الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً ـ صفة القبور واحترامها:
للقبور صفات مستمدة من السنة النبوية ومما تقتضيه الحاجة وهي ما يلي (1):
1ً - أقل القبر حفرة تمنع الرائحة والسبع عن نبش تلك الحفرة لأكل الميت؛ لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته، واستقذار جيفته وأكل السباع له.
2ً - ويندب عند الجمهور غير المالكية أن يوسع طولاً وعرضاً ويعمَّق بأن يزاد في نزوله، لقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد:«احفروا وأوسعوا وأعمقوا» (2)، ولأن تعميق القبر أنفى لظهور الرائحة التي تستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت، وروى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفار:«أوسع من قبل الرأس، ومن قبل الرجلين» .
والتعميق عند الشافعية وأكثر الحنابلة: قدر قامة وبسطة من رجل معتدل، يأن يقوم باسطاً يديه مرفوعتين؛ لأن عمر رضي الله عنه وصى بذلك، ولم ينكر عليه أحد، وهما أربعة أذرع ونصف. وقال أحمد رحمه الله: يعمق القبر إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء.
وعند الحنفية: مقدار نصف قامة، أو إلى حد الصدر، وإن زاد مقدار قامة فهو أحسن. فالأدنى نصف القامة، والأعلى القامة. وطوله: على قدر طول الميت، وعرضه: على قدر نصف طوله.
(1) الدر المختار:835/ 1 - 839،847، فتح القدير:469/ 1 - 472، مراقي الفلاح: ص101 ومابعدها، الكتاب:134/ 1 ومابعدها، بداية المجتهد:235/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص96،97، الشرح الكبير:419/ 1، الشرح الصغير:558/ 1،560،572،578، مغني المحتاج:351/ 1،364، المهذب:139/ 1، المغني:497/ 2 - 499،504 - 508، كشاف القناع:154/ 2 - 163، شرح الرسالة:277/ 1 - 280، المجموع:284/ 5.
(2)
رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وقال المالكية: وندب عدم تعميق القبر جداً، بل قدر الذراع فقط إذا كان لحداً.
3ً - واللَّحْد باتفاق الفقهاء أفضل من الشَّق: والمراد باللحد: أن يحفر في جانب القبر القبلي مكان يوضع فيه الميت بقدر ما يسعه ويستره. أما الشق: فهو أن يحفر قعر القبر كالنهر، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره غير ما مسته النار، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت، ويسقف عليه ببلاط أو حجارة أو لبن أو خشب ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت. ويكره الشق عند الحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«اللحد لنا والشق لغيرنا» (1).
وفصل الحنفية والمالكية والشافعية فقالوا: إن اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة، لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته:«الحدوا لي لحداً، وانصبوا على اللبِن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم» (2). فإن كانت الأرض رخوة فالشق أفضل خشية الانهيار.
ويجب عند الشافعية والحنابلة ويندب عند المالكية والحنفية أن يوضع الميت في القبر مستقبل القبلة، ويسند وجهه إلى جدار القبر ويسند ظهره بلبنة ونحوها ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«قبلتكم أحياء وأمواتاً» ولأن ذلك طريقة المسلمين، بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا دفن.
ويسن - كما سأبين - أن يسلَّ الميت من قبل رأسه، بعد أن يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر. ويسن أن ينزله في القبر أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده:«بسم الله وعلى سنة رسول الله» اتباعاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(1) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، لكنه ضعيف.
(2)
رواه مسلم.
ويوضع اللبِن (الطوب النيء) على اللحد، بأن يسد من جهة القبر، ويقام اللبن فيه، اتقاءً لوجهه، عن التراب، لقول سعد:«وانصبوا علي اللبن نصباً» . ويكره الآجُرّ (الطوب المُحرَق) والخشب؛ لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع اللبِن. ولا بأس بالقصب مع اللبِن.
ثم يهال التراب على القبر، سَتْراً له وصيانة.
4ً - يسن لكل من حضر عند القبر أن يحثو التراب في القبر من قبل رأسه أو غيره ثلاث حَثَيات باليد، قبل إهالة التراب عليه، لحديث أبي هريرة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً» (1)، وعن عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلى على عثمان بن مظعون، فكبر عليه أربعاً، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثيات، وهو قائم عند رأسه» (2)، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يصير ممن شارك فيها، وفي ذلك أقوى عبرة وتذكار، فاستحب لذلك.
5ً - يرفع القبر قدر شبر فقط، ليعرف أنه قبر، فيتوقى، ويترحم على صاحبه، ولأن قبره صلى الله عليه وسلم رفع نحو شبر (3)، وروى الشافعي عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر» وعن القاسم بن محمد قال:«قلت لعائشة: يا أماه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (4).
6ً - تسنيم القبر عند الجمهور أفضل من تسطيحه أي تربيعه، لقول سفيان
(1) رواه ابن ماجه.
(2)
رواه الدارقطني.
(3)
رواه ابن حبان في صحيحه.
(4)
رواه أبو داود (نيل الأوطار:82/ 4).
التَّمار: «رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً» (1) وكذلك قبور الصحابة من بعده، ولأن التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا، واستثنى الحنابلة دار الحرب إذا تعذر نقل الميت، فالأولى تسوية القبر بالأرض وإخفاؤه، خوفاً من أن ينبش، فيمثل به.
وقال الشافعية: الصحيح أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، كما فعل بقبره صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما (2).
7ً - يكره تجصيص القبر والبناء، والكتابة عليه والمبيت عنده، واتخاذ مسجد عليه، وتقبيله والطواف به وتبخيره، والاستشفاء بالتربةمن الأسقام، وكذا يكره التطيين عند الحنفية والمالكية.
أما التجصيص: أي التبييض أي الطلاء بالجص وهوا لجبس، ومثله تزويقه ونقشه، والبناءعليه كقبة أو بيت، فمكروه للنهي عنهما في صحيح مسلم الآتي. وإن كان البناء على القبر للمباهاة أو في أرض مسبلة (مخصصة للدفن بحسب العادة) أو موقوفة، فيحرم ويهدم، لأنه في حالة المباهاة من الإعجاب والكبر المنهي عنهما، وفي الموقوفة والمسبلة، فلما في ذلك من التضييق والتحجير على الناس.
وذكر ابن عبد الحكم تلميذ مالك أنه لا تنفذ وصية من أوصى بالبناء على قبره، أي بناء بيوت، وعليه يجب هدم ما بني على القبور من القباب والسقائف والروضات. لكن لا بأس عند اللخمي من المالكية ببناء حاجز بين القبور ليعرف به. وقيل عند الحنفية: لابأس بتطيين القبر، واليوم اعتاد الناس التسنيم باللبن
(1) رواه البخاري في صحيحه (المصدر السابق) وروى الجماعة إلا البخاري وابن ماجه أن علياً بعث أبا الهياج الأسدي وقال: «أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» (نيل الأوطار:83/ 4).
(2)
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
صيانة للقبر عن النبش، ورأوا ذلك حسناً، وفي الأثر:«ما رآه المسلمون حسناً فهوعند الله حسن» . ولا بأس عند الحنابلة أيضاً من تطيين القبر. وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر، عملاً بوصية أبي هريرة كما روى أحمد في مسنده، وبأمر ابن عمر بنزع فسطاط على قبر عبد الرحمن.
وأما الكتابة على القبر فمكروهة عند الجمهور، سواء اسم صاحبه أوغيره، عند رأسه أم في غيره، أو كتابة الرقاع إليه ودسها في الأنقاب، وتحرم عند المالكية كتابة القرآن على القبر، ودليلهم: ما روى جابر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها» (1).
وقال الحنفية: لا بأس بالكتابة على القبر إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن؛ لأن النهي عنها وإن صح، فقد وجد الإجماع العملي بها (2)، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق، ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، ويتقوى بما أخرجه أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حمل حجراً، فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» ، فإن الكتابة طريق تعرف القبر بها. ويباح عندهم أيضاً أن يكتب على الكفن «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «يرجى أن يغفر الله للميت» .
والخلاصة: إن النهي عن الكتابة محمول على عدم الحاجة،، وأن الكتابة بغير عذر، أو كتابة شيء من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك فهو مكروه.
(1) رواه مسلم وغيره.
(2)
رد المحتار لابن عابدين:839/ 1.
وأما اتخاذ المساجد على القبور فهو مكروه، حرام عند بعض المحدثين والحنابلة لقوله صلى الله عليه وسلم:«قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها، لكن ذكر ابن القاسم تلميذ مالك أنه لابأ س بالمسجد على القبور العافية (المندرسة) ويكره على غير العافية. وتكره أيضاً الصلاة إلى القبر، لحديث «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (2).
وأما التقبيل والاستشفاء بالتربة ونحوه فلأن ذلك كله من البدع، لكن لا بأس كما ذكر الشافعية على الصحيح من تطييب القبر.
8ً - يوضع على القبر حصى، وعند رأسه حجر أو خشبة: أما وضع الحصى فلما رواه الشافعي مرسلاً «أنه وضعه على قبر ابنه إبراهيم» وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت، وقال:«إنها لا تضر ولا تنفع، وإن العبد إذا عمل شيئاً، أحب الله منه أن يتقنه» . وأما وضع الحجر ونحوه لتعليم القبر، فللحديث المتقدم:«أنه صلى الله عليه وسلم وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» .
9ً - لا يجوز اتخاذ السرج على القبور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها السرج» (3).
(1) متفق عليه عن أبي هريرة، وروى الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» (نيل الأوطار:90/ 4) وفيه دليل على تحريم زيارة القبور للنساء كما سيأتي.
(2)
رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي.
(3)
رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، كما تقدم.