الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
العلمانية والآداب:
لم يكن أمام أصحاب الفن والآداب -كما سموا أنفسهم- وهم هاربون من كل ما يتَّصل بالكنيسة من خيار لإشباع هذا الجانب إلّا أن يعودوا لنبش الماضي، الذي يتَّفق مع ميولهم التحرُّرية من كل ماضي الكنيسة وسيطرتها.
ولم يكن أمامهم -بسبب إعراضهم عن طلب الدين الصحيح- إلّا الحضارات السابقة، والتي تتمثَّل في الوثنيات اللادينية بذوقها الهابط، وإباحيتها، واستهتهارها بكل الفضائل التي دعت إليها الأديان، فقام الفنَّ والآدب على العلمانية اللادينية التي ليس فيها دعوة إلى الحشمة أو الفضائل أو مراقبة الله أو الحياة بعد الموت، وما يحصل للإنسان هناك من عقاب أو ثواب.
لأنَّ الإله الجديد الذي هو الطبيعة أو الإنسان نفسه، لم يعد في حاجة إلى تلك الفضائل الدينية، بعد أن انطلق من أغلال الكنيسة، ودخل عصر
التنوير، وعصر العقلانية، وعبادة الإنسانية التي داستها الكنيسة حينًا من الدهر، بحجة الترفُّع والتقرُّب إلى رضى الله تعالى، فلم يعد تدنيس الأعراض في إباحيةٍ جامحةٍ عارًا، بل هو الطريق السليم؛ لأنَّ الذي يترك هذه المتع واللذائذ الدنيوية التي يعيشها خوفًا من عقاب أخروي، هو شخص خيالي وغير متقدِّم، والذي يطرق برأسه حياءً من سماع الأغاني الفاجرة، أو الشعر الماجن، أو القصص الغرامية، أو الجنس، هو شخص ليس له ذوق ومتأخِّر عن الركب الناشئ، والذي لا يستطيع مشاهدة العري الفاضح؛ سواء في كان الأجهزة أو على الطبيعة، هو شخص متخلف.
وعلى المتحرر أن يستلهم الإبداع الجماليّ والحب والعاطفة الجياشة من الطبيعة التي أبدعت كل ما في هذا الكون من صور الجمال من جامدةٍ ومتحركة، ولا شكَّ أن هذا الانحراف الشائن سببه الأول انحراف الكنيسة، ولم يهتد هؤلاء الهاربون من طاغوت رجال الكنيسة إلى سلَّم النجاة الحقيقي، بل هربوا من طاغوت إلى طاغوت، وبدلًا من توجه هؤلاء الأدباء إلى نقد رجال الين فقط، تمادوا فنفذوا إلى نقد الدين، وحمَّلوه تبعة أفعال رجال الكنيسة وخرافاتهم التي لا يقبلها العقل ولا الفطرة، وتفنَّنوا في حربهم له شعرًا ونثرًا وقصصًا وفكاهات، وفي المقابل نشطت الدعوات الهدامة التي تبحث في أصل الإنسان والكون والإله، وتدلل على أن الإنسان أوجدته الطبيعة، وأن عقله هو إلهه، وتبين أن كثيرًا من أسرار هذا الوجود التي لا ترجع إلى إيجاد إله خاصٍّ لها، وبالتالي، فلا دين ولا أخلاق، ولا شيء يجب أن يحجب الإنسان عن التمتُّع بكل ما يستطيع
الوصول إليه من متع الدنيا وشهواتها التي لا نهاية لها، ولهذا نشط الأدباء والفنَّانون والكُتَّاب في إخراج القصص الغرامية والعري الفاضح، وتلقَّفها المتلهفون على الطلاع على كل جديد، وسمَّوْا تلك القذارات كلها أدبًا وفنًّا، وصارت الوقاحة والعهر فنًّا يجب الاطلاع على خباياه وخفايا أساليبه، وبيوت الدعارة والسهرات المريبة ووصف ما فيها، وما يجري فيها كله يجب أن يكون داخلًا تحت الأدب الحرِّ والفنِّ الذي يراد به متعة القارئين والسامعين، فأصبح الشاعر منهم، والمغني والممثل، وكثير من الكُتَّاب يقدمون كلامًا ماجنًا بكلِّ وقاحة، دون أن يجدوا في أنفسهم أدنى وازع من ضمير أو حياء، بعد أن طبع الله على قلوبهم فشابهوا البهائم، بل أصبحوا أضلَّ منها، كما قال الله تعالى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.
1 سورة الأعراف، الآية:179.