الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باجتنابه، وبتقوى الله تعالى، والمبالغة في ذلك، وتعريف قبح عاقبته، والله أعلم.
ومنها: تحريم جميع أنواع الظلم، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"(1).
أما أبو سعيد الخدري، فتقدم الكلام على اسمه ونسبه ونسبته وما يتعلق به.
وأما الأواق: فجمع أوقيَّة -بتشديد الياء-، ويقال: وفي كل جمع إذا كان مفرده مشددًا بتشديد الياء وتخفيفها، كالأواقي والتخابي والعلالي والكراسي، وما أشبه ذلك، وممن ذكر هذه القاعدة فيما واحدهُ مشدد أنه يجوز في جمعه الوجهان: ابنُ السِّكِّيت في "إصلاحه"، (2) والجوهريُّ في "صحاحه"، (3) وقد ثبت في هذا الحديث في الجمع حذفُ الياء، فتصير في الجمع للأوقية ثلاث لغات: التشديد، والتخفيف، والحذف، والأوقية بضم الهمزة، ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة، وفيه تحذف الهمزة، وحكى اللحياني الجواز -بفتح الواو وتشديد الياء-، وجمعها وقايا.
وأجمع العلماء من المحدثين والفقهاء واللغويين على أن المراد بالأوقية الشرعية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز.
وقال القاضي عياض رحمه الله: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم
(1) رواه البخاري (1340)، كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز، ومسلم (979)، كتاب: الزكاة، في أوله.
(2)
انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 178)، باب: ما يشدّد وما يخفّف.
(3)
انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2528).
مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، قال: وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانق، قول باطل، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، وصغارًا وكبارًا، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة، ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزنا واحدًا لا يختلف، وأعيانًا يستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها، وضربوه على وزنهم، قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كان يتعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد؛ وهذا كما كانت الأوقية معلومة.
وقال العلماء من الشافعية: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام (1).
واعلم أن الدراهم كانت في الجاهلية تضرب على نوعين مختلفين:
فمنها: ما ينسب إلى ملك يقال له: رأس البغل، وهي السود مما نسب إليه منها، يقال لها: بغلية، وكل درهم منها ثمانية دوانق.
ومنها: ما ينسب إلى طبرية الشام، يقال لما يضرب فيها: طبرية، وزن كل منها أربعة دوانق، وهي العتق، فقدر الشرع في الإسلام الدرهم ستة دوانق؛ جمعًا بينهما، ووقع الإجماع عليه من غير ضرب، وكانوا يتعاملون بهذا التقدير، الشطر من هذه والشطر من هذه لدى الإطلاق ما لم يعينوا بالنص أحد النوعين، وكذلك كانوا يؤدون الزكاة مئة من هذه، ومئة من هذه؛ اعتبارًا في أول الإسلام،
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 80)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 51).
هكذا قاله أبو عبيد وغيره، وهي الخمس الأواقي المذكورة في الحديث، ولم يخالف في ذلك أحد إلا ابن حبيب الأندلسي؛ فإنه زعم أن كل بلد يتعاملون بعرفهم في الدراهم، وهو خلاف قول الجمهور، ويعضد قولهم ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الوزنُ على وزنِ أهل مكة"(1)، وهذا المقدار هو الَّذي كان أهل مكة يتعاملون به في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تمكن الإسلام، واتسع، ضُربت الدراهم على التقدير الإسلامي تحريًّا لمعاملاتهم الإطلاقية، فنسب التقدير إلى من ضربت في زمنه ابتداء، وليس كذلك، بل كان ذلك إظهارًا للضرب، لا ابتداء تقدير، والله أعلم.
واختلف في زمن من ابتدأ الإظهار بالضرب للتقدير المذكور؟ فقيل: في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: في زمن بني أمية، ولا يصح قول من جعل التقدير في زمن أحدهما، والله أعلم.
وأما الصدقة واحدةُ الصدقات، فتفتح الصاد والدال، وأما ما هو اسم من أسماء الصَّداق -بفتح الصاد وكسرها-، فيقال فيه: صَدُقة -بفتح الصاد وضم الدال-، وصُدْقة -بضم الصاد وإسكان الدال- أربع لغات مشهورات، والله أعلم (2).
وأما الذود: فاصله من ذاد يذود ذودًا: إذا دفع شيئًا، فهو مصدر، فكان من كان عنده دفعَ عن نفسه معرَّةَ الفقر وشدة الفاقة والحاجة، وهو عند أهل اللغة من الثلاثة إلى العشرة من الإبل، لا واحد له من لفظه، قالوا: ويقال في الواحد: بعير، قالوا: وكذلك البقر.
والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها، قالوا: وقولهم: خمسُ ذَوْد؛ كقولهم: خمسة أبعرة، وخمسة جمال، وخمس نوق،
(1) رواه أبو داود (3340)، كتاب: البيوع، باب: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المكيالُ مكيال المدينة"، والنسائي (2520)، كتاب: الزكاة، باب: كم الصاع؟ والبيهقي في (السنن الكبرى)(6/ 31)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 197)، (مادة: صدق).
وخمس نسوة، وقال سيبويه: يقال: ثلاث ذود؛ لأن الذود مؤنث، وليس باسم كسر عليه مذكره، قال أبو عبيد: الذود مما بين ثنتين إلى تسع، وقوله مخالف لقول جمهور أهل اللغة، قال: هو مختص بالإناث، وأنكر ابن قتيبة أن يقال: خمس ذود؛ كما لا يقال: خمس ثوب، وغلطه العلماء، بل هذا اللفظ شائع مسموع من العرب، معروف في كتب اللغة، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس هو جمعًا لمفرد، بخلاف الأثواب، قال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمس ذود لخمس من الإبل، وثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، وعشر ذود، على غير قياس، كما قالوا: ثلاث مئة، وأربع مئة، والقياس مئين ومئات، ولا يكادون يقولونه.
وقد ضبطه الجمهور: خمس ذود، في الحديث، ورواه بعضهم: خمسة ذود، وكلاهما لرواة مسلم، لكن الأول أشهر، وهما صحيحان في اللغة، فإثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث، ومن حذفها قال: أراد الواحدة منه فريضة، ولا شك أن الذود واحد في لفظه كما قال السجستاني، والمشهور الَّذي قاله المتقدمون أنه لا يقال على الواحد، والله أعلم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة"، فمعنى دون في مواضع هذا الحديث أقل؛ أي: ليس في أقل خمس صدقة، لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعضهم في قوله: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أنها بمعنى غير، والله أعلم.
والأوسق جمع وسق -بفتح الواو وكسرها- كما حكاهما صاحب "المحكم" وغيره، والأشهر فتح الواو، وهو جمع قلة، ويقال في الجمع -أيضًا-: وُسوق وأَوْساق، قال الهروي: وكل شيء جمعته فقد وسقته، وقال غيره: وسقت الشيء: ضممت بعضه إلى بعض، وأصل الوسق في اللغة الحمل، والمراد به
(1) انظر: "العين" للخليل (8/ 55)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 257)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 271)، و"المُغرب" للمطرزي (1/ 310)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 171)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 169).
ستون صاعًا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالعراقي، وفي رطل العراق أقوال، أظهرها: أنه مئة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وقيل: مئة وثمانية وعشرون بلا أسباع، وقيل: مئة وثلاثون، فالأوسق الخمسة: ألف وست مئة رطل بالبغدادي (1)، وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد؟ وجهان لأصحاب الشافعي:
أصحهما: تقريب، فإذا نقص عن ذلك يسيرًا، وجبت الزكاة، لكن ظاهر الحديث أن النقصان مطلقًا مؤثر في عدم الوجوب، لكنه غير مؤثر عرفًا، لعدم منعه إطلاق الاسم بنقص اليسير.
والثاني: تحديد، فمتى نقص شيئًا، وإن قل، لم تجب الزكاة.
وفي هذا الحديث فائدتان:
إحداهما: وجوب الزكاة في هذه المحدودات من الدراهم والإبل والحبوب.
والثانية: عدم الزكاة فيما دون المحدود، ولا خلاف بين العلماء في ذلك، إلا ما قاله أبو حنيفة وبعض السلف: أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سَقَتِ السَّماءُ العشرُ، وما سُقي بنضحٍ أو دالية، ففيه نصفُ العشر"(2)، وهذا عام في القليل والكثير، والجواب عن ذلك بأن المقصود من الحديث بيانُ قدر المخرَج، لا قدر المخرَج منه، ولا شك أن هذا يرجع إلى قاعدة أصولية، وهي: أن الألفاظ العامة ترد بوضع اللغة على ثلاثة أنحاء:
أحدها: ما يظهر فيها قصد التعميم؛ بأن يرد مستنده على سبب لقصد تأسيس القواعد.
(1) انظر: "المُغرب" للمطرزي (2/ 354)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 184)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 110)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 379)، و"القاموس" للفيروز أبادي (ص: 1199)، (مادة: وسق).
(2)
رواه البخاري (1412)، كتاب: الزكاة، باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء، وبالماء الجاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والثاني: ما يظهر فيه قصد التخصيص.
والثالث: ما لم يظهر فيها قرينة لقصد التعميم لا عدمه، ولا يحتاج ذلك إلى دليل، بل يعرف ذلك من السياق، لا يقام عليه دليل بالاتفاق، ولذلك لو فهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل، لعسر إقامته، لكن الناظر يرجع إلى ذوقه ودينه وإنصافه، ولذلك لا خلاف أنه لا تجب الزكاة فيما نقص عن الأواقي الخمسة المحدودة، وهي مئتا درهم، لكن مالكًا رحمه الله تسامح في النقص اليسير جدًّا الذي يروج معه الدراهم والدنانير رواج الكامل، واختلف أصحابه في مقداره، فقبل: ما لا يُشاحّ فيه في العادة، وقيل: بأنه المقدار الَّذي يختلف فيه في الموازين، وحكي عن عمر بن عبد العزيز أن نقص ثلاثة دراهم وثلث دينار من نصابهما لا يسقط الزكاة، والظاهر مع الحنفية، والمعنى مع المالكية.
وليس في هذا الحديث تعرض للذهب، ولا تحديده بالأواقي، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة في عشرين مثقالًا منه، وحكي عن الحسن البصري والزهري: أنهما قالا: لا تجب في أقل من أربعين مثقالًا، لكن الأشهر عنهما الوجوب في عشرين؛ لقول العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مئتي درهم، وإن كان دون عشرين مثقالًا، وقال هذا القائل: ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مئتي درهم.
واختلف العلماء فيما إذا ملك بعض نصاب من الذهب، وبعض نصاب من الفضة، هل يضم بعضه إلى بعض بالقيمة؛ فقال مالك والجمهور: يضمان في إكمال النصاب، لكن مالكًا يراعي الوزن، ويضم الأجزاء، لا على القيم، بل على الوزن؛ حيث إن مذهبه كل دينار لعشرة دراهم على الصرف الأول، وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والثوري يضم على القيم في وقت الزكاة، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: لا تضم مطلقًا.
واعلم أنه لم يتعرض في الحديث للقدر الزائد على المحدود من المذكورات فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة فيما زاد على خمسة أوسق من الحب والثمر بحسابه، وأنه لا أوقاص فيها، واختلفوا فيما زاد على نصاب الذهب والفضة، قليلًا كان أو كثيرًا، هل فيه ربع العشر ولا وقص فيه؟ فقال مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وابن أبي ليلى، ويوسف، ومحمد، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وجملة أهل الحديث: لا وقص فيه، وفيه ربع العشر، وهو يروى عن علي، وابن عمر، وقال أبو حنيفة، وبعض السلف: لا شيء فيما زاد على مئتي درهم حتى يبلغ أربعين درهمًا، ولا فيما زاد على عشرين دينارًا حتى يبلغ أربعة دنانير، فإن زادت ففي كل أربعين درهمًا درهم، وفي كل أربعة دنانير درهم، فجعل لها وقصًا كالماشية، واحتج الجمهور بما روى البخاري في "صحيحه" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"في الرقة ربعُ العشرِ"(1) وهذا عام في النصاب وما فوقه، وبالقياس على الحبوب، ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
واعلم أن المراد بالأواقي الخمسة الدراهم الخالصة من العين حقيقة دونها دراهم منقوشة، بل السبائك وغيرها حكمها، فلو كانت مغشوشة، لم يجب فيها شيء حتى يبلغ من الخالص مئتي درهم، وفي الحديث حجة لذلك، وفيه رد على المالكية؛ حيث أوجبوا الزكاة فيما نقص من المئتين فيه أو نحوها، وحجة مذهب الشافعي وموافقيه على عدم الوجوب في ذلك فإنه صرف لها دون خمس أواق، ثم قدر الدراهم منها خمسون حبة وخمسا حبة؛ لأن كل درهم ستة دوانق، ووزن كل دانق ثماني حبات وثلث حبة، وثلث خمس حبة من الشعير المطلق، والله أعلم.
* * *
(1) رواه البخاري (1386)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.