الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين، وبيان أسباب ذلك
عرفت مما سبق أن المسلمين ليس بهم حاجة إلى العلمانية، ومع ذلك فقد انتشرت العلمانية في ديار المسملين انتشارًا قويًّا، وأوجد لها أعداء الإسلام عملاء من أهل كل بلد، ينوبون عنهم في نشرها بالحيل أحيانًا، وبالقوة أحيانًا أخرى، وكان هؤلاء النواب أشدّ من ملاحدة الغرب شراسة وإلحادًا، وأشد جرأة وتعسفًا لأبناء جنسهم في إرغامهم على قبول اللاديينة، وربُّوا عليها أجيالهم، وأصبحت في كثير من البلدان أمرًا مسلَّمًا به، وحلَّت محل الإسلام في كل ناحية، مع التظاهر عند البعض بالتزام الإسلام.
والأمثلة لا تخفى على القارئ، فقد أصبحت تركيا دولة علمانية لا دينية على يد المجرم "أتاتورك"، الذي قطع كل صلة لتركيا بالإسلام والمسلمين، والذي كان علي يديه إسقاط آخر خليفة مسلم في الدولة العثمانية، وإسقاط الدستور الإسلامي، واستبداله بالقانون المدني السويسري، وقانون الجزاء الإيطالي، والقانون التجاري الألماني، وغيرها من القوانين الوضعية الجاهلية، وتعهَّد بإخماد كل حركة إسلامية، وربط تركيا مباشرة بالدول الغريبة، وكان من نتائج ذلك أن تمزَّق المسلمون ولم تعد لهم جامعة تجمعهم ولا رابطة تربطهم، وهو ما تحقَّق لأعداء المسلمين من المستعمرين، ولا يزال حكام تركيا يتزلفون إلى الغرب، ولم تكن تركيا وحدها هي الضحية، بل كانت كل الدول الإسلامية التي كانت خاضعة للاستعمار الإنجليزي أو
الفرنسي، أو غيرهما، دخلتها العلمنية من أوسع الأبواب، وأدخلت تلك الدول كله في ظلمات العلمانية، وأُقْصِيَ عنها التشريع الإسلامي بالقوة، مثل ما حصل في الهند على يد البريطانيين، وفي تونس على يد الفرنسيين، وقويت العلمانية كذلك في مصر، وأصبح لها كُتَّاب يدافعون عنها، بعضهم كان ينتسب إلى الأزهر مثل:"علي عبد الرازق" و"خالد محمد خالد" الذي يقال: إنه رجع عن ذلك.
ولا تزال الدول الإسلامية في مَدٍّ وجزر في تقبُّل العلمانية أو ردِّها، وإن كانت الأكثرية قد انخدعت ببريق العلمانية ومنجزاتها الحضارية المزعومة، بل لقد أصبح الكثير من الزعماء يراهن على بقائه في الزعامة في تزلفه لأقطاب العلمانية اللادينية في الشرق أو في الغرب، وبما يقدمه من خدمات في استيراد العلمانية ومحاربة الشرعية الإسلامية وممثليها، ولا يكتفون بهذا الإجرام، بل يضيفون إليه أن الشعوب هي التي تطلب ذلك، والساسة يذبحون الشعوب بأيدي الشعوب، ويتم كل ذلك دون أن تعلم الشعوب شيئًا عمَّا يجري في الخفاء وارء الكواليس في الشرق أو في الغرب، مع أنَّ كل عمل إنما ينفذ باسم الشعب، وأين الشعب، وأين ما يجري وراء الكواليس.
الأسباب التي أدَّت إلى انتشار العلمانية في بعض ديار المسلمين:
مما لا شك فيه أن انتشار العلمانية اللادينية أو غيرها من المذاهب الباطلة، إنما تنتشر في غفلة وخواء النفس عن التمسك بالمعتقد
الصحيح، وفي الوقت الذي يرى فيه الإنسان حسنًا ما ليس بالحسن من جرَّاء الدعايات البراقة، أو الضعوط الشديدة.
وفيما يلي نبيِّنُ بعض تلك الأسباب التي أدَّت إلى انتشار العلمانية في ديار المسلمين، ويمكن أن يكون من أول الأسباب كلها:
جهل المسلمين بدينهم: فلقد مرَّت بالمسلمين فترات ساد فيها الجهل، وتغلبت الخرافات، وقلَّ فيها الإقبال على العلم والتعلُّم، حتى وصل الحال إلى إمكان عَدِّ الذين يقرأون ويكتبون في البلد الواحد، وحتى الكثير من هؤلاء القراء والكُتَّاب قد لا يقرأ أحدهم إلّا القرآن الكريم من المصحف دون فهم ولا تدبر، وأُقْفِلَ باب الاجتهاد حين غلب الجهل، وقلَّ العلماء المجددون، وجمدوا على التعصب للآراء، وتشعَّبوا إلى مذاهب فكرية وطوائف متعارضة يحتدم بينها التنافس المنحرف، لا لشيء إلا لأجل بسط النفوذ واكتساب الأتباع، وهذا الانحراف ممثَّلته الصوفية بأجلى مظاهره؛ حيث نام الناس على ترديد أوراد جوفاء في معظمها للتبرك وزهد كاذب عن الدنيا وملذاتها.
والناس في نظر أقطاب الصوفية أصبحوا مذنبين مقصرين في جنب الله، وحصل عند بعض المتصوفة المسلمين ما حصل للنصارى في نشوء طغيان رجال الكنيسة في تجريمهم للناس، وتحطيم معنوياتهم، والضغط عليهم للتمسك برجال الدين أصحاب الجاه العريض عند الله، فبهم وحدهم أزمَّة الأمور، وبرضاهم يرضى الله، وبسخطهم يسخط.
واخترع الصوفية في مقابل هذا الغلوِّ النصراني مقالتهم المشهورة "من لم يكن له شيخ، فشيخه الشيطان"، واخترعوا أشدَّ من صكوك الغفران عند النصاري، وهو ضمان القطب الصوفي الجنة لمن يريد، ووصل الهوس بأتباع التصوّف إلى الكسل التامِّ والخمول المخزي، بحجة التوكّل على الله، وترك حطام الدنيا، إلى غير ذلك من مسالك الصوفية مما سبق بيانه في دراستنا للتصوف1.
وعلى كل حالٍ، فإن تلك الأوضاع الشائنة التي كان فيها المسلمون، مضافًا إليها سرعة انتشار الجهل، مضافًا إليها النهضة العلمية التجريبية التي شهدتها أوربا، كل ذلك وغيره قد أثَّر تأثيرًا قويًّا في ليِّ أعناق كثير من المسلمين إلى التأثُّر بالحضارة الغربية، فذهبوا يحاولون جاهدين تقريب تلك الحاضرة الغربية إلى الحضارة الإسلامية على حساب الحضارة الإسلامية، بحجة الانفتاح والاستفادة مما وصل إليه الغرب الذي تطوّر إلى أن وصل إلى الحال الذي ينظر إليه بعين الإكبار عند المغتربين بزخرف الحياة الدنيا، وقد اقتبس الكثير من المسلمين كثيرًا من المفاهيم الأوربية، وقدَّموها للمسلمين على أنها حلولًا لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تتماشى مع الإسلام، وانخدع بذلك الكثير من المثقَّفين ومن غير المثقَّفين، وكأننا نسير إلى تحقيق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع المسلمين سنن مَنْ كان قبلهم من اليهود والنصارى في كل شيء، حتى لو دخل أحدهم جحر ضبّ لدخله المسلم محاكاة وتقليدًا دون وعي وتبصُّر.
1 انظر: "فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام، وبيان موقف الإسلام منها" دراسة الصوفية.
ولقد زاد انبهار المسلمين بما عند الغرب، فقد أصبح التغريب من الأدلة القوية على التمدُّن والتحضُّر، وأن تلك العلمانية الملحدة هي التي أوصلت أوربا إلى صنع الطائرة والصاروخ، وغير ذلك من الدعايات التي أجاد حبكها العلمانيون وأفراخهم في البلدان الإسلامية، الذين يصورون العالم الإسلامي وكأنَّ السبل قد أنسدت عليهم، والطرق قد انقطعت بهم، ولم يبق لهم إلّا منفذ واحد يتنفَّسون منه، وهو منخر الحضارة الغربية العلمانية العاتية.
ومن المعروف أن الحقد الصليبي، وخصوصًا نصارى العرب جمرة مشتعلة لا تنطفئ إلّا أن يشاء الله تعالى، ولقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أنَّ اليهود والنصارى لا يمكن أن يرضوا عن المسلم حتى يتبع ملتهم، ويتخلَّى عن دينه الإسلامي، فقال عز وجل عن ذلك ومؤكدًا عليه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} 1.
ولقد وقف النصارى ضد الإسلام منذ بزوغ فجره وإلى اليوم، وكان بين النصارى وبين أتباع الإسلام من الحروب وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، ولا يقف عدو للإسلام إلّا وقف النصارى إلى جانبه مؤيدين له، ولا يجهل طلاب العلم شراسة الحروب الصليبية التي خاض غمارها جحافل الصليب، يؤجح نارها طغاة الكنيسة الذين كانوا يضمنون الجنة لكلِّ من حمل صليبه وسيفه لحرب المسلمين، التي كانوا يسمُّونها جهادًا في سبيل الله وحربًا مقدَّسة.
1 سورة البقرة، الآية:120.
وقد استمرت عدواة العالم الغربي النصراني للإسلام والمسلمين راسخًا في قلوب النصارى حتى بعد أن أدار العالم الغربي ظهره للنصرانية؛ إذ لم تمنعهم عداوتهم للدين النصراني من شدة تعصبهم لما وقع في أسلافهم تحت السيوف المسلمة، فقد أصبحت عداوتهم للإسلام أمرًا موروثًا بالفطرة، واستحكمت العداوة إلى الحد الذي أصبح من المستحيل أن يبقى أدنى عطف في قلوب النصارى على أي مسلم، ولكنهم ينافقون المسلمين بأنواع النفاق كلها تحت مسمَّيات عديدة، واشتد العداء للإسلام بسب وقوفه ضد مطامعهم وضد طغيانهم الجديد الذي أعقب طغيان رجال الكنيسة، وبسبب دعوة الإسلام إلى التحرر من كل الخرافات والأوهام، وإلى تحريمه الذل للكفار والاستكانة لهم، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة الظاهرة والخفية.
ولقد اتخذت عداوة النصارى للإسلام ومحاربتهم له أشكالًا مختلفة ومظاهر عِدَّة، ابتداء بحمل السلاح وتجييش الجيوش النظامية إلى الالتجاء للخداع والمكر المتمثِّل في غزوهم الفكري للعالم الإسلامي تحت عدة أقنعة، من التنصير إلى الاستشراق إلى استجلاب أبناء المسملين وتنصيرهم بطرقهم المختلفة؛ من بناء المدارس لهم، والمستشفيات، وإنشاء شتَّى المرافق التي قدَّمنا ذكرها، ونشطوا في ذلك نشاطًا عاليًا، أثمر فيما بعد استيلاءهم على العالم الإسلامي حسيًّا ومعنويًّا، وعلت حضارتهم المادية التي يفاخرون بها على حضارة الإسلام، علت في قلوب مريضة أصيبت بالانبهار بما عند الغرب من صناعة وفكر ونظام، سهل بعد ذلك تسرب العلمانية إلى عقول وجهاء وأصحاب نفوذ صاروا ربائب الأكابر وجهاء العلمانية.
وقد توالت الهزائم على العالم الإسلاميّ، فلا يخرجون من هزيمة إلّا إلى أخرى، وأصاب المسلمين الوهن والاستخذاء أمام العبقرية الأوربية، ونجح الجزء الأكبر من المخطَّطات اللادينية، وتضافرت الجهود، وأشغلوا المسلمين بأحداث هامشيِّة فيما بينهم، لا تخدم أيَّ شكل من أشكال المصالح العامة.
وكانت أكبر الخطط الناجحة هي تلك التي اتفق عليها زعماء الغرب من ضرب المسلمين بعضهم ببعض، والاتجاه بالحرب وجهةً أخرى ليس فيها جيوش ولا آلات حربية، وإنما هي حرب الإسلام ذاته عن طريق الغزو الفكري بدون إثارة المسلمين، والتفنن في إطلاق الشعارات البرَّاقة على أعمال العلمانيين والمنصِّرين في البلاد الإسلامية، في أشكال مساعداتٍ ظاهرها الرحمة وباطنها دمار الإسلام والمسلمين1.
أما الاحتلال الشيوعي الماركسي:
ففي الشرق الإسلامي قامت الشيوعية الماركسية باحتلال أراضي المسلمين هناك، وقتلت أهلها قتلًا ذريعًا، وقامت الصين بنفس العمل أيضًا حينما احتلت أجزاء من الأراضي الإسلامية، وكان الجميع يتباهون بقتل وتشريد المسلمين ونشر الرعب
1 كتبت هذا الكلام قبل الأحداث الأخيرة في أمريكا، وأما اليوم فإننا كما نسمعهم في الإذاعات تهدد أمريكا علنًا باحتلال العراق، وأن يتولى حكمه جنزال أمريكي، ولا أحد يدري عن مصير المسلمين إلا الله تعالى. وبعد هذا الكلام والترقب وقع المكروه، والآن أمريكا تحتل العراق وتذيق أهله ألوانًا من الذل والتنكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
والفساد، فتوالت على المسلمين النكبات من كل جانب، ولولا لطف الله تعالى وتكلفه بحفظ دينه وكِتَابه لكان العالم الإسلامي في مهبِّ الريح، فلقد فعل الشيوعيون بالمسلمين وبممتلكاتهم أفعالًا يندى لها الجبين، فكانوا يهدمون المساجد والبيوت على مَنْ فيها، في حقدٍ لا نظير له، والحمد لله الذي أقرَّ أعين المسلمين بموت الشيوعية واندحارها في عقر دارها، سنَّة الله في الباطل الذي يكون له صولة ثم يضحمل -كما سيأتي الحديث عن هذا المذهب الهدام وأتباعه الأبالسة.
أما بالنسبة للاحتلال اليهودي لأراضي المسلمين:
فلقد كان له تأثير واضح نجح رويدًا رويدًا من وراء ستار، كما هو شأن اليهود الذين يجيدون المؤامرات السرية ضد كل المخالفين لهم، وهم وإن لم يكن لهم مستعمرات كثيرة واضحة، فإن لهم مستعمرات هي أشد خطرًا من المستعمرات الظاهرة، فلم يكن السبب في انتشار العلمانية في البلاد الإسلامية هو ما تقدَّم من الأسباب فقط، وإنما انضاف إليها هذا التيار الخطير الهدَّام، والمتمثِّل في دور اليهود الحاقدين، الذين أخبر الله في كتابه الكريم عن شدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، وأنهم لا يزالون على عداوتهم إلى الأبد، قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 1، وجاءت السنة النبوية لتؤكد ذلك، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن خبث اليهود ومكرهم بالمسلمين في عدة أحاديث، منها:"ما خلى يهودي بمسلم إلا وهَمَّ بقتله"2.
1 سورة المائدة، الآية:82.
2 انظر: مصنف عبد الرزاق، الجزء العاشر، ص362.
وجاءت أفعال اليهود تجاه المسلمين -قديمًا وحديثًا- لتؤكد مصداق كل ما ورد من أوصافهم العدائية في الكتاب والسنة وأقوال الناس عنهم، وجاءت كذلك أقوال عقلاء الناس من مسلمين وغير مسلمين لتؤكِّد على خطر اليهود على البشرية كلها، واطَّلع الناس على ما جاء في "التلمود" من تعاليم ضد الجوييم أو الأمميين، واطلعوا على "بروتوكولات حكماء صهيون" الجهنمية، فهالهم الأمر، واتضح لكل ذي بصيرة أن اليهود من أشد الناس عداوة للبشرية، ومن أشدهم مكرًا، ولقد استعمر اليهود كثيرًا من البشر عن طريق منظماتهم ونواديهم، ومنها الماسونية، والشيوعية، وسائر تلك الأفكار، ويكفي في تصور شدة مكر اليهود استحواذهم على النصارى وإدخالهم في حظيرتهم، إلى الحدِّ الذي جعل النصارى يتنكَّرون لما هو من صميم عقائدهم الأساسية، وهو قتل اليهود للمسيح عليه السلام، كما تزعمه مصادرهم- فقد أصدر زعماء النصارى بيانًا بتبرئة اليهود من هذا القتل، وما ذاك إلّا للضغط اليهودي، كما أنهم أصمُّوهم وأعموهم عمَّا دوَّنه أحبار اليهود ضد النصارى من عداء شديد إلى حدِّ استحلال دمائهم، وأكلها في عيد فصحهم، كما فعلوا بالأب "توما" وخادمه "عمَّار" في القضية المشهورة التي حدثت ببلاد الشام القرن الماضي.
والذي يهمنا من هذا، إنما هو الإشارة إلى تأثير اليهود في نشر العلمانية اللادينية في البلاد الإسلامية، وسيتضح للقارئ مدى هذا التأثير بمجرد قراءته لـ"بروتوكولات حكماء صهيون"، وما جاء في "التلمود"، وفي تعاليمهم السرِّية التي يتواصون فيها بالقضاء على كل الأديان -ما عدا دينهم- وأن
ذلك سيتم بتشجيعهم لكل حركة معادية للدين، ولكل فكرة تحارب الفضيلة، فنشروا الفساد الأخلاقي بكل أشكاله تحت مسمَّى الحرية، وحاربوا الأديان تحت مسمَّيات مختلفة.
وما إن ظهرت اللادينية إلّا وتلقَّفَها اليهود ونشروها بكل وسائلهم الكثيرة ودعاياتهم المؤثرة، حتى ركن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام إلى تلك الدعايات، وتحولوا إلى جنود لخدمة اليهود؛ من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد حذَّرنا الله تعالى من الركون إلى أعداء ديننا بقوله عز وجل:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} 1، وقد وضحت هذه النار في الشعوب الإسلامية الذين تنكَّروا لدينهم وتقبَّلوا العلمانية، وضحت في معيشتهم وفي أمنهم وفي تكاتفهم، بل وفي كل شئون حياتهم، فكانت أمرًا مخزيًا:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2.
ولا يزال اليهود أداة تاخذيل وإغوء لكل الأمم -وخصوصًا الأمة الإسلامية، التي تمثل عدوهم اللدود الأبدي، ذلك العدو الذي تآمروا عليه منذ بزوغ فجره إلى اليوم، ولكن {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 3 وما تمجيدهم
1 سورة هود، الآية:113.
2 سورة الاحزاب، الآية:62.
3 سورة المائدة، الآية:64.
للعلمنية ولأقطابها، وذمّهم للإسلام ولتعاليمه إلّا جزءًا من عداوتهم له، وجزءًا من مخططاتهم للقضاء عليه، ولن يُتِمَّ الله لهم ذلك إن شاء الله إلى الأبد {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1.
ومن تلك الأسباب لانتشار العمانية أيضًا، هذه البعثات لأبناء المسلمين التي ترسل إلى الغرب للدراسة -إلّا من رحم الله منهم، ذلك أن الطالب يذهب باعتباره تلميذًا مستفيدًا لا مناظرًا مدافعًا، فيشبع من هناك بما قد أُعِدَّ له وفق مخطَّط محكم، وحينما يُتِمُّ دراسته ويرجع إلى بلده الإسلامي لا شكَّ أنه يرجع بغير الفكر الذي ذهب به؛ إذ لا بُدَّ وأن يتأثر ولو باتجاه واحد على الأقل، أو شبهة لا يستطيع دفعها عن نفسه مهما حاول التماسك، والتوفيق بيد الله تعالى.
بل إن كثيرًا من الذين ذهبوا للدراسة في الدول الكافرة العلمانية يرجعون بقلوب غير التي ذهبوا بها معهم، فيتمنَّون لو أن مجتمعهم الإسلامي يتحوّل في لحظة إلى صورةٍ طبق الأصل عن تلك المجتمعات الكافرة التي ألَّفوها وأشربوا حبها، وقد صرَّح كثير منهم بإعجابه بالحضارة الأوربية، واعتقدوا أن لا مخرج للمسلمين إلى السعادة وامتلاك القوة إلّا بتقليد الغرب في كل صغيرة وكبيرة، كالطهطاوي وأحمد خان، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين.
فرجع كثير من طلاب العلم من المسلمين الذين ذهبوا إلى الدول الأوربية للدراسة وهم متضلعون من تعالم العلمانية ومقتنعون بها، وإذا رجع الفكر
1 سورة الصف، الآية:8.
إلى تاريخ المسملين الأوائل، فإن صاحبه يشعر بالحزن والأسى؛ لأن ماضي المسلمين كان هو النور المشرق، وكان العلم وأهله وكتبه كلها عند المسلمين وفي جامعاتهم، في الوقت الذي كانت فيه أوربا في حمئة الجهل، فانقلب الحال رأسًا على عقب حينما زهد كثير من المسلمين عن تعاليم دينهم، ورغبوا في الحضارة الغربية وزخرفها، فأصبح بعض لمسلمين ينظر إلى العلوم الغربية بنفس الإكبار الذي كان ينظر به الغرب إلى العلوم الإسلامية.
ومن الأسباب أيضًا: استغلال العلمانيون قيام النعرات الجاهلية؛ من قومية ووطنية، ودعوى نبذ التخلّف، وما إلى ذلك، وقد استجاب لهم الكثير، البعض بحسن نية، والأكثرون بخبث نية وتخطيط بارع للكيد للإسلام والمسلمين.
وصار حال المسلمين على حد ما قاله أحد الشعراء:
يقضي على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
وما إن سرت نخوة الجاهلية في عروق القوميين والوطنيين والتقدُّميين، إلّا وسرى معها التعالي والرجوع إلى الأمجاد الجاهلية المزعومة التي كانت العلمانية تصفق لها، وتصف أهلها بشتَّى نعوت المدائح والعبقريات الفذة.
كما أن أولئك الثائرون قد أتوا على الأخضر واليابس، ورأوا أن بناء مجدهم يتطلَّب إقصاء تعاليم الدين والسير خلف ركب الحضارة الأوربية الذي تولَّد من قيام العلمانية الجديدة، والسير في طرقاتها حذو القذَّة بالقذَّة.
ومنها الترابط بين العلمانيين في الغرب وأتباعهم في ديار المسلمين، ومساندة بعضهم بعضًا، وإمدادهم بأسباب القوة التي تمكنهم من اعتلاء المناصب في بلدانهم، بعد أن باعوا ضمائرهم وأصبحوا عملاء لهم، فضلًا عن الضغط الذي تتعرَّض له الحكومات الإسلامية لإفساح المجال واسعًا أمام طلائع العلمانيين، بل وتشغيلهم بحكم ما يحملون من شهادات أوربية -يجب أن تكون محل الاهتمام والتقدير؛ لأنها صادرة عن موطن التقدم والرقي، كما يصورونها في أذهان عامة المسلمين المنهزمين في أنفسهم.
وقد ظهر ذلك واضحًا في معاملة هؤلاء المستغربون، فإنَّ لهم الأولوية في الوظائف وزيادة الرواتب، كما نسمع من أخبارهم.
وإذا أبى إلّا التحدُّث بالإنجليزية فهو نور على نور، ودلالة على تقدمه ومعرفته، ولقد نشر هؤلاء مبادئ العلمانية الشريرة بكل وسيلة، وكان لهم أكبر الأثر في الدعاية للعلمانية ومبادئها بين عامة المسلمين، وقد ظهر ذلك التأثير في سلوك العالم الإسلاميّ في المظاهر الآتية: