الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشرط (1)، وأجابوا عن حديث جابر هذا: بأنه قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات، قالوا: ولأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع، قالوا: ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، والذي يضر من الشروط ما هو في نفس العقد، ولعل الشرط كان سابقًا، فلم يؤثر، ثم تبرع صلى الله عليه وسلم بإركابه.
ومن أصحاب الشافعي رحمه الله من قال بالجواز؛ تفريعًا على جواز بيع الدار المستأجرة؛ فإن المنفعة فيها تكون مستثناة، ومذهب الشافعي هو الأول.
وفيه: المبادرة إلى تسليم المبيع إلى البائع وقت تسليمه، ونقد المشتري الثمن عقب تسليمه.
وفيه: أن الهبة لا تقع إلا على الأعيان بعد قبضها [و] تسليمها.
وفيه: أن لفظ "خذ" صريح في الهبة.
وفيه: أن إضافة الجمل والدراهم إلى جابر رضي الله عنه إضافة إحسان وتكرم؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فَهُو لكَ"، وذلك يحتمل سببين: أحدهما: إما الإخبار عما كان في ضميره صلى الله عليه وسلم، واما إنشاء التمليك له، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَن يَبِيع حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تنَاجَشوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بيعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخطُبُ عَلَى خِطبةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسألُ المَرأَةُ طَلَاقَ أخْتِهَا لِتكفأ مَا فِي إنَائِهَا (2).
تقدَّم الكلام على بيع الحاضر للبادي، والنجش، والبيع على بيع أخيه.
= جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4361)، وابن حزم في "المحلى"(8/ 415)، وابن البر في "التمهيد"(22/ 185 - 186)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (2033)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه، ومسلم (1413)، (2/ 1033)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك.
أما الخِطبة؛ فهي بكسر الخاء، وأما الخُطبة في الجمعة، والعيد، والحج، وغير ذلك، وبين عقد النكاح، فبضمِّها.
وتصرف الفقهاء في معنى التحريم للخطبة ووقته، ومن تحرم الخطبة عليه.
أما التحريم، فلا يكون إلا بعد التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه.
وأما المعنى الذي حرم لأجله الخطبة، فهو: وقوع العداوة والبغضاء المانعين من التقوى، الحاملين على القطيعة، وعدم المواصلة التي لا تقوم مصلحة الدِّين والدُّنيا إِلَّا بها.
وأما وقته: فهو بعد التراكن الذي ذكرنا، ولا يمتنع قبله؛ نظرًا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة.
وأما ما تحرم عليه الخطبة؛ فخصصه الخطابي بالمسلم، وقال: هو ظاهر الحديث، فإن كان كافرًا، فلا تحريم، وبه قال الأوزاعي.
وقال جمهور العلماء: تحرم الخطبة على تحريم خطبة الكافر -أيضًا-، ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بأخيه خرج على الغالب، فلا يكون له مفهوم يعمل به، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، وقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ونظائره.
وأما الفاسق فظواهر الأحاديث وإطلاقها، ومفهوم قول جمهور العلماء في تحريم الخطبة على خطبة الكافر: أنه تحرم الخطبة على خطبته، وقال ابن القاسم المالكي: تجوز الخطبة على خطبة الفاسق، فلو كان الخاطب الأول فاسقًا، والثاني صالحًا، لم يندرج تحت النهي.
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله، وغيره من العلماء: أنه إذا ارتكب النهي، وخطب على خطبة أخيه، لم يفسد العقد، ولم يفسخ؛ لأن النهي مجانب لأجل العداوة والبغضاه، وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال،
ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد، والله أعلم.
وأَمَّا نَهْيُ المَرأَةِ عَنْ سُؤَالِ طَلَاقِ أُخْتِهَا لِتكفَأ مَا فِي إنَائها؛ قال أهل اللغة: يقال: كفاتُ الإناءَ: إذا قلبته وفرغته، فلم يبقَ فيه شيء، واستعمل الشرع ذلك في سؤال طلاق المرأة أختها بعد عقد النكاح عليها مجازًا، وتشبيهًا لتفريغ الصحفة بعد امتلائها (1)، وفيه معنى آخر: وهو الإشارة إلى الرزق الذي يوجبه النكاح من النفقة؛ لأن الصحفة وامتلاءها من باب الأرزاق، فكان إكفاؤها وقلبها بمنزلة منعها ما وصل أختَها من الخير بسؤالها طلاقها، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام، تقدم بعضها وبقي بعضها:
فمنها: تحريم الخطبة على الوجه المذكور، وهو مجمع عليه إذا صرح بالإجابة، فلو خطب محرمًا، وتزوج، صحّ النكاح، وكان عاصيًا، ولم يفسخ، كما تقدم.
وبذلك قال جمهور العلماء، وقال داود: يفسخ النكاح، وعن مالك: روايتان؛ كالمذهبين، وقال جماعة من المالكية: يفسخ قبل الدخول لا بعده، فلو عرض له الإجابة من غير تصريح: ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي: أصحهما: لا يحرم، وقال بعض أصحاب مالك: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج، ويسمى المهر، واستدلوا على ذلك: وهو أن التحريم، إنما هو متعلق بالتصريح بالإجابة دون التعريض بها؛ لحديث فاطمة بنت قيس؛ حيث قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية (2)، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها لأسامة، وقد يعترض على هذا الدليل فيقال: لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بأسامة، لا أنه خطب لها.
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 182)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 141)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 323).
(2)
رواه الترمذي (1135)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، وقال: صحيح، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 413)، عن أبي سلمة رضي الله عنه.
ومنها: تحريم السعي في التفريق بين المرأة وزوجها بالطلاق وغيره مما هو في معناه، أو أشد منه، إذا كان لمقصودٍ دنيوي، سواء كان الساعي رجلًا أو امرأة، فإن كان لمقصود ديني، كان مشروعًا.
ومنها: الإشارة إلى تحريم الحسد للناس، والنظر إلى ما في أيديهم؛ للاستئثار به عنهم، أو زواله مطلقًا.
ومنها: الإشارة إلى الرِّضا بالمقسوم، وإذا ابتلي بالطلب لما يجوز طلبه وعدم الرضا، فليسأل الله تعالى دون غيره، وإن كان لا بد سائلًا، فليسأل الصالحين.
ومنها: الإشارة إلى النظر إلى من هو دونك في الدنيا، وقد أمر به صلى الله عليه وسلم فقال:"انظر إلى مَنْ هو دونَكَ"(1)، والله أعلم.
* * *
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(94 - موارد الظمآن)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1651)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(60/ 137)، عن أبي ذر رضي الله عنه.