الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما حديث الصحيحين فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الإقامة بمكة على المهاجرين، ثم رخص لهم أن يقيموا ثلاثة أيام (المجموع: 243/ 4). الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقال أنس:«أقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة» (1)، قال ابن حجر في الفتح: ولاشك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام، لا سواها، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى بمنى.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجونجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج؛ لأنهصلّى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة (2).
ثالثاً ـ شروط القصر:
اشترط الفقهاء لصحة القصر الشروط الآتية (3):
(1) متفق عليهما (المصدر السابق).
(2)
رواه أبو داود عن عمران بن حصين، والترمذي وحسنه، وإن كان في سنده ضعيف؛ لأن له شواهد تجبره كما قال ابن حجر. ورويت روايات أخرى أصحها أنها تسعة عشر، كما قال البيهقي، وقدمت رواية الثمانية عشر على التسعة عشر مع كونها أصح، لأن الأولى عن عمران سليمة من الاضطراب، والأخرى عن ابن عباس مضطربة، ففيها تسعة عشر، وسبعة عشر.
(3)
تبيين الحقائق: 209/ 1 - 216، القوانين الفقهية: ص84 - 85، الشرح الصغير: 486/ 1، مغني المحتاج: 266/ 1 - 271، المهذب: 101/ 1 - 103، الحضرمية: ص76 ومابعدها، كشاف القناع: 593/ 1 - 603، مراقي الفلاح: ص71.
1 -
أن يكون السفر طويلاً مقدراً بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخاً عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية، على الخلاف السابق بيانه.
2 -
أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، ونحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح كما بينا ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
3 -
مجاوزة العمران من موضع إقامته: كما بينا، وللفقهاء تفريعات في توضيح هذا الشرط.
فقال الحنفية (1): أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا
(1) رد المحتار: 732/ 1 ومابعدها.
مجاوزة البساتين؛ لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وإذا كان ساكناً في الأخبية (الخيام) فلا بد من مجاوزتها، وإذا كان مقيماً على ماء أو محتطب فلا بد من مفارقته، ما لم يكن المحتطب واسعاً جداً، والنهر بعيد المنبع أو المصب، وإلا فالعبرة بمجاوزة العمران.
وقال المالكية (1): المسافر إما حضري، أو بدوي، أو جبلي.
فالحضري: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولولا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكماً: بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
والبدوي: ساكن البادية أو الخيام، لا يقصر إلا إذا جاوز جميع خيام أو بيوت القبيلة أو القبائل المتعاونة فيما بينها، ولو كانت متفرقة، حيث جمعهم اسم الحي والدار (2)، أو الدار فقط.
والجبلي: ساكن الجبال يقصر إذا جاوز محله أو مكانه.
وساكن القرية التي لا بساتين فيها مسكونة: يقصر إذا جاوز بيوت القرية والأبنية الخرا ب التي في طرفها.
وساكن البساتين: يقصر بمجرد انفصاله عن مسكنه، سواء أكانت تلك البساتين متصلة بالبلد أم منفصله عنها.
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 359/ 1 ومابعدها.
(2)
المراد بالحي: القبيلة، والمراد بالدار: المنزل الذي ينزلون فيه، والحلة والمنزل بمعنى واحد.
وقال الشافعية (1): إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة في الأصح.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران؛ لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولا بد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
وساكن الخيام: يقصر إن جاوز الحِلَّة، أي البيوت التي يجتمع أهلها فيها للسمر، ويستعير بعضهم من بعض، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، وجاوز أيضاً مرافق الخيام كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومرابط الخيل؛ لأنها معدودة من مواضع إقامتهم.
ويعتبر مع مجاوزة المرافق عرض الوادي إن سافر في عرضه، ومجاوزة المهبط إن كان في ربوة (مرتفع)، والمصعد إن كان في وَهْدة (منخفض)، هذا إن اعتدلت الثلاثة (الوادي والمهبط والمصعد)، فإن اتسعت اكتفي بمجاوزة الحلة عرفاً.
وساكن غير الأبنية والخيام يبتدئ سفره بمجاوزة محل رحله ومرافقه. هذا كله في سفر البر، أما السفر في البحر: فيبتدئ من أول تحرك أو جري السفينة أو الزورق، فإن جرت السفينة محاذية للأبنية التي في البلدة فلا بد من مجاوزة تلك الأبنية.
(1) مغني المحتاج: 263/ 1 ومابعدها.
وينتهي السفر بوصوله سور وطنه، أو عمرانه إن كان غير مسور.
وقال الحنابلة (1): يقصر المسافر إذا فارق خيام قومه، أو بيوت قريته العامرة، سواء أكانت داخل السور أم خارجه، بما يعد مفارقة عرفاً؛ لأن الله تعالى إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، فإن اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة أو بساتين يسكنها أهلها ولو ضيفاً مثلاً وقت النزهة، فلا يقصر إلا بمفارقة الجميع من الخراب والعامر والبساتين المسكونة.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلاً ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارقها جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
4 -
أن يقصد من ابتداء السفر موضعاً معيناً، ويعزم أن يقطع مسافة القصر من غير تردد فلا قصر ولا فطر لهائم: وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لمن خرج يطلب آبقاً أو حيواناً هارباً، أو غريماً يرجع متى وجده، ولا لسائح لا يقصد مكاناً معيناً، كما لا قصر لمن طاف الأرض كلها من غير قصد إلى قطع مسافة القصر المطلوبة؛ لأنه لم يقصد قطع المسافة، وكذلك لا يقصر عند الجمهور إذا نوى قطع المسافة ونوى الإقامة أثناءها بما يقطع السفر، كما سنبين.
(1) المغني:261/ 2، كشاف القناع: 598/ 1.
وقال الحنفية: له أن يقصر حتى يقيم بالفعل، ولا تضر نية الإقامة السابقة، وهذا هو المعقول الأولى بالاتباع.
5 -
الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعاً غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر؛ لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
وأضاف الشافعية: أن التابع إن نوى الرجوع من سفره متى تخلص من التبعية، كالجندي إذا شطب اسمه، والخادم إذا ترك الخدمة، لا يقصر حتى يقطع مسافة القصر وهي المرحلتان أو اليومان.
أما عند الحنفية فهذا الشرط مطلق، فليس للتابع القصر ما لم ينو متبوعه السفر. ولا يلزم التبع بإتمام الصلاة إلا إن علم بنية المتبوع الإقامة في الأصح، فلو صلى مخالفاً له قبل علمه صحت في الأصح.
6 -
ألا يقتدي من يقصر بمقيم أو بمسافر يتم الصلاة، أو بمشكوك السفر عند الشافعية والحنابلة: فإن فعل ذلك وجب عليه إتمام الصلاة، ولو اقتدى به في التشهد الأخير.
لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، فيتم صلاته؛ لأن فرضه يتغير من اثنين إلى أربع. أما بعد خروج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ لأن فرضه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلا يتغير فرضه إلى أربع بعد خروج الوقت، فإن خالف واقتدى به بطلت صلاته.