفعًا أو وترًا، فلا يزيد على تشهدين، ثم إن كان المتنفل به شفعًا، فلا يزيد بين تشهدين على ركعتين، وإن كان وترًا، فلا يزيد بينهما على ركعة، فعلى هذا إذا تنفل بعشر ركعات مثلًا، جلس بعد الثامنة، ولا يجلس بعد السابعة، ولا ما قبلها؛ لأنه يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين، وإن تنفل بتسع أو بسبع مثلًا، فلا يزيد بين التشهدين على ركعة، فيجلس بعد الثامنة في التسع، وبعد السادسة في السبع، ثم يصلي الركعة، ثم يجلس، ولو اقتصر على جلوس واحد في ذلك كله، جاز، وإنما حمله على ما ذكر أن النوافل تبع للفرائض، وهي شبهها، والفريضة الوتر للنهار في المغرب، وليس بين التشهدين فيها إلا ركعة واحدة، والفرائض الشفع ليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعتين، وليس بمتفق على ذلك عند أصحاب الشافعي، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى يوم الفتح ثمان ركعات، سلَّم من كل ركعتين، وكل واحدة من صلاة العيد والاستسقاء ركعتان، وهذه كلها من صلاة النهار، والله أعلم.
(1) رواه أبو داود (1326)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، والترمذي (437)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى.
ثم لفظ الحديث كما اقتضى ظاهره عدم الزيادة على مثنى، وكذلك يقتضي عدم النقصان منهما، وقد اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وطائفة: يجوز التنفل بركعة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" وهذا أولى من الاستدلال بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة، لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب، فإنه ضعيف، ثم قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة الليل مثنى"، مع قوله:"فإذا خشي الصبحَ أوترَ بركعة واحدة توترُ له ما صلى"، يقتضي تقديمَ شفعٍ على الوتر، فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع، لم يكن آتيا بالسنة، وظاهر مذهب مالك رحمه الله لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الوتر بأقل من ثلاث ركعات، ثم قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا خشي الصبح، أوتر بواحدة" يقتضي انتهاء وقت الوتر إلى طلوع الفجر الثاني يخرج بطلوعه، وهو المشهور في مذهب الشافعي، وهو قول جمهور العلماء، ولأصحاب الشافعي وجه أنه يمتد بعد طلوع الفجر حتى يصلي الصبح.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" يقتضي أن يكون الوتر آخر صلاة الليل؛ لأنه أمر أن يجعله آخر صلاته بالليل، ولم يقل أحد بوجوبه فيما أعلم، بل ذهب ذاهب إلى وجوب أصل الوتر، وجعل من جملة ما استدل به على وجوبه هذا الحديث، وليس فيه دليل، بل إن أراد الاستدلال بأن يحمل الصيغة على الندب، فلا يستقيم له أيضًا؛ لما يلزم منه من الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة، ومذهب هذا الذاهب يمنعه، ولا يرى ندبية الوتر، فلا يستقيم له الاستدلال به على الوجوب، ثم جعل الوتر آخر صلاة الليل هو الأفضل؛ لأنه الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله، فلو أوتر ثم أراد التنفل، فهل يشفع وتره بركعة أخرى، ثم يتنفل بما شاء من صلاته؛ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، وإذا لم يشفعه بركعة، وصلى، فهل يعيد الوتر أخيرًا؛ فيه خلاف للمالكية والشافعية، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي ظاهره إعادته، لكنه يتوقف على ألَّا يكون قبله وتر؛ لما جاء من الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا وتران في ليلة" رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن، وابن خزيمة في "صحيحه"(1)، فيلزم من الأمر بجعله آخر الصلاة، ومن قوله:"لا وتران في ليلة" يشفع الوتر الأول، وإن لم يشفعه، أعاد الوترين في ليلة، وإن لم يعد الوتر، لم يكن آخر صلاة الليل وترًا، ومن قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر، منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث، وطول الفصل إن وقع ذلك، فإذا لم يجتمعا، والحقيقة أنهما وتران، ولا وتران في ليلة، فامتنع الشفع، وامتنع إعادة الوتر أخيرًا، ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا"، وهو محمول على الاستحباب، كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك، وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه، ومن قال بإعادة الوتر، فهو -أيضًا- مانع من شفع الوتر الأول محافظة على قوله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا"، ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله:"لا وتران في ليلة"، وقد ينبني الكلام في ذلك على مسألة، وهي أن التنفل بركعة فردة هل يشرع في غير المنصوص عليه؟ وفيه خلاف، فليتأمل ذلك.
وقد رتب الشافعي -رحمه الله تعالى- على هذا المعنى مسألة، وهي أنه لو نذر صلاة، هل يلزمه ركعتان، أو ركعة؟ إن نظرنا إلى واجب الشرع فيه، وهو الصحيح، لزمه ركعتان، وإن نظرنا إلى جائزه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الوتر ركعة من آخر الليل"(2)، لزمه ركعة، والله أعلم.
وأبو حنيفة رحمه الله يخالف في أن الوتر ركعة، وفي أنه لا يجوز التنفل بركعة، قال: إنه ليس في الفرائض صلاة ركعة، فلتكن النوافل كذلك، لكن
(1) رواه أبو داود (1439)، كتاب: الصلاة، باب: في نقض الوتر، والنسائي (1679)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوترين في ليلة، والترمذي (470)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: لا وتران في ليلة، وابن خزيمة في "صحيحه"(1101)، عن طلق بن علي رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (752)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، عن ابن عمر رضي الله عنهما.