الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد
لظهور الإلحاد أسباب كثيرة كغيره من الظواهر الأخرى، ولا شك أن أكبر الأسباب هو إغواء إبليس لمن اتبعه، فقد أقسم على أن يبعد الناس عن ربهم ويغويهم عن اتباع أمره وشرعه عز وجل، ثم انضافت إلى ذلك أسباب أخرى هي من صنع الإنسان؛ كالرغبة الجامعة عند البعض في الانفلات التام عن الدين وأوامره ونواهيه؛ لتحقيق رغباته الشهوانية المختلفة، وبعض تلك الأسباب يعود إلى أمور سياسية كحبّ اليهود السيطرة على العالم، وبعضها يعود إلى طغيان الديانات المحرَّفة وعلى رأسها النصرانية التي هي صورة عن الوثنية؛ حيث جاءت بأفكار لا يقبلها عقل ولا يقرّها منطق، وفوق ذلك طغيان الرهبان والبابوات الذين وصلوا إلى حدٍّ لا يطاق من إذلال الناس واستعبادهم، مما جعلها أغلالًا يتمنَّى أصحابها الخروج عنها إلى أيّ وجهة تكون، فتلقَّفهم الملاحدة فأخرجوهم من الرمضاء إلى النار.
وبعض تلك الأسباب يعود إلى ظهور مذاهب فكرية كانت هي الأخرى كابوسًا ثقيلًا جعل الناس يلهثون إلى التشبث بأي حركة أو فكرة؛ كالرأسمالية التي أشعلت في النفوس حب الأنانية والجشع المادي والحقد والبغضاء، مما سهَّل الأمر على الملاحدة للوصول إلى قلوب الناس والتضليل عليهم بأن في النظام الإلحادي الجديد كل ما يتمنوه من السعادة والعيش الرغيد، وقد قيل:
يقضي على المراء في أيام محنته
…
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
وكان هذا الحال في الوقت الذي عمَّ الجهل بالله تعالى وبدينه القوميّ وكان للأحوال الاقتصادية التي يمر بها الناس نصيب الأسد في تقبُّل الناس للإلحاد؛ حيث انعدمت في المذهب الرأسمالي ونظام الإقطاع وسيطرة البابوات والأباطرة صفة الرحمة والعطف على الفقراء، فإزداد الأغنياء غنًى وزاداد الفقراء فقرًا وذلًّا.
فاستغلَّ الملاحدة تلك الأوضاع للتأثير على الناس بأن الأمر موكول إلى تصرفات الناس وليس هناك إله مدبر له، فازداد نشاط دعاة الإلحاد وأظهروا أنفسهم بمظهر المنقذ للفقراء، والساهر على مصالحهم، والمهتم بمشاكلهم، والمتصدي للقضاء على كل الأنظمة الفاسدة والطبقات المتجبرة، وبعد أن قوي أمر الملاحدة واستولوا على الحكم في روسيا وغيرها، وجَّهوا مدافعهم وبنادقهم إلى صدر كل من يأبى الدخول في ملتهم، فأثخنوا في الأرض، وأدخلوا شعوبهم في الإلحاد راغبين وراهبين.
ومما ساعد على انتشار الإلحاد أيضًا ما وصل إليه الملاحدة من اكتشافات علمية هائلة مكَّنهم الله منها استدراجًا لهم، وإقامة للحجة عليهم، على ضوء قوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فكلما تَمَّ لهم اكتشاف جديد فسّروه على أنه من بركة تركهم للإله وللدين، وانطلاقهم أحرارًا من ذلك، فاغترَّ بهم كثير من الجهال وظنوا أن ذلك صحيحًا، وأن هذه الحياة التي يعيشها العالم اليوم من تقدّم مادي وصناعات مختلفة وانفتاح تام
1 سورة فصلت، الآية:53.
على الشهوات والمتع المختلفة إنما هي دليل في نظر من لا يعرفون الدين الصحيح على أن الإنسان هو مالك هذا الكون وحده، وهوالذي ينظِّم حياته كما يريد.
ولم يترك دعاة الإلحاد أي فرصة لأتباعهم لالتقاط أنفاسهم ومدارسة أوضاعهم والتفكر الصحيح في خلق هذا الكون وما فيه من العجائب التي تنطق بوجود الخلاق العظيم لهذا الكون، وقد قيل: إن أحد الملحدين تحدَّى أي مؤمن بالله يناظره، فانبرى له أحد المؤمنين واتَّفقوا على تحديد موعد للمناظرة، وحينما جاء وقت المناظرة تأخَّر المؤمن من الوصول ففرح الملحد وأخذ يصول ويجول ويتحدَّى، وبعد وقت حضر المؤمن بعد أن انكسرت قلوب المؤمنين وملأها الهمّ والغم، فسأله الملحد لماذا تأخرت عن الوصول، فقال له: إن بيني وبينكم هذا البحر ولم أجد سفينة، وبينما أنا كذلك؛ إذ نبتت شجرة في البحر وامتدت أغصانها وجذوعها وكبرت، ثم تكسَّرت بعض أجزائها لتصنع منها قاربًا حملني إليكم، فقال الملحد: هذا كلام لا يعقل، فقال له المؤمن: إذا كنتم لا تصدقون بوجود قارب صغير بدون موجد، فكيف تصدقون بوجود هذا الكون وما فيه دون موجد؟ ثم قال المؤمن للمُلحد: أنت بلا عقل، فقال الملحد: بلى، إن لي عقلًا، فقال له المؤمن: أين هو منك؟ قال: لا أدري، فقال المؤمن: شيء في جسمك تؤمن به ولا تراه، ولا تريد أن تؤمن بالله حتى تراه، فانقطع الملحد.
أما بالنسبة لظهور الإلحاد في ديار المسلمين فإنه يعود كذلك إلى أسباب كثيرة من أهمها حالة الانبهار بظهور هذه الماديات التي ظهرت
علي أيدي غير المؤمنين بالله تعالى، وما أصاب قلوب ضعفاء الإيمان من انبهار تامّ برونق تلك الحضارة الزائفة الزائلة التي أخبر الله عنها بقوله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1، وانساق المنهزمون المغرمون بتلك الحضارة إلى التصديق بأن لا وجود لأيّ مدبر للعالم غير العالم نفسه، خصوصًا وأن المغلوب دائمًا يقلد الغالب، ويحب أن يتظاهر بصفاته ليجبر النقص الذي يحس به أمامه. وكان الأحرى بهؤلاء المنهزمين أن يعتزوا بدينهم ويضاعفوا الجهد والعمل ليستغنوا عن منَّة الملاحدة عليهم، وحينما رأوا ما هم عليه من الضعف والاستخذاء أمام ما تنتجه المصانع الكافرة ألقوا بالوم على الإسلام، فعل العاجز المنقطع أو الغريق الذي يمسك بكل حبل، وجهلوا أو تجاهلوا أن الإسلام يأمر بالقوة والعمل بما لا يدانيه أي فكر أو مذهب، والآيات في كتاب الله تعالى، والأحاديث في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم على هذا أشهر من أن تذكر.
وعلى كل حال فقد ظهر الإلحاد بشكله الجديد المدروس المنظَّم كبديل لكل الأديان، وزعماؤه هم البديل الجديد عن الأنبياء والرسل، والمتمسكون بالإلحاد هم المتطورون المتقدمون، والتاركين له هم الرجعيون المتخلفون، وللباطل صولة ثم يضمحل، فبعد تلك السنوات العجاف التي قوي فيها شأن الإلحاد والملحدين ظهرت الحقيقة للعيان، وإذا بالإلحاد والملحدين وما هم إلّا سماسرة اليهودية العالمية، وأنهم يهدفون إلى استحمار العالم ومحو أخلاق الجوييم وتحطيم حضاراتهم وإبطال دياناتهم، وكشأن كل
1 سورة الروم، الآية:7.
المذابه الباطلة والأفكار الجاهلية بدأ الموت يدبّ في جسم هذا الإلحاد البغيض، وإذا بالناس يكتشفون زيف أقاويله وأفانين خدعه، فبدؤا يهربون منه زرافات ووحدانًا، وعرف الناس أن الإلحاد هو الذي سبَّب لهم الشقاء والفقر وتزايد الأحقاد والقلق والاضطراب، وأنه هو الذي سهّل للمجرمين طرق الإجرام وظهور الفتن والضلال؛ إذ ليس فيه ثواب ولا عقاب في الآخرة، ولا ربَّ يجازي المجرمين بعذابه والمطيعين بثوابه، فما الذي يمنع المجرم من تنفيذ جريمته؟ وما الذي يجعل قلب الغني يشفق على الفقير؟ وما الذي يمنع السارق والغشاش والخائن ومدمن المخدرات؟ ما الذي يمنع هؤلاء من تحقيق رغباتهم؟ وللقارئ عظة مما يقع في العالم الملحد من أنواع الجرائم الظلم في جو محشون بالتوترات والهموم، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 1.
وإذا كانت المظالم والأنانيات وحب الشهوات وغيرها تحصل بين المؤمنين بالله تعالى، فما هو الظن بالمجتمعات التي لا تؤمن بالله ربًّا ولا بالإسلام دينًا ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، ولا ضمير حي يذكرها بما للآخرين من حقوق، ما هو الظن بتلك المجتمعات الذين هم كالأنعام أو أضل، الذين لا يعيشون في بيئات أسرية متحابَّة يعرف بعضهم للبعض الآخر ما له من حقوق صلة الرحم وحفظ الأنساب وتقوية المودة فيهما بينهم، فأين الأولاد بعد أن ابتلعتهم دور الحضانات الحكومية، وأين الأزواج بعد أن تفرَّق
1 سورة طه، الآية:124.
الجميع في كل اتجاه تلبية لحاجاتهم المعيشية واللهو أيضًا، وأين بقية الأقارب وقد تكفَّل الإلحادية بمحاربة أي وجود لذلك، وأين تلاحم المجتمع كله بعد أن تعهَّد الملاحدة بتفريق المجتمعات وضرب بعضهم بالبعض الآخر عن طريق الجاسوسية الهائلة، إلى حدِّ أنَّ أي شخص لا يأمن الآخر بأي حال، فأصبحت المجتمعات الإلحادية تعيش فيما بينها كما تعيش قطعان الذئاب أو السمك في البحر، وعلى المسلمين أن يأخذوا العظة بغيرهم، وأن يفروا من تلك الأفكار وصداقات زعماء تلك المجتمعات كما يفر الصحيح من المجذوم، بل وأشد، وأن يرجعوا إلى الله تعالى ويبتهلوا إليه أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.