الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية
إن دراسة الأحوال الاقتصادية والتعرُّف على مشكلاتها ومعرفة حلولها أمر ليس من السهولة كما قد يتصور البعض، فهي أفكار وتجارب ودراسات مقارنة، وحلول لا بُدَّ أن تكون حاسمة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي هي من الأسس الهامة في تفرق الأمة وفي نشأة النظم المختلفة والمذاهب المتنوعة، ولقد كثر الجدل واشتدت الخصومات بين الناس لاختلافهم في مفاهيمهم للاقتصاد وطرق الوصول السليم إليه، وكلها متاعب قد تقف واحدة منها في طريق الباحث فتثنيه عن مواصلة دراسته لهذا الجانب الخطير، وقد لا يتصور البعض أن في دراسة الأمور الاقتصادية خدمة جليلة للإسلام وأهله، ومن تصوَّر هذه الخدمة وأحسَّ بوجوب النصيحة لإخوانه المسلمين، وإجلاء عظمة الإسلام ونظامه البديع في الأمور الاقتصادية، ومقارنة ما جاء به الإسلام بما جاءت به الأنظمة الوضعية في هذا الميدان، هان عليه الأمر في اقتحام هذه المتاعب وتجرأ على المشاركة والإسهام في تقديم هذه النصحية مهما قلَّت تكثيرًا للأصوات التي تنادي بوجوب الالتزام بالحلول الاقتصادية على ضوء الشريعة الإسلامية، وأن خير البشرية وسعادتهم تكمن في هذا، وبيان أنَّ ما قدمته الحلول الوضعية إن هو إلّا سراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وأن من الإجرام إغفال بيان هذا، أو ترك المسلمين دون توجيه، فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع.
فيجب أن تتظافر الجهود وأن تعلو الأصوات التي تنادي بأنَّ الإسلام فيه حلول كل المشكلات الاقتصادية في مواجهة الدعوات المضادَّة الحاقدة التي تزعم أن الإسلام ليس له أيّ مشاركة في الجوانب الاقتصادية، فهو محصور في المساجد فقط، وهي أهم دعوات العلمانيين والملاحدة، وقبل الدخول في دراسة هذه الجانب أحب أن أذكر القارئ الكريم أنني لم أكن أتصور حجم خطر المشكلات الاقتصادية على حقيقتها -بحكم تخصصي في دراسة العقيدة- إلى أن أراد الله تعالى أن نُدعَى أنا وزملائي في الدراسة -إلى حضور المؤتمر الاقتصادي الإسلامي الأول الذي انعقد في مكة المكرمة، ودعينا -طلاب المرحلة المنهجية بالدراسات العليا- لحضوره للاستماع والاستفادة من أفكار المفكرين الاقتصاديين، ولقد اندهشت من خبرة من حضره من المفكرين، وما كانوا يطرحون من مشكلات وحلول في أساليب عجيبة، كأنما يتكلّم أحدهم عن ظهر قلب، وباندفاع أثار في نفسي انطباعًا لن أنساه، وكنت أستمع لهم بإعجاب لم أعهده في نفسي من قبل، ومنذ ذلك الوقت بدأ تفكيري يدور حول ملاحظة هذا الجانب وكيف عالجه الإسلام، وأسجل كلمة ومن هنا وأخرى من هناك؛ لأرجع إليها متى أحببت، فجزى الله أعضاء ذلك المؤتمر وجامعة الملك عبد العزيز خيرًا على ما قدَّموه، وتلك الأمور التي دونتها في شتَّى الأبحاث هي ما سأقدمه بين يديك في هذه الدراسة، مع أنها لم تكن بالأمر الذي كنت أتمناه تمامًا لإفادتك، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
أخي القارئ: اعلم أن أكبر ما أحرص عليه هو تنبيهك إلى أن لا تستهين
بدراسة هذا الجانب، فهو من أخطر الجوانب في حياة البشر، وعليه يتوقف مصير شعوب بأكملها خيرًا أو شرًّا كما تقدَّم، وعليك أن تَجِدَّ في فهمه لدحض حجج أعداء الإسلام، وتكذيب ما ينادون به من قصور الإسلام عن معالجة المشكلات الاقتصادية، ويستدلون زورًا وكذبًا بضعف المسلمين في النواحي التطورية العصرية، مع علمهم أنهم هم السبب وراء هذه الحال في العالم الإسلامي باستعمارهم لهم اجتماعيًّا وفكريًّا فترة من الزمن، ولا يزالون أداة تثبيط وتخذيل للمسلمين، وتسلط عليهم إلى يومنا الحاضر، لم يتوانوا في كل ما مِنْ شأنه الحاق الذل والضعف بالمسلمين، ومن سخريات الأمور أن يشنعوا على الإسلام ما جاء به في حل المشكلات الاقتصادية -هو حل ناجح وأثبتت التجارب صلاحيته- ثم إذا صادف أن جاؤا بنظرية ناجحة في الجانب الاقتصادي طاروا فرحًا ومجّدوا أنفسهم وعقولهم، حتى إذا علموا أنّ الإسلام قد سبقهم إليها وبيَّنَها، كادوا أن يغصّوا برقيهم، وبدؤا في تحويرها أو السكوت عنها ظلمًا وعدوانًا واستكبارًا عن الحق وغضًّا من شأن رسالة الإسلام الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان.
ولهذا فقد أغفلوا الجوانب المشرقة للإسلام التي تعتبر نموذجًا للتطور الاقتصادي الناجح، سواء منها ما جاء في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية، أو ما جاء في تطبيقات خلفاء الدولة الإسلامية منذ بزوغ فجرها، وتوالى الخلفاء عليها، أو ما قام به علماء الإسلام في شتّى العصور من بحوث فقيهة أثرت الجوانب الاقتصادية في مختلف النواحي، بما يجب أن تضاءل أمامه أفكار ساسة الاقتصاد الوضعي، وأن تذوب غطرستهم أمام عظمته.
وينبغي التنويه إلى أنّ الاهتمام بجانب الاقتصاد لم يكن جديد النشأة كما يرى الكُتَّاب الغربيون ومن سار على طريقتهم، فإنه جديد بالنسبة لهم؛ إذ إنهم لم يعرفوا هذا الجانب إلّا في أواخر القرن الثامن عشر بعد ظهور الثورة الصناعية، ولهذا فهم لم يعترفوا بفضل من سبقهم من الأمم الذين عرفت لهم إسهامات في جوانب متعددة من القضايا الاقتصادية التي كانت متصلة بحياتهم المعيشية، وإن لم تكن دراسة بالمفهوم الاقتصادي الواسع1، كما قرره العلماء فيما بعد.
ولكنَّهم كانوا قادة خير وبركة على من بعدهم، ومصدرًا يفيض حكمة ومعرفة، كيف وأن الموجه للإنسان منذ نشأته الأولى هو رب العالمين، الذي علَّم آدم كل ما يحتاجه من أمر دينه ودنياه، ومن هنا نجد أن الجانب الاقتصادي له أهميته في الإسلام، وللإسلام حلوله التي اختص بها، ونظرته الشاملة له على ضوء العقيدة الإلهية الشاملة لكل جوانب الحياة الاجتماعية، التي أمر الله المسلم باتباعها واجتناب كل ما يضادها من الأنظمة البشرية، تلك العقيدة التي ينتج عنها المراقبة الذاتية للمسلم في كل تصرفاته مع نفسه ومع أبناء دينه، ومع غيرهم من سائر البشرية التي ترتكز على ملاحظة المفاهيم للكون وللحياة، وبالتالي موقع الاقتصاد منها. وكذلك ملاحظة التفريق بين المعاملات الصحيحة وغير الصحيحة، العقيدة التي تقول للمسلم: إن الله أجاز لك البيع والشراء، لكنه حرَّم الربا، وأجاز الملكية الخاصة الفردية، ولكنه جعل لها نظامًا ينسجم مع الملكية العامة؛ إذ ليس فيه تغليب جانب على آخر كما هو الحال في
1 انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص34-35.
الأنظمة البشرية من رأسمالية وشيوعية، أو غير ذلك مما اخترعه الإنسان من أنظمة ثبت مع مرور الأيام أنها أنظمة قاصرة مؤقَّتة غير صالحة لكل زمان ولا لكل مكان، حتى وإن توافقت بعضها مع الشريعة الإسلامية عرضًا فإنها لا تزال جاهلية، ولا يبيح هذا التوافق شرعيتها ولا تسميتها باسم الإسلام كما فعل كثير من الجهّال الذين وصل بهم الجهل والحمق إلى تسمية بعض النظم الجاهلية باسم الإسلام؛ كتسميتهم الاشتراكية الماركسية باسم الإسلام، والتي نسبها بعضهم إلى الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وبرَّأه من أكاذيب الملحدين كقولهم: إنه زعيم الاشتراكية الإسلامية، محملين مواقفه من المال تأويلات باطلة ومفاهيم خاطئة، وهذا يعني أن الإسلام له مفهمه الخاص للمشكلة الاقتصادية، وللنظم الوضعية مفاهيهما الخاصة بها، وبين النظامين من التباعد والاختلاف مثل ما بين مصدريهما، ولا تختلط تلك المفاهيم إلّا على الجاهلين، وسيتبين من خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى الفروق الواضحة بين النظام الإلهي في القضايا الاقتصادية، وبين تلك الأنظمة الوضعية التي قامت على أفكار من هم محلّ النقص والقصور، وهذه المقارنة إنما تقال إقامة للحجة، وإلا فإنه لا مقارنة بين الحق والباطل، وبين الجاهلية وبين الإسلام، ذلك لأنَّ الإسلام دين كامل شامل لكل جوانب الحياة، قال تعالى:
ومن هنا نجد أن الإسلام قد اعتنى بالمشكلات الاقتصادية وأولاها
1 سورة المائدة، الآية:3.
أهمية بالغة نظرًا لأهميتها في حياة الناس وانتظام معايشهم، فجاءت تعاليم الإسلام لحلها في غاية الوضوح وفي أسمى ما تحقق به العدالة والإنصاف والرحمة، وتحقيق آمال الأغنياء والفقراء على حد سواء، ولا يسمح باستعباد الغني للفقير، ولا بإثارة الفقير على الغني، بل قام على أساس المحبة والقناعة، ولم يقم على الصراعات الطبقية التي قامت عليها المذاهب الجاهلية كالماركسية والرأسمالية.
ولقد عاش الناس حينما كانوا يهتدون بهديه وينطلقون من تعاليمه في أسعد حال واهنأ عيش؛ في محبة ومودة، يعلم كل فرد أنه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله له، وأن الدنيا دار ابتلاء ولا يدري الإنسان أيهما خير له في دينه ودنياه وعاقبة أمره، أو أن يكون غنيًّا أو أن يكون فقيرًا، فيعلم حينئذ الغني والفقير على حد سواء أنهما في ابتلاء، وأن الله تعالى يعطي كل عبد وفق ما قدَّره له في سابق علمه، ولهذا تجد المسلم دائمًا يعيش قرير العين مطمئنَّ النفس منشرح الصدر، كما امتاز الإسلام بالحل الشامل لتنظيم الأسرة والمجتمع والأفراد بطريقة تضمن للجميع السعادة والعيش بأمن وسلام ومودة، يتمثَّلون فيه قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1.
وقال الرسول -صلى الله عليه سلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"2.
1 سورة الحجرات الآية: 10.
2 أخرجه البخاري ج1، ص182، ومسلم ج4، ص1999.
وقوله صلى الله عليه سلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن لأحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2.
وفي راوية: "لجاره"، وغير ذلك من النصوص المستفيضة في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي تدعوا إلى الألفة والمحبَّة وصفاء القلوب والرحمة بين أفراد المجتمع، وترك شح النفس والغش في المعاملات، وإلى الصدق في البيع والشراء، وإلى تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"3.
وتدعو كذلك إلى التعاون في وجوه الخير، وإلى أن يؤدي كل فرد ما عليه من واجباتٍ تجاه الآخرين من أمور تتعلّق بالشخص أو بماله، وأوجب الزكاة التي تعود إلى الفقراء بدون أن يشعروا بأي منَّةٍ لأحد بعينه، وما ينشأ عنها من ترابط المجتمع وتوادّه، إضافةً إلى ترغيبه في الصدق والاتصاف بالكرم والتنفير عن العودة في الهبة، وغير ذلك من السلوك الذي تحقق به السعادة.
ولا شَكَّ أن الفقر هو أكبر المشكلات بين البشر قديمًا وحديثًا، وهو أيضًا
1 أخرجه مسلم ج4، ص1999، والبيهقي في سننه ج3، ص353.
2 البخاري ج1، ص14، ومسلم ج1، ص67.
3 أخرجه الحاكم في المستدرك ج2، ص66.
أعظم الأمور التي ينفذ من خلالها كل صاحب غرض إلى تحقيق غرضه بوسيلة المال، لهذا حينما جاءت الماركسية لم يجد أتباعها أيّ وسيلة أشد نفوذا إلى نفوس الناس وإثارة أحقادهم وقلب أوضعاهم كلها من وسيلة إثارة الأمور الاقتصادية، فأثاروها بأنواع الدعايات وشتَّى الأساليب، حتى تَمَّ لهم قلب الأمور رأسًا على عقب في كثير من بقاع الأرض، مستغلين لتحقيق أغراضهم الفقر من جانب، وجهل الناس بحقيقة الدين، وجهلهم كذلك بحقيقة ما يدعو إليه وألئك الملحدون.
من جانب آخر فإذا بقرن الشياطين يظهر عاليًا، وإذا بنداءات الجهَّال ترتفع، وداسوا في طريقهم كل فضيلة، ونبذوا كل تنظيم أو دين، ورفعوا شعارتهم الاقتصادية الجاهلة التي اتَّضح أمرها فيما بعد، بأنها كانت سرابًا وخيالًا فارغًا، ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن جرف تيارهم في طريقه ملايين البشر فأوردوهم الهلاك في الدنيا والأخرة، وما ذلك إلّا بفعل الدعايات أولًا، ثم بفعل الحديد والنار ثانيًا، وليس لوجود تلك التيارات الجهنَّمية التي لا تفلح في شيء مثل ما نجحت في الفوضى الإباحية.
ومن العجيب أن ينبري دعاة الإلحاد أقزام الشيوعية والوثنية إلى مهاجمة الحلول الاقتصادية الإسلامية لمشكلات الفقر والبطالية وهم لا يعرفونها، ولم يدرسوها في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يجربوها، وإنما يسمعها بعضهم من بعض في صورة مشوَّهة كاذبة، ثم يتناقلونها على حد ما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه الكريم حيث قال: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1.
وتبرز في الإسلام جميع الأحكام الاقتصادية مرتبطةً بجميع نواحي الحياة:
1-
الروحية التي تمثل علاقة الإنسان بخالقه.
2-
الخلقية السلوكية: التي تمثل الصدق والأمانة والتراحم والوفاء في جميع المعاملات.
3-
الاجتماعية: التي تقوم على مبدأ المساواة والتكافل الاجتماعي.
4-
السياسية: التي تتمثَّل بالتزام الحاكم بالأصول الشرعية2.
1 سورة الأنعام، الآية:112.
2 انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص58.