الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى:
تذكر الجواب بالإضافة إلى ما سبق فيما يلي:
1-
دليل الجاذبية:
من شبههم على نفي وجود الإله الخالق والحافظ لهذا الكون ما زعموه بعد اكتشاف نظام الجاذبية في علم الفلك من أنَّ هذا الكون محفوظ بقانون الجاذبية ومتماسك بسببها لا بقدرة إله خالق، ولا شك أن هذا الفهم تافه سخيف؛ إذ يقال لهم: هل نظام الجاذبية ينفي وجود إله خالق قادر، أم أنه على العكس يدل على وجود الإله سبحانه وتعالى الذي خلق الجاذبية ذاتها؛ لتعمل وفق ما أراد وقدَّر لا وفق ما تريد هي؛ إذ لا إرادة لها ولا وجود لها من نفسها، فهي قد وجدت بعد أن لم تكن، وهذا الترتيب العجيب في الكون يفوق كل قدرة، ويفوق كل تدبير، لقد حيَّر العقول وتضاءلت دون إدراكه الأفهام، فكيف ينسب هذا كله إلى الجاذبية المحدثة المخلوقة؟ كما أن كثيرًا من الملاحدة -كما تقدَّم- يعترفون بعجزهم عن الوصول عن طريق الأبحاث والتجارب إلى معرفة أسرار كثير من الحقائق المشاهدة في هذا الكون، وهذا الإقرار يلزمهم أن يقروا أيضًا بحقيقة الإله، بل وحقيقة الدين؛ لأنه يشتمل على كثير من الحقائق التي لا يصل العقل إلى معرفتها لا عن طريق البحث ولا عن طريق التجارب، فكيف ساغ لهم الإيمان بأن لبعض الحقائق المشاهدة حقائق باطنية عجز العلم عن معرفتها، بينهما ينفون وجود الإله وحقيقة الدين؛ بحجة أن الدين قائم على أمور لا تدرك حقيقتها الباطنية عن طريق البحث والتجربة، هذا تناقض واضح وتفريق بلا مستند.
2-
دليل الارتقاء:
من شبههم التي استندوا عليها في إلحادهم في الله تعالى قضية الارتقاء:
أي: ارتقاء المخلوقات وتطورها في خلقها تلقائيًّا، وهذه القضية رغم وضوحها في الدلالة على وجود الله تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه، إلا أنهم نظروا لها من جانب آخر بعيد عن الفهم السليم والعقل المستقيم، فزعموا أن أنواع الحياة قد وجدت نتيجة لعمل الارتقاء لافتراضهم أنه على فرض وجود خالق لهذه الحياة بزعهمهم، فلا يمكن أن يخلقهم على هذا الترتيب من الصغر إلى الكبر في الإنسان والنبات، بل يخلقه دفعة واحدة، كل صنف في كمال شكله بدون ترتيب يخضعها لعمل تطوري طويل الأمد حسب زعمهم، وأن المخلوقات تطورت بنفسها بفعل المادة، وأنها تولدت عن بعضها للتشابه بينها، وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي تحيط بها.
والواقع أنه ما من مؤمن بالله عز وجل إلّا وهو يعلم أن وجود الخلق على هذه الحالة إنما يعود إلى مشيئة الله وقدرته، ولتنتظم الحياة على سنة واحدة، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
وأن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل المادة إن هو إلّا خرافات سخيفة، ولو كان ذلك صحيحًا لأدى التطور إلى أن تصبح الذرة جملًا أو فيلًا ضخمًا، فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز ذلك لها؟
وقد مرت ملايين السنين ولا تزال الذرة هي الذرة، والجمل هو الجمل، والإنسان هو الإنسان، لم يتطور من قرد إلى إنسان إلّا عند "داروين" الملحد الذي أصبحت نظرياته محل سخرية العقلاء من الناس وضحكهم منها، وإذا كان الارتقاء بمعنى أن الإنسان والحيوان يكون في أوله صغيرًا ثم يكبر شيئًا فشيئًا إلى أن يكتمل، فهذا أمر حقيقي مشاهد وهو يدل على قدرة قوية تربيه إلى أن يصل إلى درجة الاكتمال، لا يدل هذا على أنه ليس له إله رحيم مدبر.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على هذا التطور والارتقاء في حياة الإنسان والحيوان والنبات، ولو كان للطفل المولود أسنانًا حادَّة من أول يوم لما أرضعته أمه، ولو ولد شابًّا لما وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله، ولو كانت الشمس تسطع حرارة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها وفي غروبها كل يوم، ولكن الملاحدة قلبوا الأمر، فجعلوا ما كان دليلًا واضحًا على قدرة الله تعالى ووجوده جعلوه دليلًا على إنكار وجوده؛ لأن قلوبهم غلف وقد طبع الله عليها.
وأمَّا ما زعموه من أن الكائنات الحية نشأت عن التولُّد، وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها، فإنه يقال لهم: إن هناك حقائق مسلَّمة لا يعارضها عقل ولا دين بحال، بل يؤكدها الدين والعقل بدلالتها على الحقائق العظيمة، ولا يصح أن يقال أنها دليل على صحة نظرية التطور التي يثبتها الملاحدة وهي:
1-
الكائنات الأدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات الأرقى كما يذكر الباحثون،
فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية وجد متأخرًا، بينما النباتات وجدت أولًا، فإن الله عز وجل خلق السموات والأرض، وخلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها وما يحتاج إليه البشر حين يوجدون عليها.
2-
يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية كالإنسان والقرد، ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى، لم يتحول القرد إلى إنسان، ولا الإنسان إلى قرد.
3-
الكائنات الحية تملك قدرة على التكيف مع الظروف "ظهور المناعة لمقاومة الأمراض، تغير لون الجلد لمقاومة الحرارة وأشعة الشمس
…
إلخ1.
ويقال لهم في توجيه ذلك: إن كل هذه الثوابت لا يعارضها الدين أو العقل، وهي من أوضح الأمور على قدرة الله تعالى الذي منحها هذه الصفات، فإن ترتيب وجود الكائنات يعود لمشيئة الله تعالى كذلك، ولا يلزم من وجود الكائن الأوّل أن الكائن الذي يليه تولَّد عنه، فإنه الإنسان مع وجوده متأخرًا لا يصح أن يقال أنه تولّد عن النبات الذي سبقه في الوجود وإلّا لزم التسلسل، فإنه يقال لمن يريد إثبات ذلك: والنبات أيضًا عن أيّ شيء تولَّد؟ فلو قال: من اجتماع أجزاء المادة، يقال له: وأجزاء المادة أيضًا من أي شيء تولدت؟ وهكذا، فلا يجد جوابًا في النهاية إلّا التسليم رغم أنفه شاء أم أبى.
وأما وجود التشابه بين الكائنات الحية فلا يعني هذا أيضًا أن كل كائن
1 "الله يتجلى في عصر العلم"، ص38.
تولّد عن شبهه، فلا يصح أن يقال: إن القرد تولّد عن الإنسان، أو الإنسان تولّد عن القرد، لما بينهما من تشابه، لا يمكن هذا إلّا في نظرية "دارون" وقد عرفت سخافتها، بل إن العلم والدين كليهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات الحية مع بعضها البعض، أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها، إنما هو دليل قاطع على أن مصدر الإيجاد واحد وهو الله تعالى، ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن بعض لما كان هناك فرق في مفاهيم العقلاء بين أن تقول لإنسان: أنت قرد أو كلب أو شجرة، وبين أن تقول له: أنت إنسان أو قمر أو وردة؛ لحصول التولّد الذي زعمه الملاحدة بنظرياتهم السخيفة، إذا ما دامت الكائنات كلها تولّدت عن بعضها البعض فلا يبقى بينهم أيّ فارق حقيقي.
وأما وجود القدرة للكائنات الحية على التكيف مع الظروف التي تحيط بها، فإن العلم والدين يثبتان ذلك ويرجعان السبب إلى قوة مدبرة رحيمة هي قوة الله تعالى وقدرته ورحمته، فإن تلك القدرة على التكيف إنما هي رحمة من الله تعالى لبقاء ذلك الكائن حينًا منتفعًا بذلك التكيف على مقاومة انقراضه إلى الوقت الذي يشاء له موجد تلك القدرة، فأي دليل للملاحدة في هذا على عدم وجود الله تعالى الخالق لهذه الكائنات، والموجد لها هذه القدرة على التكيف في معيشتها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1.
1 سورة الحج، الآية:46.
3-
قانون العلة أو المعلول أو التفسير الميكانيكي للكون:
من المسلَّم به عند العقلاء وكل المؤمنين بالله تعالى، أن الله تعالى يوجد الأشياء عند وجود أسبابها في أغلب الأمور، إلّا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب، وحينما اكتشف علماء القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر أنَّ الكون يسيره قانون العلة والمعلول طار الفرح بمفكري الملاحدة، وظنوا أنهم وجدوا ضالَّتهم المنشودة في التدليل على عدم وجود الله تعالى؛ لأن كل الأشياء ناتجة عن علة ومعلول، فلا ضرورة حينئذ إلى القول بوجود إله موجد؛ لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث بسبب علل مادية دون تدخل خارجي، غير وجود العلة والمعلول التي تغني عن القول بوجود الله عز وجل، وهو ما يسميه بعض الباحثين "التفسير الميكانيكي للكون"، ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لم يزعموا أنه بديل عن الله تعالى، بل صرحوا بأنه سنة الله في الخلق أن يجري الأمور بواسطة أسباب وعلل، فقد قال "نيوتن":"هذا هو أسلوب الله في العلم، فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل"1.
ولكن الملاحدة وهم في نشوة فرحهم ببناء مذهبهم الإلحادي جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم ونظريتهم إلى الدين بعين البغضاء وأنه بزعمهم ينافي العلم، وأنَّى لهم أن يكون هذا الاكتشاف دليلًا على عدم وجود الإله الخالق الذي قدّر الأسباب وضرب الآجال وفق سننه في هذه الكون، التي هي أجلى من الشمس لولا عناد الملاحدة واستكبارهم، وقد
1 الدين في مواجهة العلم ص42.
أشار الله تعالى إلى هذا في القرآن الكريم حينما أُمِرَت مريم بأن تهز النخلة وهي في حالة تمام الإعياء والتعب في وقت الولادة؛ ليفهم الناس أن الله تعالى يجري الأمور بأسبابها.
وقد وجد الفلاسفة الملاحدة صفعة أبطلت نشوتهم بهذا الاكتشاف الميكانيكي، وذلك حينما عجز العلماء عن الإتيان بتفسير للأسباب الكامنة في بعض القضايا مع وضوح آثارها، دون أن يعرفوا وجه العلة والمعلول فيها، وعلى سبيل المثال: فإن الراديوم عنصر مشع وإليكترواناته تتحوّل إلى حطام تلقائيًّا بعمل الطبيعة، وقد أجرى العلماء تجارب لا حصر لها لكي يصلوا إلى سبب إشعاع الراديوم، ولكن كل التجارب انتهت إلى الإخفاق، ونحن نجهل حتى اليوم سبب تحطُّم إليكترون ما وخروجه عن نظامه النووي في الراديوم، وأيضًا فنحن نشاهد المغناطيس وهو يشد نحوه الحديد، وقد أقام العلماء نظريات كثيرة لشرح هذه الظاهرة، ولكن أحدهم كتب يعلق على هذه النظريات قائلًا:"إننا لا نعرف لماذا يشد المغناطيس الحديد نحوه، ربما لأنَّ الله أصدر إلى المغناطيس أمرًا بذلك"1.
ولقد علَّل العلماء في الماضي لبعض القضايا بتعليلٍ ظنوا أنه صواب، فإذا به عند التحقيق تعليل سطحي، بل لا يعرف الإنسان إلى الآن لماذا ينام حين يستلقي في الليل على سريره، ما هو السبب لذلك؟
ولقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون التعليل ليس حقيقة مطلقة بالمفهوم الذي افترضوه في القرن التاسع عشر، بل لقد قرروا
1 الدين في مواجهة العلم ص43.
أخيرًا "أن نظام العالم لا يخضع لقانون العلة والمعلول الناتج عن الصدفة المحضة، وإنما هناك عقل ذو وعي يدبر شئون العالم بالإرادة".
وكان سائدًا عند الجهَّال في القرون الأولى أن هناك آلهة مشتركة في تدبير هذا الكون، وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبرها، فقد تغيرت هذه النظرة الشركية إلى ما هو أقبح منها، وهو الإلحاد المادي الحديث القائم على القول بالصدفة وطبيعة أجزاء المادة وانتظامها وانفجارها، مما لم يقل به المشركون قديمًا.
4-
دليل المادة:
ومن أدلتهم على نفي الإله واعتبار الدين خطرًا يضاد العلم قولهم: إن أساس هذا الكون كان مادَّة شبه غبار منتشر، ثم حدث أن تحرَّك حركة لم تنته إلّا بتكوين هذا الكون وما فيه في انفجار هائل، ولكن يقال لهم: إن هذا التفسير مضحك سخيف، هل تستطيعون أن تثبتوا مَنْ الذي كوَّن ذلك الغبار؟ ومن الذي جمعه؟ ومن كان السبب في تلك الحركة التي جعلت الكون كله يتفجر ويتكون على نحو ما هو عليه؟
إنهم لا يجدون لهم جوابًا غير أن الصدفة هي التي فعلت ذلك، وهو افتراض بدون أساس ناتج عن خيال كاذب وفهم قاصر، ويقال لهم: إذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن والحال هكذا أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله؟ وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة
تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؛ إذ الشمس تجري لمستقرٍّ لها، والنجوم زينة للسماء، والقمر ضياءً، والرياح لواقح، والسحب تحمل المطر، والليل في وقته، والنهار وفي وقته، كلها تجري لصالح الإنسان ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقت إلّا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم، وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة. "إن التفسير الميكانيكي يعجز هنا عن إقرار أن سببًا واحدًا خلق الكون، وأن هذا السبب نفسه يقوم بتدبير شئونه في نفس الوقت، وأن هذا التفسير نقيض وجود إلهين اثنين، فمن ناحية يقدّم لنا هذا التفسير نكتة قانون الصدفة؛ لشرح الحركة الأولى التي وقعت في المادة الراكدة، ولكن هذا التفسير من ناحية أخرى يعجز عن تقديم تفسير مقنع لتسلسل الحركة بواسطة تلك الصدفة نفسها التي وقعت "صدفة" للمرة الأولى، لذلك وجب البحث عن إله آخر لشرح هذا الجزء الأخير من التفسير الميكانيكي"1.
وقد وجدوه بزعمهم في مبدأ التعليل الذي زعموا فيه أن الكون ابتدأ في الوجود إثر حركة المادة وانفجارها الذي سبق ذكره وعرفت سخافته وبطلانه.
وحينما قام الإلحاد وأنكر الإله على أساس أن الكون خاضع لتلك القوانين المعنية، وأن كل حدث له سبب، وأن قوانين الارتقاء قد تكلّفت بإتمام كل موجود، وأن الكون كله تكون من مادة حسب سخافاتهم، فلا حاجة إلى القول بوجود إله خلّاق مدبر لهذا الكون، وبالتالي أخذ عظماء الكفر والإلحاد يتبجحون
1 الدين في مواجهة العلم، ص47.
بما توصَّلوا إليه في اكتشافاتهم من تلك القوانين الطبيعية، فراحوا يتفنَّون في إطلاق كلمات الإلحاد، وأنه بإمكانهم أن يخلقوا الإنسان والكون لو توفَّرت لهم المواد، والتي زعموا أن الكون خلق منها، فقال الفيلسوف الألماني "كُونت":"ائتوني بالمادة وسوف أعلمكم كيف يخلق الكون منها"1.
وقال "هيجل": "إنني أستطيع خلق الإنسان لو توفَّر لي الماء والمواد الكيمياوية والوقت"2.
وقال "نيتشه": "لقد مات الإله الآن"2.
وهكذا زعموا أن العلم أوصلهم إلى أن الكون إنما وُجِدَ من مادة، وأنه لا أثر للخالق فيه، وبالتالي فلا حاجة مع وجود هذه العلوم والاكتشافات إلى القول بالخالق، وسبحان العليم الحليم.
وقالوا متعالين: لقد كان الإنسان القديم يعتقد أن خروج الكتكوت من البيضة إنما كان بقدرة إلهية، أما اليوم فقد علمنا أن الكتكوت بعد 21يومًا يظهر على مناقرة قرن صغير يستعمله في تكسير قشرة البيضة فيخرج منها، ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.4.
1 الدين في مواجهة العلمص64.
2 المصدر السابق.
3 المصدر السابق.
4 الدين في مواجهة العلم، ص66.
وقد قال "كرس موريسون" في بيان هذا اللغز في كتابه المفيد "العلم يدعو إلى الإيمان" ص147: "لقد حل إلى الآن لغز أيتهما جاء قبل الآخر، الدجاجة أم البيضة؟ إنه لم يكن هذه ولا تلك، بل جاءت قبلهما خلية أولية، والبيضة ليست إلّا مجرد غذاء للجنين".
إنهم حين يقفون عند هذا الحد في خلق الكتكوت تفوتهم أمور كثيرة لا يستطعيون الجواب عنها، هي أشد من تكسير البيضة؛ إذ يقال لهم: كيف يظهر هذا القرن؟ ومن الذي منحه هذا القرن الضروري لخلاصه من البيضة؟ فإذا قالوا: إنها الطبيعة، فيمكننا أن نقول لهم: إن هذه الطبيعة التي تقولون بها هي سنة الله تعالى في تكوين خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وأنها هي الله تعالى الخالق المدبر، فيصبح الخلاف في وجود الله بين المؤمنين والملحدين خلافًا لفظيًّا.
ومهما اكتشف العلماء من اكتشافات، فإنها تبقى في حاجة إلى بيان القوة المؤثرة الخفية فيها الذي حاد عنها الملاحدة {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1.
وكلام الله هو الدليل القاطع، فقد أثبت الله تعالى أن الإنسان مهما كابر عقله، فإنه يعلم في قرارة نفسه أن الشيء لا يُوجِدُ نفسه، وأن العدم لا يوجِد الموجودات المشاهدة المنتظمة في أكمل وأدق نظام، والمادة التي جعلت إلهًا في نظرهم هي نفسها مخلوقة مربوطة حتى وإن وصفوها بصفة الإله.
ومن الملفت للنظر أن هذا الإله المختلق -المادة- لا يصفونه بالحكمة ولا القصد ولا التدبير، وهذا ما أكَّده "دارون" و"إنجلز" و"ماركس" ومن سار على منهجهم في زعمهم فوضوية المادة، على أن هذا الإلحاد الذي قرره "دارون"، و"ماركس"، و"إنجلز" لم يكن وليد أفكارهم، وإنما أنشأته ظروف كثيرة قبلهم؛ منها: الحياة الدينية في أوروبا حينما انفصلت
1 سورة النمل، الآية:14.
عن كل شيء يشير إلى الدين الصحيح، وحل محله طغيان رجال الدين الكنسي الذي نتج عنه بغض الدين وبغض مصدره، وهو ذلك الإله المنحاز إلى الطبقات الثرية وإلى رجال الدين والحكام، ولا شأن له بالفقراء والمغلوبين على أمرهم.
ومما لا ريب فيه أن هذا المفهوم الباطل للدين والإله أمر لا بُدَّ أن يولد عنه الإلحاد متى اقتنع الشخص بصحته، كما أنَّ استغلال الطبقات القوية للفقيرة وإذلالهم باسم ذلك الإله الذي صوره قوة عاتية إلى جانبهم فقط، يعذب من أغضبهم، ويرضى عن من أرضاهم، من شأنه أن يساعد على نشأة الإلحاد أيضًا.
ومن هنا شعر الجميع بوجوب الهرب من وجه هذا الإله المتّصف بتلك الصفات إلى إله آخر له كل صفات الإله الأوّل، إلّا أنه لا يتعرَّف بالكنيسة ولا يبارك ظلم طغاتها، ولا يلزم الناس تجاهه بأي التزام، وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم، لا سلطان لأحد عليهم إلّا الهوى والشهوات، لقد استراح من أراد الهرب من إله الكنيسة إلى الإله الجدي المسمَّى "الطبيعة" ما دام بينهما هذا الفارق الكبير في السلوك، وتفنَّن بعد ذلك هؤلاء الهاربون في إضفاء الصفات على هذا الإله الذي تخيَّلوه وأحبّوه وسموه الطبيعة.
ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه إله وهمي متخيَّل لا حقيقة له إلا من خلال أنه ملاذ وجداني أرحم من إله الكنيسة، حتى وإن كان غيبيًّا، وكانوا كلما وقفوا على شيء يدل على الإله العظيم رب العالمين سارعوا إلى تفسيره لصالح هذا الإله المتخيّل مخالفة أن يقعوا مرة أخرى في قبضة رجال الكنيسة
وصدق عليهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1 أو قول الشاعر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار
إن الملاحدة هربوا عن اسم الله والاعتراف به إلى اسم آخر أعطوه نفس القدرة ونفس صفات الإله الحقيقي دون أي مبرر إلّا الهرب من إله الكنيسة، دون أن يرجعوا إلى عقولهم وإلى سؤال أنفسهم بصراحة وصدق، هل هذا الإله الذي جعلته الكنيسة ستارًا لطغيانها هو فعلًا الإله الحقيقي؟ أم أنه إله مخترع وورقة رابحة في أيدي الطغاة؟ إنهم لو طلبوا الحقيقية سيجدونها واضحة صريحة، وسيجدونها في مكان لا يقل كراهتهم له عن كراهيتهم للكنيسة، إنه الإسلام الذي سيبيّن لهم لو أرادوا الحق الصحيح الإله الحقيقي الرحيم العادل بين عباده.
1 سورة النمل، الآية:14.
- تعقيب:
إن المؤمنين بالله تعالى لا يسندون وجود الخلق إلّا إليه وحده، فهو الخلاق العليم الذي بيده ملكوت كل شيء، إذا أراد شيئًا أوجده فورًا بكلمة "كن"، وهذه القدرة لا يملكها إلّا هو وحده، وأما الملاحدة الذين يسندون هذه القدرة إلى المادة، وأن المادة تخلق المادة فهو كلام يدل على جهلهم وعنادهم، فإن العقول لا تقبل مثل هذا، حتى عقول الملاحدة لا يمكن أن تقتنع به؛ لأن المادة ذاتها هي أثر من أثار القدرة الإلهية ولا تخلق شيئًا، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد.
إن إتقان هذا الكون وترتيبه هذا الترتيب العجيب، والإنسان وكيفية خلقه، لا يمكن أن تفعله تلك المادة التي تصوروها، والتي هي باعترافهم لا حكمة ولا تدبير لها.
إنه لمن عجائب الأمور أن يسندوا خلق الكامل إلى الناقص، والقوي إلى الضعيف، المادة صماء ناقصة والإنسان عاقل مفكر، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا لم يوجد لها عقل ولا تفكير ولا حكمة، فمن أين لها أن توجد في بعض مخلوقاتها هذه الصفات، ومن التحكم الباطل قولهم: إن المادة تطورت مرة واحدة في وقت من الأوقات فأنشأت هذا الكون، فإنه يقال لهم: وما الذي منعها ان تتطور مرة أخرى فتغيّر وجه هذا الكون، وما الذي أوقفها بالنسبة لخلقها الإنسان عن هذا الحد، وعند هذه الصفات المشتركة بين جميع الناس، فإن قانون التطور -على حسب ما قرروه- لا حدَّ له؛ إذ يمكن للإنسان أن يتطوَّر إلى أن يصبح مثل الجبل، فلماذا وقف عند حدٍّ معين في جسمه وعمره
وصفاته ومعيشته، لقد أرادت النظريات الإلحادية أن تقنع الإنسان عن طريق المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ أنه من صنع الطبيعة، وأن وجوده ترتَّب أولًا على الماد، وعليها بنى تاريخه، ثم كالوا الشبهات لإقناعه، إلّا أنه لم يقتنع ولن يقتنع، وهو على حق في هذا، فإن الله تعالى إنما أعطى الإنسان العقل لكي يعرف به ربه وخالقه، وقد فطره الله على ذلك، ولكن الملاحدة جعلوا همَّهم الوحيد وشغلهم الشاغل هو نشر الإلحاد وإقصاء الدين بأي ثمن يكون، وبأي شبهة تقال، وبأية وسيلة، المهم في كل ذلك هو إبعاد أذهان الناس عن خالقهم -جل وعلا، وقد تمثلت محاربتهم لله عز وجل حتى في التسمية، فإن استبدالهم اسم الله باسم الطبيعة ثم باسم المادة، الغرض منه إضعاف الرباط النفسي اللاشعوري باسم الله في النفس، فلا تحس بعد تسمية الله بالمادة أو الطبيعة أي شوق أو احترام للإله العظيم؛ إذ أن الطبيعة لا تستحق التوقير والاحترام الذي يستحقه الله لو بقي اسمه -جل وعلا.
والواقع أن الملاحدة يهدفون من محاولتهم صرف أذهان الناس عن وجود إله بعد نشر الرذائل بكل صورها، يهدفون إلى استعباد الناس وجعلهم حميرًا يركبونهم ويسوقونهم كما يشاءون؛ لأن الناس حينئذ سيكونون كالبهائهم لا يحسون بأية قيمة لهم، مثلهم مثل سائر الحشرات التي خلقت لتأكل وتشرب وتتناسل ثم تموت، ذلك لأن مصدر التكريم للإنسان هو الله عز وجل الذي فضَّله واستخلفه في الأرض وجعله مكرمًا سيد البر والبحر، فإذا تَمَّ إبعاد هذا المفهوم عن الإنسان سهل بعد ذلك أن يتقبل الإهانات بشتَّى أنواعها، بعد أن يفقد آدميته ويرى نفسه بعد ذلك لا فرق بينه وبين الخنازير والكلاب وسائر الحيوانات والحشرات، فتموت فيه الهمَّة والشهامة والأنفة وسائر الصفات الجميلة؛ إذ لا فرق بين البهائم وبين الناس إلّا سموّ الأخلاق، والقيام بالتكاليف الشرعية، والإحساس بأهميته.