الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
الحرية والكبت:
الحرية هي الانطلاق في الرأي والاعتقاد وفي القول وفي الفعل في حدود طاقة الإنسان1.
والكبت: هو الحد من الانطلاق في الرأي والاعتقاد والقول والفعل والاتصال بالغير.
- حقيقتهما عند الماديين:
وأما عند أصحاب المادية فالحرية يراد بها الانطلاق من كل قيود القيم والمثل والمبادئ التي دعى إليها الدين، وهي عودة إلى الحياة البهيمية من أوسع الأبواب، ولكن تحت تسمية التطور والتجديد، وكذلك الكبت عندهم إنما يراد به تحطيم كل أنظمة الشريعة والانفلات عن الآداب والأخلاق التي دعا إليها الدين، أما موقف الدين منهما: فمما لا ريب فيه أن جميع الأديان -وخصوصًا الإسلام- قد دعت إلى الحرية وحرَّمت الذلة والخضوع وإحناء الجباه إلّا لمن خلقها وأوجدها، وفي كتاب الله تعالى تأكيد شديد على كرامة الإنسان، وأن جميع ما في هذا الكون إنما خُلِقَ له ومن أجله، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.
أما الحرية في الإسلام:
فلا يجوز لأحد أن يجهل أن الإسلام بخصوصه دعا إلى الحرية وجعل إليها منافذ عديدة، ورغَّب في تحقيقها بما جعل الله من الأجر الجزيل لمن حققها، ونهى عن الكبت الذي يكون سببه طغيان القوي ضد الضعيف، وتسلط الطغاة على المستضعفين دون وجه شرعي.
1 التطور والدين، ص26.
2 سورة الإسراء، الآية:70.
إن الحرية لها مفهومها الخاص ومجالها الخاص بها في الإسلام، كما أن للجاهليات مفهومها ومجالها الخاص بها، وبين المفهومين مسافات مديدة وفروق عديدة.
فالحرية في الإسلام هي أن تتصرف في كل أمر مشروع لك وليس فيه تعد على حقوق الآخرين، ويكون داخلًا ضمن عبوديتك لربك وامتثالك لأمره ونهيه، وما دام الإنسان لم يخرج عن إطار الشريعة الربانية فهو يعيش الحرية بتمامها؛ سواء أكانت تلك الحرية فيما يتعلّق بنفسه أو جسمه أو ماله أو عرضه، يتصرف فيها في حدود ما شرَّعه الله له، أو كانت فيما يتعلق بغيره في معاملاته الدنيوية، من بيع، وشراء، ونصيحة، ونقد، وتوجيه، وأمر، ونهي، أو الدينية: من تعليم، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر
…
وغير ذلك.
أو كانت فيما يتعلّق بعقل الإنسان وتفكيره؛ حيث جعل الله للعقل مطلق الحرية في الارتفاع بصاحبه عن الخضوع والذل لغير ربه، وفي وجوب إعمال الفكر فيما يحتوي عليه هذا الكون من بدائع وعجائب، فالإسلام يمنحه مطلق الحرية في تنظيم بديع فيه سعادة الإنسان أولًا، ثم سعادة المجتمع الذي يعيش فيه ثانيًا، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، والذي خلق الإنسان وسائر الأنعام جعل لكل منها حرية تخصه، فإن الأنعام لها مطلق الحرية دون تمييز بين الضار والنافع، ولكن الإنسان الذي كلّفه الله وميَّزه بالعقل له حرية إذا تجاوزها صار كالأنعام، فإذا تجاوزها أيضًا صار أضل من الأنعام، كما قال تعالى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.
1 سورة الأعراف، الآية:179.
- الحريّة في مفهوم الجاهليات:
أما الحرية في مفهوم الجاهلية قديمًا وحديثًا فهي الظلم في القديم كما قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس
…
فإن تجد ذا عفه فلعلة لا يظلم
والجنس كما هو حال الأمم التي أعرضت عن الدين، وكما عبَّر عنه الصينيون في تظاهراتهم المشهورة حينما قالوا:"إنه لا حرية عندنا إلّا في الجنس".
ولقد فهم الكثير من الذين ينادون بشعار الحرية أنها هي أن يعمل الإنسان ما يشاء، وأن يرتكب من المنكرات ما يلذ له، وأن يقول كل ما يريد قوله، وأن لا يكون للمجتمع أي تأثير عليه، إنه يفهمها على أنها الانفلات من كل القيود، ثم الفوضى وإشاعة الفساد، والوصول إلى الإلحاد تحت هذه التسمية، ولقد ظهرت جحافل من دعاة الحرية خدعوا الناس وأوهموهم أنهم يجب أن يكونوا أحرارًا لا قيود عليهم من دين أو مُثُل أو عرف، بل هي الانطلاق التام. دون أن يفطن هؤلاء المخدوعون بأنها مصيدة يهودية ماسونية وأوحوا بها إلى الدهماء من الجوييم كما يسمونهم؛ ليملئوا بها فراغًا في أذهانهم، بينما هم يعلمون تمامًا أن لا حرية حقيقية سيصل إليها الجوييم، وجاء دعاة الإباحية والوجودية والشيوعية بما زاد الطين بلة والنار اشتعالًا وملؤا أذهان الشباب والشابات بطنين الحرية الشخصية والحرية الجنسية والحرية الكلامية
…
إلخ، فإذا بتلك الحريات كلها تصبّ في مصب
واحد هو القضاء على الأديان والعفة والشريعة الإسلامية، وفتح الباب على مصراعيه لدعاة الفجور والفحش باسم الحرية، ومنع المصلحين من الإصلاح بدعوى عدم التدخل في شئون الغير أو كبت حريتهم.
جاء في كتاب الحرية في الدولة الاشتراكية "أنه لو قام مجتمع من النساء الحريصات على استقلال جنسهن بتكوين جماعة تدعوا أو تمارس بين النساء أنفسهن نظرية التناسل بدون رباط زواج، فليس من حق الدولة أن تتدخَّل في أعمال تلك الجماعة"1.
وأي مصلح ينادي بالكف عن المنكرات والإقصار عنها صاحوا به: إنه يريد كبت حريات الناس، إنه متزمِّت ومتشدد، وما إلى ذلك من الدعايات الباطلة ضده.
وحينما تعرف الحرية بأنها الانطلاق في الرأي استغلَّ دعاة الحرية اللادينية هذا المفهوم ونادوا بما سمونه باحترام الرأي والرأي الآخر، وهم يريدون الانطلاق في الرأي الذي يؤدي في النهاية إلى انتكاسة البشرية وفرض آراءهم العلمانية والعقلانية والشعوبية والقومية وكل النعرات الجاهلية، وكذا تعريف الحرية بأنها الانطلاق في الاعتقاد وفي القول وفي الفعل، فإن دعاة تلك الحرية الباطلة لا كابح لجماحهم، انطلقوا في الاعتقاد في القول والفعل إلى الرذائل والآراء السقيمة والنظريات السخيفة بحكم حرية الاعتقاد في القول فملؤا إذاعاتهم وصحفهم ونشراتهم بما يستحي
1 "الحرية في الدول الاشتراكية" ص135، نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية"، ص83.