الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه مبني على التخفيف، وقد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة بذلك؛ لعظم الأمر فيها، وشدة البلاء في وقوعها، ولأن أكثرها أمور إيمانية غيبية، فتكررها على النفس يجعلها مَلَكة لها، وفيها التعبير عن الاستعاذة بصيغة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يمكن التعبير عنها بغير هذا اللفظ، وهو جائز يحصل به المقصود، فإن معنى أعوذ: أعتصم، لكن الأولى امتثالُ الأمر بقول ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وفي الحديث الرد على أبي حنيفة رحمه الله؛ حيث منع الدعاء في الصلاة إلا بألفاظ القرآن العظيم.
واعلم أن محل الدعاء من الصلاة مواطن:
منها: هذا الموطن بين التشهد والتسليم.
ومنها: دعاء الاستفتاح بين تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة.
ومنها: الدعاء في السجود.
ومنها: الدعاء في الجلوس بين السجدتين.
ومنها: في الركوع.
ومنها: الدعاء في تلاوته فيها، وهو إذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوذ، وقد وردت في كل موطن منها أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة، منها أحاديث خُرِّجَتْ في "الصحيحين" وغيرهما، ويدل أيضًا عليها حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وهو هذا.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاِتي، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا انْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (1).
أما عبد الله بنُ عمرو بن العاص، فتقدم الكلام عليه.
وأما أبو بكر الصديق:
فاسمه عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمانُ بن عامر بن عمرو بن كعب ابنِ سعدِ بنِ تَيْمِ بن مرةَ بنِ كعب بن لؤيِّ بنِ غالبٍ، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وأمه أمُّ الخير سلمى بنتُ صخرِ بنِ عامر بنِ كعبٍ أخي عمرو بن كعب بنِ سعدِ بنِ تيمِ بنِ مرة بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، تلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم[في مرة]، فهي ابنة أخي جده عامر، وهو صخر بن عامر، فتكون ابنةَ عم أبيه، والله أعلم.
أسلم أبوه، وقيل: إن اسمه عتيق، وليس بمشهور، وقيل: إنما سمي به لحسن وجهه، وقيل: إنما سمي عتيقًا؛ لما روي من غير وجه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر عتيقُ الله من النار"(2)، فمن يومئذ سمي عتيقًا، وقال مصعب بن الزبير وغيره: إنما سمي عتيقًا؛ لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به (3)، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم صِدّيقًا (4)، وقال أبو العالية والكلبي في قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، الذي جاء بالصدق: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصدَّق به: أبو بكر رضي الله عنه (5).
(1) رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر.
(2)
رواه الترمذي (3679)، كتاب: المناقب، باب:(17)، وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك"(3557)، عن عائشة رضي الله عنها. وفي الباب: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 22).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 75).
(5)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 228)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (30/ 438).
وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (1)؛ فإنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أول من أظهر إسلامه بسيفه وبيعته النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه (2).
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: وسمي الصديق لبداره إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وقيل: بل قيل له الصديق لتصديقه له في خبر الإسراء.
وكان في الجاهلية وجيهًا، رئيسًا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناف، وهي الرايات في الجاهلية، كان إذا حمل شيئًا، صدقته قريش فيه، وأمضوا حمالته وحمالةَ من قام معه، وإن احتملها غيرُه، خذلوه ولم يصدقوه.
وأسلم على يدي أبي بكر من العشرة: الزبيرُ، وعثمانُ، وطلحةُ، وعبد الرحمن بن عوف.
وهو أول من أسلم من الرجال، وكان له أربعون ألفًا أنفقها كلَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر"(3).
وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة.
(1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 28)، و"التمهيد" لابن عبد البر (22/ 131).
(2)
روى ابن ماجه (150)، في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 404)، وابن حبان في "صحيحه"(7083)، والحاكم في "المستدرك"(5238)، عن عبد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر رضي الله عنه فمنعه الله تعالى بقومه. . . الحديث.
(3)
رواه الترمذي (3661)، كتاب: المناقب، باب:(15)، وابن ماجه (94)، في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 253)، وابن حبان في "صحيحه"(6858)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وزوَّجَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ابنتَه عائشةَ رضي الله عنها، وكان يقال لها: الصديقة بنتُ الصديق، وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلم الناس بحديث التخيير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعُوا لي صاحبي؛ فإنكم قلتم لي: كذبتَ، وقالَ: صدقتَ"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم في كلام البقرة والذئب:"آمنتُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعمرُ"(2)، وما هما [ثَمَّ]، ثم علم صلى الله عليه وسلم منهما بما كانا عليه من اليقين والإيمان.
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! من أحبُّ الناس إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها"(3).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أَمَنَّ الناسِ عليّ في صحبته ومالِه أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقينَّ في المسجد خَوْخَةٌ إلا خوخة أبي بكر"(4).
وعن أَبِي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه قال: حدثني عمرو بن عَبَسة، قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو باركٌ بعكاظ، فقلت: يا رسول الله! من اتبعك على هذا الأمر؟ قال: "حُرٌّ وعبدٌ: أبو بكر، وبلال"، قال: فأسلمت عند ذلك (5).
وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهما حدثه قال: قلت:
(1) رواه البخاري (3461)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا"، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2199)، كتاب: المزارعة، باب: استعمال البقر للحراثة، ومسلم (2388)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه البخاري (3691)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى
المدينة، ومسلم (2382)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة.
يا رسول الله - للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار-: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه، لأبصرنا تحت قدميه، قال:"يا أبا بكر! ما ظنك باثنينِ اللهُ ثالثُهما؟ "(1).
وقال رجل من أبناء أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مجلسِ فيه القاسمُ بن محمدِ بنِ أبي بكر الصديق: واللهِ ما كان من موطن فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا وعليٌّ فيه، فقال القاسم: يا أخي! لا تحلف، قال: هَلُمَّ، قال: بلى ما لا نرده، قال الله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (2)[التوبة: 40].
قال أصحاب المعاني: كانت المعية لفظًا ومعنى، أما اللفظ، فإنه كان يقال لأبي بكر: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال له رجل: يا خليفة الله! قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راض بذلك (3)، وأما المعنى، فإن عناية الله تعالى لم تفارقهما في الدنيا والآخرة، وأجمع الصحابةُ على استخلافه من غير نزاع، وكانت خلافته كالمنطوق بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته في الصلاة، وإنما لم يصرح باستخلافه على أعباء الأمة؛ لأنه لم يؤمر فيه بشيء، بل عرض به صلى الله عليه وسلم تعريضًا قام مقام التصريح، وهو ما رواه الطحاوي عن المزني، عن الشافعي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن شيء، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله! أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ -تعني الموت-، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لم تجديني، فأتي أبا بكر"(4)، قال الشافعي رحمه الله:
(1) رواه البخاري (4386)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، ومسلم (2381)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 92).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37048)، عن ابن أبي مليكة، مرسلًا.
(4)
ورواه البخاري (3459)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا =
في هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه (1).
وكان أبو بكر أعلم الناس بالأنساب وبكل شيء بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشجعَ الناس، وأشدَّهم فهمًا، وأغزرهم علمًا، وأكثرهم رأفة ورحمة، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعتره ما اعترى الصحابةَ من الجزع والقلق وعدم الصبر، حتى إنه رضي الله عنه كان في سرية أسامة بن زيد، فجاء المسجدَ، فوجد الناس مضطربين لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَرُعْه ما الناس فيه، ولم يرجعْ إلى قولهم حتى دخل بيتَ ابنته عائشة رضي الله عنهما، فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات، فقبله بين عينيه، وقال: واللهِ لقد متَّ الموتة التي كتبها الله عز وجل عليك، ثم سجاه، ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس، وقال من جملة قوله: من كان يعبدُ الله، فإن اللهِ حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ثم تلا:{وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، فعلم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات (2)، ثم لم يكن له رضي الله عنه همٌّ إلا أمر المسلمين وأعبائهم، فذهب إلى الأنصار، فتكلم هو وعمر معهم، وقال لهم من جملة قوله: نحن الصادقون وأنتم المفلحون، والله جعلَ المفلحين مع الصادقين، يشير بذلك إلى أن الله تعالى وصفَ المهاجرين بالصادقين، والأنصار بالمفلحين في سورة الحشر، وجعل المفلحين مع الصادقين في سورة براءة، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فرجعوا إليه، وبايعهم وبايعوه في قصة طويلة، وأول من بايعه عمر رضي الله عنهما، ثم
= خليلًا"، ومسلم (2386)، كتاب: الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(1)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 969).
(2)
رواه البخاري (3467)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا"، عن عائشة رضي الله عنها.
تتابع الناس، وقال لهم: لست بخيركم، فإن نسيتُ فذكروني، وإن اعوجَجْتُ فقوموني (1).
فانظر إلى ما جمع تعالى له من التوحيد والتشريع والشجاعة، والثبات، والفهم الثاقب، والعلم الراسخ، واليقين الصادق، والصبر الجميل، إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، والعطايا الفريدة، رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا وزن الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجحَها، ولهذا قال علي رضي الله عنه: من قال: إن أحدًا كان أحقَّ بالخلافة من أبي بكر رضي الله عنه، فقد أعظم الفريةَ، وخَطَّأَ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: واللهِ الذي لا إله إلا هو! لولا أنَّ أبا بكرٍ استُخْلِفَ، ما عُبِدَ اللهُ، فقيل له: مَهْ يا أبا هريرة! ما تقول؟ فأقام الحجة، وأوضح المحجة، حتى صدقوه فيه، وشَهِدوا له بما ذكره فيه (2).
وقال علي رضي الله عنه: رحم اللهِ أبا بكر، أول من جمع ما بين اللوحين (3).
وقال: لا يفضِّلُني أحدٌ على أبي بكر وعمرَ إلا جلدتُه جلدَ المفتري (4).
وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما: ولينا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا، وأحناه علينا (5).
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(20702)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 212)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 303).
(2)
رواه البيهقي في "الاعتقاد"(ص: 345)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(2/ 60).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30229)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 193)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 380).
(4)
رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 575)، والبيهقي في "الاعتقاد" (ص: 358)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(26/ 343).
(5)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(1/ 163)، والحاكم في "المستدرك"(4468)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(7/ 1299)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(3/ 386).
وقال مسروق: حبُّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومعرفة فضلهما من السنة (1).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللَّذَيْنِ من بعدي: أبي بكر وعمر"(2).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اجعلوا إمامكم خيرَكم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامنَا خيرنا (3).
وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله في مجلسه العام: ما ولد لآدم ولد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر، قالوا: صدقت يا أبا بكر، قال له عاصم بن يوسف مولى فضيل بن عياض: يا أبا بكر! ولا يوشع بن نون وصي موسى؟ قال: ولا يوشع بن نون وصي موسى، إلا أن يكون نبيًّا، ثم فسره أبو بكر فقال: قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضل هذه الأمة بعدي أبو بكر"(4)، قال الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي رحمه الله: والأمة مجمعة على ما قال أبو بكر رحمه الله إلا من لا يعتد بخلافه.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول الناس إسلامًا، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه بدرًا والمشاهد كلها، ثم ولي الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين ونصفًا، وقد اختلف فيما بعد السنتين اختلافًا كثيرًا، فأكثرها ستة أشهر، وأقلها ثلاثة أشهر إلا خمس ليال، وحكي قول غريب: أن
(1) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(3/ 112)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 391)، وابن قدامة في "المتحابين في الله" (ص: 69 - 70).
(2)
رواه الترمذي (3662)، كتاب: المناقب، في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 382)، والبزار في "مسنده"(2827)، والحاكم في "المستدرك"(7952)، وغيرهم.
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (22/ 131)، و"الاستيعاب" له أيضًا (3/ 971).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 395).
مدة خلافته عشرون شهرًا، واستكمل بخلافته سن النبي صلى الله عليه وسلم، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه عمر بن الخطاب في المسجد، ودفن في بيت عائشة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في قبره عمر، وعثمان، وطلحةُ وابنه عبد الرحمن رضي الله عنهم، وتوفي يوم الاثنين، وقيل: ليلة الثلاثاء، لثمان، وقيل: لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وكان مرضه خمس عشرة ليلة، ودفن ليلًا.
رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث، واثنان وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بأحد عشر حديثًا، ومسلم بحديث واحد، وروى عنه عمرُ، والبراءُ بن عازب، وابنه عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، والبراء بن عازب، وابنته عائشةُ أم المؤمنين، وعبدُ الله بن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو سروعة عقبةُ بنُ الحارثِ بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيُّ، وخلق سواهم، وروى له أصحاب السنن والمساند.
قالت عائشة رضي الله عنها: لم يقل أبو بكر رضي الله عنه بيتَ شعر في الإسلام حتى مات (1)، وكان هو وعثمان رضي الله عنهما ممن حرَّمَ الخمر في الجاهلية، وهو رضي الله عنه الذي قام بقتال أهل الردَّة، فظهر من فضل دأبه في ذلك وشدته مع لينه ما لم يحتسب، فأظهر الله تعالى دينه، وقُتل على يديه وببركته كلُّ من ارتد عن دين الله، حتى ظهر أمر الله وهم كارهون، وقاتل مانعي الزكاة -أيضًا- حتى رغبوا إلى أدائها.
واختلف في مكثه في الغار هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مجاهد رحمه الله: مكثا فيه ثلاثًا، وقيل: بضعة عشر يومًا، وهو غير صحيح، وله رضي الله عنه من الخطب والمواعظ والحكم وغير ذلك ما يحتمل مجلدات، والله أعلم (2).
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(20507).
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 169)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 1)، و"المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (1/ 593)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي =
أما قوله: "ظلمًا كثيرًا"، فهو في معظم الروايات مضبوط بالثاء المثلثة، وفي بعض روايات مسلم: كبيرًا -بالباء الموحدة-، وكلاهما حسن، قال شيخنا العلامة أبو زكريا النووي رحمه الله: فينبغي أن يجمع بينهما -يعني للاحتياط على التعبد- بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليه خصوصًا في الدعاء، فيقال: ظلمًا كثيرًا كبيرًا" (1).
وقد احتج البخاري في "صحيحه"(2)، والبيهقي في "سننه"(3)، وغيرهما من الأئمة بهذا الحديث للدعاء آخر الصلاة، وهو استدلال حسن صحيح؛ فإن قوله:"في صلاتي" يعمُّ جميعَها، ومن مظانِّ الدعاء في الصلاة هذا الموطن، فتعليم النبي صلى الله عليه وسلم تقريرٌ منه صلى الله عليه وسلم له لسؤاله وجواز العمل به، فمقتضى الحديث الأمرُ به من غير تعيين لمحل، ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء فيه، جاز، لكنه يترجح فعله في موطنين: في السجود، وبعد التشهد قبل السلام؛ فإنه قد ثبت الأمر بالدعاء فيهما خصوصًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"وليتخيرْ بعدَ ذلكَ من المسألةِ ما شاء".
قال شيخنا أبو الفتح ابن دقيق العيد الحافظ، المدقق، المحقق -رحمه الله تعالى-: ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد؛ لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل (4).
= عاصم (1/ 68)، و"المعجم الكبير" للطبراني (1/ 51)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 64)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 184)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 28)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 963)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (30/ 3)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 235)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 310)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 472)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 282)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 2)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 163)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 169)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 276).
(1)
انظر: "رياض الصالحين" للنووي (ص: 331).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(1/ 286)، باب: الدعاء قبل السلام.
(3)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 154)، باب: ما يستحب له أن لا يقصر عنه من الدعاء قبل السلام.
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 78).
وقوله: "إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا" دليلٌ على أن الإنسان لا يَعْرى من ذنب وتقصير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا"(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:"كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون"(2)، وأمرنا بالدعاء بذلك على الإطلاق من غير تقييد وتخصيص بحالة، فلو كان ثم حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير، لما كان هذا الإخبار مطابقًا للواقع، ولا يؤمر به.
وقوله: "ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت"، إقرارٌ بوحدانية الباري سبحانه وتعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار؛ كما قال تعالى:"علم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب"، وقد وقع في هذا الحديث امتثالٌ لما أثنى الله تعالى في قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
وقوله: "فاغفرْ لي مغفرةً من عندِكَ" فيه وجهان: أنه إشارة إلى التوحيد في قوله: "ولا يغفرُ الذنوب إلا أنت" كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله أنت، والثاني: وهو أحسنها، أنه إشارة على طلب مغفرة مبتدأ بها من عند الله تعالى لا يقتضيها سببٌ من العبد من عمل حسن وغيره، بل هي رحمة من عنده سبحانه وتعالى متفضلٌ بها، ولا إدلال بسبب من الأسباب، فإن الإدلال بالأعمال، والاعتقاد بكونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًّا، يقتضي أن للعبد فيها سببًا، وليس الأمر كذلك، بل الله سبحانه المتفضل بالسبب والمسبب، فكل منهما من عنده، ليس للعبد فيه مدخل سوى توفيق الله سبحانه وتعالى، وهو خلق قدرة الطاعة فيه، فشرفَ بذلك.
(1) رواه ابن ماجه (277)، كتاب: الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 276)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1444)، والحاكم في "المستدرك"(447)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 82)، عن ثوبان رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (2499)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب:(49)، وقال: غريب، وابن ماجه (4251)، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، والامام أحمد في "المسند"(3/ 198)، والحاكم في "المستدرك"(7617)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
والمغفرة: الستر في لسان العرب، والرحمة من الله تعالى عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه، إما نفس الأفعال التي يوصلها الله تعالى؛ من الإنعام والإفضال إلى العبد، وإما إرادة اتصال تلك الأفعال، فعلى الأول: هي من صفات الفعل، وعلى الثاني: هي من صفات الذات.
وقوله: "إنك أنت الغفور الرحيم": صفتان ذكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لما قبله لقوله: "اغفر لي وارحمني"، فالغفور مقابل لسؤال المغفرة، والرحيم مقابل لسؤال الرحمة، وقد وقعت المقابلة للأول بالأول، والثاني بالثاني - هاهنا-، وقد تقع على خلاف ذلك بأن يراعى القرب، فيجعل الثاني للأول، والأول للأخير، وذلك على حسب اختلاف المقاصد، وطلب التعيين في الكلام، ومما يحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لما قبلها، والله أعلم.
وفي هذا: الحديث: شرعية طلب تعليم العلم من العلماء، خصوصًا في الدعوات المتعلقة بالصلوات.
وفيه: الاعتراف بظلم النفس وتقصيرها في كل حالة.
وفيه: حصره للمغفرة بأنها لا تكون إلا من عند الله تعالى؛ إذ لا يتصور إيجادها من عند غيره.
وفيه: طلبها وطلبُ الرحمة، وإن كانت رحمة الله تعالى تعمُّ المغفرة وغيرها.
وفيه: الثناء على الله تعالى بما وصف به نفسه.
وفيه: إجابة العالم للمتعلم سؤاله، خصوصًا إذا كان المسؤول علمًا عمليًّا، وافتقارًا وتوحيدًا أو تنزيهًا، والله تعالى أعلم.
* * *