الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: الروحية والملاحدة
وإذا كاالروحيون يؤمنون بالروح على الصفة المذكروة فقد قابلهم الملاحدة الماديون، فأنكروا أن يكون للروح حياة بعد الموت، أو حتى وجود مستقل، فضلًا عن الحياة بعد الموت، بل وجودها إنما هو تبع لوجود الجسم، وهو اعتقاد باطل كانوا فيه على طرفي نقيض مع الروحيين، الحق هو مع الذين هداهم الله من المؤمنين الذين يعتقدون أن هذه الحياة الدنيا إنما هي ممرٌّ إلى الحياة الآخرة بعد موت الإنسان وخروج روحه من جسده، وتوجد عشرات الأدلة النقليَّة والعقلية على هذا الاعتقاد، ولسنا بصدد بحث إثبات اليوم الآخر، ولكن المقصود إثبات أن للإنسان روحًا تحلّ في جسمه فيحيا، وتخرج فتنتهي الحياة منه، أي: إنها جسم خارج هذا الجسم المادي، وما يزعمه الماديون أن الروح ليست شيئًا خارجيًّا فهو كلام باطل يدل على قبح معتقداتهم، وما استدلوا به من أنه "كما يحدث تأثير معين من تركيب عدة عقاقير في دواء واحد، وكما تخرج موسيقى معينة بضرب الأوتار بترتيب معين، كذلك يوجد بتركيب العناصر على نمط معين مزاج خاص هو السبب في الإدراك والتخيل الفكري، وهو ما نسميه الروح"1 إن هو إلّا استدلال باطل.
وأول ما يدل على بطلانه أمر مسلَّم وهو أن الجسم تحصل عليه عدة تغييرات من الضعف والهزال والصحة والسمن وتغير اللون وغير ذلك
1 الدين في مواجهة العلم ص52.
من التغييرات التي نشاهدها تجري على الأجسام، ولو كانت الروح هي نفس الجسم ممتزجة بعناصره التي تكوَّن بمجموعها جسم الإنسان؛ لسرت إلى الروح كل الآفات التي تسري على الجسم، وهذا ما لم يحدث، بل قد يقطع جزء من الشخص، ومع ذلك لا يحصل على الروح أيّ تأثير، وهو دليل على أن الروح جسم مستقل لا يعلم كيفيته إلّا الله تعالى وحده.
وأما قياس وجود الروح في الجسم بوجود صوت الأوتار بالضرب عليها فهو استدلال فاسد؛ لأن الأوتار أو الماكينات تتعطّل فور أيّ خلل في جسم تلك الأوتار أو الماكينات، فلو انكسر ترس واحد من الماكينة أو وتر واحد من أوتار الموسيقى التي استدلوا بها على ثباتها مع الجسم لتعطلت تلك الآلة بأكملها، وهو خلاف ما يشاهد في الروح والجسم، فالروح لا تتأثّر لا بالزمان ولا بالمكان عن عملها في الجسم، بل تبقى الروح مع قطع بعض أجزاء الجسم كما تقدَّم، ويبقى لها فهمها وإدراكها ولو تغيَّر الزمان والمكان.
وهذا ما قرَّره أيضًا العلم الحديث، ولم تقف الروحية عند هذا الحد، فقد ظهرت بحوث روحية غاية في إثارة الإعجاب "وهذه البحوث الروحية لا تثبت البقاء المحض للروح فحسب، وإنما تثبت بقاء عين الشخصيات التي كنَّا على علم بوجودها قبل موتها"1.
إن الإنسان له خواص غير عادية، وقد قام كثير من العلماء بدراسة هذه الجوانب، وأقيمت مراكز بحوث للعناية بالدراسة التجريبية لهذه الخواص
1 الدين في مواجهة العلم ص56.
"وقد أقيم أوّل مركز لهذا النوع من الدراسات سنة 1882م، وقد بدأ عمله سنة 1889م بعد إجراء اتصالات واسعة النطاق شملت سبعة عشر ألف شخص من الإنجليز، وتوجد مراكز مختلفة تتخصَّص في هذا النوع من الدراسات في مختلف البلدان، وقد أثبتت هذه الدراسات أن شخصيَّة الإنسان تظلّ باقية بعد موت جسمه في صورة من الصور التي يكتنفه الغموض"1.
وهذه الحقيقة هي التي جعلت الكثير من الباحثين من الملاحدة يوقنون بوجود حياة للإنسان بعد موته، مع أنهم لايؤمنون بأيّ دين، وإنما آمنوا بهذه الجزئية لإثبات العلم الحديث لها، لا لأجل الدين، مثل البروفيسور "دوكاس" وغيره من الملاحدة الذين أقرّوا بوجود هذه الحقيقة في شخص الإنسان بعد دراسات عديدة.
وقد استهوت هذه النتائج كثيرًا من الباحثين مسلمين وغير مسلمين، من العرب ومن غيرهم2.
وقولهم ببقاء شخصية الإنسان على صورة ما بعد وفاته، لعل الحديث الذي يفيد أن الإنسان ينفى كله إلّا عجيب الذنب، فإنه منه يركَّب -لعل هذا الحديث يستأنس به للنظر فيما قالوه، أما إن أرادوا ببقاء الشخصية غير هذا فإنهم يطالبون بإقامة البراهين المثبتة لذلك. والله أعلم.
1 الدين في مواجهة العلم، ص57.
2 انظر أسماء هؤلاء في كتاب الدين في مواجهة العلم ص58.