الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الإلحادية على العداء للدين
لقد قامت الحضارة الأوروبية الحديثة على بغض الدين بسبب عنف الكنيسة المتمثِّل في الدين حسب مفهومهم، كما تقدَّم بيان ذلك، وبدلًا عن التماس الحق أفاق أقطاب الفكر والحضارة الغربية على عداوة دين باطل وخرافات سخيفة وعقول تمثل الدين بزعم طغاة الكنيسة، وهم أبعد ما يكونون عنه وعن الرحمة وعن فهم الحياة فهمًا صحيحًا. وكان مما شجَّع الملاحدة على إحلال نظرياتهم محلّ الدين إضافةً إلى طغيان رجال الكنيسة تلك الخرافات والتناقضات التي ملئت بها عقيدة النصارى -المحرَّفة، وإلى ما زعموه من وصولهم إلى النتائج التي تدل على هذا حسب افتراءاتهم في اكتشافاتهم الحديثة؛ مثل: زعمهم أنَّ مادة العالم أزلية، أي: إن العالم ليس في حاجة إلى إله خلقه، وقد كذَّب الله هذا الافتراء في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وافتراضهم لا يقبله العقل ولا يقره الواقع، وقد ألف العلماء من المسلمين ومن غير المسلمين المؤلَّفات التي لا تُحْصَى في الرد على هذا الزعم. ومما قاله الملاحدة في تعليلهم لنشأة الكون: "إن المادة كانت منتشرة في الفضاء الفسيح، ثم أخذت تتجمَّع على نفسها بفعل قوى التجاذب بين أجزائها، وفيما كانت الماة تتجمَّع كانت حرارتها ترتفع، والضغط داخلها يزداد حتى انصهرت المادة انصهارًا كليًّا، وأصبح الكون عبارة عن كتلة هائلة من المادة تبلغ حرارتها بلايين الدرجات، ويبلغ الضغط فيها ما لا يمكن
تصوره، عند هذا الحد لم تستطع المادة أن تحافظ على تماسكها، فحصل الانفجار الكوني الهائل، وتشتت المادة في الفضاء الفسيح، وانخفضت حرارتها بسرعة، وبدأت المجرات بالتكوُّن، ثم نشأت الشموس والأقمار والنجوم والكواكب مع مرور الزمن، ونشأ هذا النظام الفلكي المتناسق، واستمرت عملية النشوء الذاتي حتى انتهى الأمر إلى ظهور الحياة والإنسان بطريقة ذاتية، كل هذا تَمَّ بسبب ذلك الانفجار"1.
ولا شكَّ أن القارئ يدرك مدى تكلُّف هذا المفهوم وسخافته، فمن أين لهم هذه المعلومات المفصَّلة {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} .
ثم يقال لهم: كيف وجدت هذه المادة؟ ومن الذي أوجدها؟ ثم كيف نشأ هذا النظام البديع المتناسق الجميل عن طريق ذلك الانفجار، مع أنه لا يمكن أن يقال بتجمع أجزاء المادة في حال وجود الضغط الشديد إلى أن يكتمل منها وجود هذا الكون، فكيف لم تنفجر من أول تجمع الضغط؟!! ومن الذي منعه من الانفجار وأبقاه مشحونًا بقوته إلى أن انفجر فجأة، وبهذا التنظيم البديع؟!!
إن سلَّمنا جدلًا ما زعموه من تلك الخرافة، وكذلك تجمُّع المادة من طبيعة واحدة متجانسة، ثم تتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر تمايزًا يصل إلى حد التناقض. هذا بعيد، فلو وضعت ماءً في إناء مثلًا، فإنه لا يمكن أن ينقسم هذا الماء إلى قسمين، قسم منه حار شديد الحرارة، وقسم منه بارد شديد البرودة ثلج".
1 الإسلام والعلم ص28-29.
كذلك افتراضهم أنَّ الكواكب والقمر والشمس وسائر المجرَّات نشأت بهذه البساطة الساذجة افتراضٌ يأباه العقل والواقع، "فلو انفصلت الأرض عن الشمس بنفسها لعادت وارتطمت بها مرة ثانية، ولو انفصلت كتلة ما إلى أجرام كثيرة فلا يمكن أن تكتشف الأجرام بنفسها ما هي المسارات التي لا يحصل فيها ارتطام، فضلًا عن الوصول إليها"1.
لأن هذا لا بُدَّ أن يكون من قوة قاهرة مدبِّرة، والأجرام لا تعرف هذا التقدير العجيب في أحجامها وفي مساراتها، بل وفي بقائها أو نهايتها.
فأيهما أحقّ بالتقديس؛ الله رب العالمين {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 3، أم المادة الصماء التي لا تملك لنفسها وجودًا وعدمًا، فاتضح أن استناد أهل الإلحاد على نظرياتهم السخيفة في عدائهم للدين إنما هو جهل منهم وعناد أجوف، ورغبة جامحة منهم في العلوّ والسيطرة ونشر أفكارهم الخيالية المستكبرة.
1 انظر الإسلام والعلم، ص28-31.
2 سورة يس، الآية:40.
3 سورة الأعلى، الأية: 2-3.