الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحول؛ لأنه معتبر لتحصيل النماء، بخلاف المعدن؛ فإنه يحصل شيئًا فشيئًا بكد وتعب، فأشبه أرباح التجارة، فاعتبر فيها الحول.
ومنها: إطلاق اعتبار الخمس في الركاز من غير اعتبار الأراضي، لكن الفقهاء جعلوا الحكم يختلف باختلافها، فإن أرادوا اعتبار الأراضي في بعض الصور، فهو قريب من الحديث، فعند الشافعية أن الأرض إن كانت مملوكة لمالك محترم مسلم أو ذمي، فليس بركاز، فإن ادعاه، فهو له، وإن نازعه منازع، فالقول قوله، وإن لم يدعه لنفسه، عرض على البائع، ثم على بائع البيع حتى ينتهي الأمر إلى من عمر الموضع، فإن لم يعرف، فظاهر المذهب أنه يجعله لقطة، وقيل: ليس بلقطة، بل مال ضائع، يسلم إلى الإمام، فيجعله في بيت المال، وإن وجد الركاز في أرض عامرة لحربي، فهو كسائر أموال الحربي إذا حصلت في أيدي المسلمين، وإن وجد في موات دار الحرب، فهو كموات دار الإسلام عند الشافعية، أربعة أخماسه للواجد، والله أعلم
* * *
الحديث الخامس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَمِيلٍ، وخَالِدُ بْنُ الولِيدِ، والْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خالِدٌ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدِ احْتبَسَ أَدْرُعَهُ وأَعْتَادَهُ في سَبِيلِ اللهِ، وأَمَّا العَبَّاسُ، فَهِيَ عَلَيَّ ومِثْلُها"، ثُمَّ قَالَ:"يا عُمَرُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ"(1).
أما أبو هريرة، وعمر رضي الله عنهما، فتقدم ذكرهما.
(1) رواه البخاري (1399)، كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} ، {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 60]، ومسلم (983)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، وهذا لفظ مسلم.
وأما ابنُ جميل، فهو -بفتح الجيم وكسر الميم وبالياء آخر الحروف، وباللام- فلا يعرف اسمه، وروى عنه أبو هريرة، وقال المهلب: كان ابن جميل منافقًا أولًا، فمنع الزكاة، فأنزل الله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا إلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} [التوبة: 74]، قال: فاستتابه به الله، فتاب، وصلحت حاله (1).
وأما خالد بن الوليد، فكنيته: أبو سليمان بنُ الوليدِ بنِ المغيرة بنِ عبد الله بن عمرَ بنِ مخزومِ بن نقطةَ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبِ، القرشيُّ المخزوميُّ، سيفُ الله، سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة لما حضرها، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمله بها بالمدينة، فمن يومئذٍ سماه: سيف الله، وروى له البخاري حديثًا موقوفًا، وهو أن خالدًا رضي الله عنه قال: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية (2).
أُمُّه لُبابةُ الصغرى بنتُ الحارثِ أختُ ميمونةَ بنتِ الحارث زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم.
أسلم خالد قبل الفتح بعد الحديبية، وشهد خيبر والفتح وحنينًا ومؤتة كما ذكرنا، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةَ عشرَ حديثًا، اتفقا على حديث، وللبخاري الحديث الموقوف الَّذي ذكرناه، وروى عنه: قيس بن أبي حازم، وأبو وائل شقيق بنُ سلمة.
مات بحمص من الشام سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، ودفن على ميل منها، وقيل: مات بالمدينة، رواه أبو زرعة الدمشقي عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي دحيم.
قال أبو حاتم بن حبان رحمه الله: مات في عهد عمر بحمص سنة إحدى وعشرين، وأوصى إلى عمر، وكان إسلامه سنة ثمان من الهجرة، وكان في أيام بدر وأحد والخندق مع المشركين، ثم هداه الله بعد.
(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 46).
(2)
رواه البخاري (4018)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام.
قلت: وكلامه هذا يدل على أنه لم يشهد خيبر صريحًا؛ لأنها كانت سنة سبع، والله أعلم.
وروى بإسناده الصحيح إلى قيس -يعني: ابن أبي حازم- قال: قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما ليلة يهدى إلي منها عروسٌ أنا لها محبٌّ، أو أُبشر بغلام أحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أُصَبِّحُ فيها العدو (1)، والله أعلم (2).
وأما العباس: فهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكنى: أبا الفضل، وهو: ابنُ عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، الهاشميُّ القرشيُّ، وكان أسنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاثة.
قال أبو حاتم بن حبان: ولد قبل الفيل بثلاث سنين، شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، وأُسر يومئذ، وأسلم بعد ذلك، وقيل: أسلم قبل بدر، وكان يكتم إسلامه، وأراد القدومَ إلى المدينة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقام بـ "مكة"، وقال له:"إن مقامك بـ "مكة" خير"، وكان يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين، وكان المسلمون يتقوَّون به، فلذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمقام بـ "مكة".
ومناقبه رضي الله عنه كثيرة جدًّا، وقد صنف العلماء فيها كتبًا كثيرة، منهم: ابن أبي الدنيا، وغيره، وملكت مصنفًا في مناقبه مجلدًا كبيرًا لا أعلم من
(1) رواه ابن المبارك في "الجهاد"(107)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(19421)، وأبو يعلى في "مسنده"(7185)، وابن حبان في "الثقات"(3/ 101).
(2)
انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 394)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 136)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 356)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 101)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 336)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1453)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 216)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 140)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 187)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 366)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 251)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 107).
صنفه، ثم ذهب مع كتب لي في وقعة غاران بحمص، والله خير مخلف، وهو خير الرازقين.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديث واحد، وللبخاري حديث، ولمسلم ثلاثة، روى عنه: ابناه: عبد الله، وكثير، وجابر بنُ عبد الله، والأحنفُ بن قيس، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإسحاق بن عبد الله بن نوفل، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم، ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، وهو ابنُ ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان رضي الله عنه، ودفن بالبقيع، وزرتُ قبره غير مرة بالبقيع في قبة عثمان رضي الله عنهما، وقيل: مات سنة أربع وثلاثين، والله أعلم (1).
وأما ألفاظه: فقوله: "ما ينقم ابن جميل" هو -بكسر القاف، والماضي منه بفتحها-، وهي لغة القرآن:{وَمَا نَقَمُوا إلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] ويقال: بفتحها في المضارع، وكسرها في الماضي، ومعناه: أنكر؛ أي: إذا لم يكن موجب المنع من الصدقة إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله، وهذا ليس بموجب لمنعها، والعرب كثيرًا تقصد مثل هذا في النفي على سبيل المبالغة بالإثبات، كقول الشاعر (2):
ولا عَيْبَ فيهم غَيْرَ أَن سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
أي: إذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا، فليس بعيب، فلا عيب فيهم، فكذلك
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 5)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 288)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 210)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 810)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 308)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 273)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 163)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 78)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 631).
(2)
هو النابغة الذبياني، كما في "ديوانه"، ق 4: 19، (ص: 60) من قصيدة مطلعها:
كِلِيني لَهمٍّ يا أميمةَ ناصِبِ
…
وليلِ أُقاسيه بَطِيءِ الكواكبِ
هذا، إذا لم ينكر ابن جميل إلا كون الله تعالى أغناه بعد فقره، فلم ينكر منكرًا أصلًا، ويقال: نقم منه الإحسان: إذا جعله مؤديًا إلى كفر النعمة، فيكون معناه: أن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى بمنع الزكاة، فما ينقم؛ أي: ما ينكر ويكره إلا أن يكفر النعمة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم تظلمون خالدًا" هو خطاب للعمال على الصدقة؛ حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الخيل والعدة؛ لأنهم طلبوا منه زكاة أعتاده، ظنًّا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن خالدًا منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمون خالدًا؛ لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله، قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها.
ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة، لأعطاها، ولم يشحَّ بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعًا، فكيف يشحُّ بواجب عليه؟
ويحتمل أنه لم يقفها، بل رفع يده عنها، وخلى بين الناس وبينها في سبيل الله؛ لأنه احتبسها وقفًا على التأبيد؛ لأنه صرفها مصرفها؛ حيث تعينت للجهاد، وقد جعل الله تعالى له حظًّا من الزكاة، فرأى صرفها فيه، فاشترى بها ما يصلح له كما يفعله الإمام، فلما تحقق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:"إنكم تظلمون خالدًا"؛ فإنه قد صرفها مصرفها، وأجاز له ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" احتبس بمعنى: وقف، ويحتمل أن يكون بمعنى: إبانة اليد عن الملك لله تعالى؛ كما ينقل المهدي لبيت الله تعالى فيها بالتخلية بينها وبين مستحقها، والأدراع: جمع درع، ويكون من الحديد وغيره، وأعتاده: هذه اللفظة رويت على أوجه:
أحدها: أعتاده كما ذكره المصنف، وأنكرها بعضهم، وهي ثابتة في "صحيح مسلم".
الثاني: أعتدة -بالتاء ثالث الحروف-، وهي والأعتاد جمع قلة لعَتَد -بفتح العين والتاء-، وهو الفرس الصلب، وهو قيل: المعدّ للركوب، وقيل: السريع
الوثب، وصححه بعضهم، وقال: يعني: خيله، وقيل: هو كل هو ما أعده الرجل من سلاح وآلة ومركوب للجهاد.
الثالث: عتاده، ويجمع على أعتدة -بكسر التاء وضمها-.
الرابع: أعبده -بالباء الموحدة- جمع قلة للعبد، وهو الحيوان العاقل، وقيل: إنه جمع صفة من قولهم: فرس عبد؛ أي: صلب.
وروي: فقد احتبس رقيقه ودوابه.
وروي: عقاره -بالقاف والراء-، والعقار: الأرض والضياع والنخل ومتاع البيت.
وقد اختلف في معنى ذلك كله، فقيل: إنه طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والعتاد على أنها كانت عنده للتجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها؛ إذ قد جعلها حبسًا في سبيل الله.
وقيل: اعتذر ودافع عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان خالد قد احتسبها في سبيل الله تقربًا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة عليه، وهو يتقرب إلى الله تعالى لنفل المندوب المستحب ومنع الواجب؟
وقيل: يجوز أن يكون احتسب صلى الله عليه وسلم لخالد ذلك من الزكاة؛ لأنه في سبيل الله، لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أنها الصدقة الواجبة، وتعريفها بالألف واللام يدل عليه، وهي التي جرى البعث والاستعمال عليها، وفي حديث آخر: منع صدقته، وجعل بعضهم هذه الصدقة صدقةَ تطوع؛ لحديث عبد الرزاق في ذلك، وقال فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناسَ إلى الصدقة، وذكر الحديث (1)، قال بعضهم: وهذا أليق بالقصة، ولا تظن بأحد منهم منع الواجب، فيكون عذر خالد واضحًا؛ لأنه إذا أخرج أكثر ماله، وحبسه، لا يحتمل صدقة التطوع، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون ابن جميل شحَّ في التطوع، فعتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(6826).
وأخبر أن العباس سمح ما طلبه منه، ومثله معه، وأنه ممن لا يمتنع مما التزمه النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه كاللازم.
قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النواوي رحمه الله: الصحيح المشهور أن هذا كان في الزكاة، لا في صدقة التطوع، وهو الَّذي قاله أصحاب الشافعي وغيرهم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فهي عليَّ ومثلها معها" هذا لفظ مسلم وأبي داود، ومعناه: إني سلفت منه صدقة سنتين، فصار دينًا علي.
وقيل معناه: أنا أؤديها عنه، والذي قال بهذا لا يجوّز تعجيل الزكاة، وقد جاء في حديث آخر في غير "صحيح مسلم" رواه الدارقطني:"إنا تعجلنا منه صدقة عامين (2) "، وقيل: يكون صلى الله عليه وسلم قد قبض منه صدقة عامين: العام الَّذي شكي فيه، إنها لدي من زكاة فيه العامل، وتعجل صدقة عام ثان، فقال: هي علي، وبمثلها معها.
وقد يكون صلى الله عليه وسلم قد تحمل الصدقة، وضمن أداءها عنه لسنتين، ولذلك قال:"إن عمَّ الرجل صنو أبيه"، وصوب بعضهم الأول، ولفظ البخاري والنسائي:"فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معها"(3)، قال البيهقي: يبعد أن يكون محفوظًا؛ لأن العباس كان من جملة بني هاشم تحرُمُ عليه الصدقة (4)، وقال غيره: إلا أن يقال: لعل ذلك قبل تحريم الصدقة على آل النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى صلى الله عليه وسلم إسقاط الزكاة عامين لوجه رآه، وحكى البخاري عن ابن إسحاق: هي عليه ومثلها معها، قيل: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أخرها عنه عامين لحاجة كانت بالعباس إليها، وللإمام تأخيرُ ذلك
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 57).
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 124)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 111)، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:"أسلفنا صدقة عامين في عام".
(3)
رواه النسائي (2464)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق. وتقدم تخريجه عند البخاري.
(4)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 111).
إذا أدَّاه اجتهاده إليه؛ كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة إلى أن جبى من الناس العام المقبل، فأخذ منهم زكاة عامين.
ورواه موسى بن عقبة، فقال:"هي له ومثلُها معَها"(1)، قيل: إن (له) بمعنى عليه، قال الله تعالى:{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52]، وقال تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
قال بعضهم: والأشبهُ عندي احتمالُ النبي صلى الله عليه وسلم لها على ما تقدم، وإخراجُها عنه برأيه، وهي له، ويعضده رواية: فهي له، وصدقة عليه، لا على أنه أحل له الصدقة، ولكنه تركها له، فأخرج الصدقة عنه من مال نفسه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "عمُّ الرجلِ صِنْوُ أَبيهِ"؛ أي: يرجع مع أبيه إلى أصل واحد، ومنه قوله تعالى:{صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4]، وأصله في النخلتين والنخلات التي ترجع إلى أصل واحد، والصنوان جمع صنو؛ كقنوان وقنو، وتجمع أصناء؛ كأسماء، فإذا كثرت قُلتَ: الصني والصُّنى.
وذكر صلى الله عليه وسلم ذلك لعمر تعظيمًا لحق العم، وهو مقتض ومناسب لأن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"هي علي" على أنه يحملها عنه احترامًا له ومبرة وإكرامًا حتى لا يتعرض له بطلبها أحد؛ إذ يحملها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث أحكام أصلية ومتفرعة على التأويلات فيه:
فمن الأصلية:
بعثُ الإمام العمال لجباية الزكوات.
ومنها: أن يكونوا أمناءَ فيها، ثقات، عارفين؛ حيث بعث صلى الله عليه وسلم عليها عمر رضي الله عنه.
ومنها: تعريف الإمام بمانعيها؛ ليعينهم على أخذها منهم، أو يبين لهم وجوه أعذارهم في منعها.
(1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(2329)، و (2330)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 164).
ومنها: تعريف الفقير نعمة الله تعالى عليه في المعنى؛ ليقوم بحق الله تعالى فيه الواجب، أو المندوب.
ومنها: البيان للعمال ما يظلمون فيه من غيره.
ومنها: تحمُّل الإمام عن بعض رعيته وأتباعه وأقاربه ما وجب عليه، أو ندب إليه.
ومنها: بيان فضل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على فضل العم، وقد نبه صلى الله عليه وسلم في حديث آخر على فضل الخالة، فقال:"الخالةُ بمنزلة الأم"(1).
وأما الأحكام المتفرعة على تأويلات الحديث:
فمنها: أنه يجوز للإمام، ويستحب له أن يتأول لمن شُكي إليه من رعيته في منع الحق التأويلات المحتملة، وإن كانت خلاف الظاهر.
ومنها: وجوب الزكاة في الأموال المرصَدة للتجارة، وقد حكى ابن المنذر فيه الإجماع، وزعم بعض المتأخرين من الظاهرية أنه لا زكاة فيها، وهو مسبوق بالإجماع.
ومنها: جواز تحبيس الخيل والإبل والسلاح من الدروع والسيوف والحجف وغيرها من المركوبات والمنقولات.
ومنها: جواز أخذ القيم في الزكاة، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العوض في الزكاة، فيدل على أنه ذهب إلى تأويل الحديث عن الصدقة الواجبة.
ومنها: عتب الإمام على من منع الخير، وإن كان منعه مندوبًا، في غيبته وحضوره.
ومنها: جواز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها، وهو مذهب أبي حنيفة،
(1) رواه البخاري (2552)، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان، وفلان بن فلان، عن البراء بن عازب رضي الله عنه.