الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
الرأسمالية "البرجوازية
":
لقد ظهرت الرأسمالية -أو البرجوازية كما يسميها الشيوعيون- لعدة عوامل من أهمها:
- استحواذهم في الأساس على مصادر المال واستقراره في أيديهم.
- اختراع الآلات الحديثة التي حلّت محل الأيدي العاملة من طبقات الإقطاع والرق؛ لعدم إنتاجهم بالكثرة التي تنتجها تلك الآلات، فصارت حالة الرق متناقضة مع حالة الإقطاع، فألغت بدورها حالة الإقطاع التي كانت قائمة على استعباد الكادحين للعمل للإقطاعيين النبلاء، وبحث الجميع عن رأس المال.
- ازدياد حجم التجارة في أوروبا بدلًا من الزراعة.
والملاحظ أن أولئك الذين كانوا يطلبون العمل بأيديهم لم يكن دورهم كافيًا لملأ ما تحتاج إليه الحركة الصناعية القوية كما هو الحال بالنسبة للآلات الحديثة، وهذا أحدث بدوره ردَّ فعل لدى العمال لتحطيم الإقطاع المستند إلى الآلات الحديثة؛ بسبب التناقض مع القوى المنتجة النامية من جهة، وحاجة العمَّال من جهة أخرى إلى العمل والكسب، وهذا بدروه قد هيَّأ الجو لتصاعد قوة الرأسمالية التي تسعى دائمًا لزيادة الإنتاج والمكاسب الوفيرة، وما نشأ بين أفرادها من تعاونٍ مثمر في شتَّى المجالات، وقد جعلوا استغلال طبقة من الناس لطبقة أخرى هو أساس الحضارة لكي يحصل التناقض الذي يوصل طبقة إلى الاستعلاء على طبقة أخرى، فما من شر لطبقة إلّا وهو خير لطبقة أخرى، وهكذا صراع دائم من أجل البقاء، كما أنَّ تجمع الشعوب واتحادها إنما يعود حسب تفسيرهم إلى المصالح الاقتصادية التي قامت عليها الرأسمالية، غير أن الرأسمالية أصبحت مناقضة لمصالح طبقة البروليتاريا -أي طبقة العمال- فكان لزامًا على هؤلاء العمال أن
يصارعون طبقة الرأسمالية، وأن يطيحوا بها بالطرق الثورية، وأن يستبدولها بالنظام الشيوعي الذي يستوعب تلك التناقضات ويصفيها في مجتمع ليس فيه طبقات يستغل بعضهم بعضًا، وإنما فيه طبقة واحدة يكون الإنتاج فيها ملكًا مشتركًا بين الدولة -خدعة شيوعية بارعة، ولكن هذا الصراع لا ينقل الناس مباشرة من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بل يمر بمراحل تدرجية قبل انتقالهم من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ثم إلى الشيوعية التي تحقِّق لهم مبدأ "مِنْ كُلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب حاجته"، والتي تتم بجهود ضخمة من العمل المتواصل لزيادة الإنتاج لتحقق تلك القاعدة "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته".
وهكذا يتضح بجلاء أن التعليلات الشيوعية كلها قائمة على مجرَّد خيالات وتصورات ليس لها ما يسندها، بل هي ضد العقل والمصالح كلها دينية ودنيوية، وأنَّ ما تصوروه عن بداية المجتمع المشاعي وظهور الرق والإقطاع والرأسمالية، ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية، كل هذه الحلقات افتراضات وتخمينات، وأول ما يدل على كذبهم فيها أنهم لا يستطيعون أن يحددوا بداية كل مرحلة وظهور التي تليها تحديدًا دقيقًا، مع أنه حتى لو حددوها لا يقبل منهم لعدم وجود أدلة على ذلك يقبلها العقل.
وقد سلسلوا تلك الأحداث ليصلوا إلى النتيجة التي يهدفون إليها، وهي إظهار الشيوعية بمثابة الثمار الشهية اليانعة التي نضجت بعد الجدّ والاجتهاد وتطور الأحوال من حال إلى حال، ولإظهارها كذلك بمظهر المنقذ لتعاسة الإنسانية على مدى تاريخ الحياة البشرية على وجه الأرض، وكم علت تلك
الأصوات، وكم أخذت في طريقها من ضحايا قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام "جورباتشوف" الذي تولّى رئاسة الاتحاد السوفيتي بعد "يوري أندروبوف""وبريجنيف"، وللباطل صولة ثم يضمحل، وقد مزَّق الله الاتحاد السوفيتي كل ممزَّق، ويتلوه إن شاء الله الرأسمالية الأمريكية وغيرها من مذاهب الكفر والضلال.
فلا يوجد عند العقلاء أدنى شكٍّ في أنَّ تفسير الملاحدة لتاريخ البشر هو ضلالة كبرى من ضلالات الشيوعية، وهضم واضح لتاريخ البشرية، وطمس للوجه المشرق من تاريخهم في مختلف الأزمنة، حينما لا يعترف هذا التفسير بأية قيمة خلقية، أو دينية، أو ثقافية، أو اجتماعية، قبل ظهور عبادة المادَّة الصماء، فهو قائم على النظرة الاقتصادية البحتة، فلا قيمة لأي شيء إلّا من خلال هذه النظرة الضيقة الباطلة التي لا يعرفون سواها.
إنَّ تاريخ البشر مملوء بالأحداث المختلفة على مرِّ الليالي والأيام، بعضها تكون أحداث كبيرة، وبعضها صغيرة، وبعضها يكون للمادَّة تدخل ما فيه، وبعضها لا تمت إليه المادة بأدنى سبب. ولقد سجَّل التاريخ أعظم حدث في هذا الوجود في فترة زمنية قصيرة ولا تزال آثارها واضحة قوية وسبتقى كذلك إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، فما هو هذا الحدث؟ إنه الإسلام بتعاليمه السامية ونظمه العادلة، فكيف نشأ؟ وما هي الأسباب التي أدَّت إلى تغييره للمفاهيم التي قبله رأسًا على عقب، وأي حالة اقتصادية اقتضت ظهوره على تلك الحال؟
والجواب عند المؤمنين بالله تعالى لا يحتاج إلى إعمال الفكر ولا إلى الاجتهاد، فإن الجواب يأتي تلقائيًّا أن الله هو الذي أنشأه وأظهره في الوقت الذي اقتضته حكمته دون أي صراع مادي، ولهذا فإن التفسير الإسلامي لتاريخ الإنسان ونشأته في هذا الكون من البدهي أن يختلف اختلافًا جذريًّا عن التفسير المادي له عند الملاحدة، ذلك أن الإسلام يقرر أنّ للإنسان مفهومه الخاص به، وأنه متميز عن بقية المخلوقات التي تساكنه في هذه الدنيا، فهو مفكر وله عقل وتمييز، يدبر الأمور ويصرفها وفق مصالحه وإرادته، وهو الذي يسيِّر المادة، وليس المادة هي التي تسيره وتتصرف فيه -كما في المفهوم الشيوعي، ففي الإسلام ينبع تاريخ الإنسان من حياته وتفكيره وعمله وتوجهاته، وما يتلقاه من التعاليم الإلهية على أيدي رسل الله -عليهم الصلاة والسلام، وليس من المادة.
يبدأ تاريخ الإنسان في الإسلام من خلق الله له من طين الأرض، ثم نفخ الروح فيه، ثم إهباطه إلى الأرض واستخلافه فيها، وقيامه أو عدم قيامه بأوامر الله ونواهيه، وسلوكه الخيِّر والشرِّير، وما يسطره الإنسان في صفحات كتابه الذي سيقرؤه يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الحساب والثواب والعقاب. ولاشك أن هذه المفاهيم بعيدة كل البعد عن تاريخه المادي في مفهوم الشيوعية التي تهبط بالإنسان إلى الحضيض، ولا تعترف له بتلك المنزلة العالية التي يشابه فيها الملائكة في علوِّ روحه إن أطاع الله تعالى واتقاه، هذا الجانب غفلته الشيوعية، ولم تنظر إليه إلّا على أنه حيوان بهيمي لا هَمَّ له إلّا بطنه وفرجه، ولا ذكر لروحه ومزاياه العديدة، وليس فيها أن الله كوَّن الإنسان من جسد وروح، وأن كلًّا منهما يطالب بحقه
وغذائه المادي والروحي مطالبة حثيثة، وليس فيها أنه لا يجوز أن يغلب جانب منهما على آخر إلى حد الإهمال -كما قررته الشيوعية، فهذا التوازن لا يوجد إلّا في الإسلام؛ لكي يتمَّ التوازن الحقيقي بينهما، فإن الإسلام لا يقدّس الجسد وشهواته الحسية فقط، ولا يقدّس الروح إلى حدّ الغلوِّ فيها، وإنما الإسلام يوازن بينهما ويجعلهما شريكين متماسكين لا متصارعين -كما هو حال الأنظمة الجاهلية المادية.
ويمكننا القول بأنه إذا كان ظهور الشيوعية كنتيجة مادّية قامت بالعنف والجبروت، فقد رأينا نهايتها المخزية، بينما الإسلام قد قام على العقيدة الصحيحة والعدل التامّ، انتصر وتأثر به الناس وأحبوه، وأحدث في أنفسهم قوة جبَّارة كانت كامنة، ففجَّرها الإسلام وأنار الأرض كلها، ولم يقم على العنف ولا الصراع المادي والطبقي لاستناده إلى عناية الله تعالى به؛ لأنه حق، والحق دائمًا هو الباقي، وأما الزبد فيذهب جفاء، فلو أنَّ الإسلام كان ظهوره بسبب عوامل مادية لانتهي بانتهاء تلك الحال، أو لوجب أن تنشأ قوة مثله كلما تكررت تلك الحال التي افرتضها الملاحدة لظهور الأنبياء والمرسلين، والشرائع التي أتوا بها، وهم لا يقولون بذلك ولا يقرونه، فظهر تناقضهم واضحًا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
1 سورة النور، الأية:40.