الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشؤون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر
…
المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشئون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر
وفيه المسائل الآتية:
- تمهيد:
لقد نظَّم الإسلام الأمور المالية من واجبة وتطوعيه وحلال وحرام، وحافظ على الأموال وكيفية التصرف فيها في الحياة وبعد الموت، بعد أن ضمن حرية الملكية للمال من قِبَلِ كل فرد ذكرًا أو أنثى، كما ضمن أيضًا بيان أوجه إنفاقه لسعادة الأمّة في الدنيا والآخرة، كما ضمن أيضًا وجود التكافل الحقيقي بين أفراد المجتمع بصورة صحيحة حينما يلتزمون بنهجه ويحتكمون إليه قولًا وفعلًا، وتلتزمه الدولة وتطبقه، وتتحمَّل مسئولية كفالة كل مواطنيها المحتاجين العاجزين عن الكسب؛ ليتحقق التكافل القائم على حسن التصرف وزيادة المودَّة بين أفراد الأمة جميعهم، فمن تنظيمه البديع للمال:
1-
أنه جعل في جزء منه حقًّا يحب العمل به ورغب فيه، وهي الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال1، وبيَّن تفاصيلها أتَمَّ بيان، وغيرها من الأنواع التي سنذكرها مما رغَّب فيه الإسلام.
1 المستدرك على الصحيحين ج2، ص362 مجمع الزوائد ج3، ص63.
2-
وجعل جزءًا منه يحرم التعامل به لما فيه من إضرار بالغير وبالأخلاق والسلوك الطيب، أوكل جوانب أخرى، إلى ضمير الشخص ورغبته فيما عند الله تعالى.
وقد اعتنى الشرع الشريف بإسعاد كل البشر في دنياهم، وبفوزهم في أخراهم، ومما هو معلوم أن الفقر هو أشد أسباب الهموم والقلق والاضطراب، بل هو مفتاح كل الشرور، ولهذا كان للإسلام تجاهه مواقف وحلولًا مفيدة مأمونة العواقب، بعضها يقوم بها كل فرد بنفسه، وبعضها يقوم بها كل أفراد الأسرة، وبعضها يشترك فيها أكثر من جهة من أفراد المجتمع، وبعضها تقوم به الدولة تجاه الآخرين، وهذه الحلول فيها الأناة والتؤدة وملازمة الصبر والرضى بأمر الله، بخلاف الحلول البشرية التي قامت على الطيش والعجلة في الحصول على المال بأي طريق، حتى وإن كان وخيم العواقب كثير الرذائل؛ إذ الهدف هو الحصول على المال، وهو نصب عين الشخص منهم ومجتمع همه، ولتكن النتائج ما تكون على حَدِّ ما قاله أحد الشعراء:
إذا هَمَّ ألقى بين عينيه همَّه
…
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
لهو مجتمع أناني مفكّك لا ترابط فيه، وما تراه في سلوك الرأسمالية والشيوعية تجاه جمع المال هو أقوى شاهد على ضحالة أفكارهم وقصورها عن الحلول الإسلامية الربانية الصحيحة، التي تنظر إلى كل من الغني والفقير نظرة الأم الحنون تجاه أولادها.
أنها حلول عادلة لا بغضاء فيها ولا أحقاد ولا إثارة بعض الطبقات على بعض، بل لا طبقات في الإسلام، وإنما هو مجتمع واحد ويسير على منهج واحد {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.
وكما اهتمَّ الإسلام بإيجاد طرق الكسب الحلال لسد الحاجات بالمثابرة على الأعمال، فإنه اهتمَّ كذلك بتوزيع هذا الكسب أو المال الذي ينتج عن العمل، فلم يترك توزيع المال لأمزجة المالكين له دون نظام ولا توجيه، بل اعتنى ببيان كيفية معالجة المشكلة الاقتصادية، كما اهتمَّ بتوزيع المال توزيعًا يضمن المساواة العادلة والتوازن الدقيق بالنظر للاقتصاد العام للمجتمع؛ بحيث لا يطغى جانب على آخر، ولئلَّا يقع المال في يد جماعة دون أخرى، فيطغى الأغنياء ويفتتن الفقراء، وهذه قاعدة من قواعد الاقتصاد في الإسلام.
فتوزيع المال في الإسلام له ضوابط وجهات مختلفة، فهو يوازن بين كل أفراد المجتمع؛ إذ جعل لكل شخص حقًّا عليه يؤديه من ماله، وحقًّا له يأخذه من مال غيره وجوبًا، وبهذا تتقارب أحوال الناس فلا يبقى شخص في الثريا وآخر في الثرى، ومن أجل ذلك نظَّم الإسلام مصارف المال بأحسن الطرق، وأرشد إلى حلول كثيرة فيها الخير والسعادة إذا طُبِّقت في تنظيم بديع عادل، كما تلاحظه فيما يلي:
1 سورة الحجرات الآية: 13.
المسألة الأولى: التكافل الاجتماعي العام في الإسلام
شهد الله تعالى للإسلام بأنه دين كامل شامل لجميع نواحي الحياة، ما فرَّط الله تعالى فيه من شيء، وقد أولى الجوانب الاقتصادية والتكافل الاجتماعي أعظم العناية والبيان، وقد جاء أعظم التأكيد والإرشاد في كتاب الله الكريم وفي السنة النبوية وفي سلوك الصحابة -رضوان الله عليهم، ومن تبعهم من علماء المسلمين على أهمية التكافل بين أفراد المجتمع جميعهم، وإقامة النظام الاقتصادي الذي يحقق العدالة الاجتماعية التي أولاها الإسلام عنايته الفائقة، وهذا التكافل يقوم على أساسين هامَّين، المجتمع كله، والدولة التي تمثل ذلك المجتمع، وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على هذا، منها قوله تعالى في بيان أخذه الميثاق من بني إسرائيل على القيام بعدة أمور منها: الإحسان وإيتاء الزكاة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} 1.
وقال تعالى في بيان أوجه البر، ومنها إنفاق المال وإيتاء الزكاة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
1 سورة البقرة، الآية:83.
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1.
وقال تعالى في بيان فضل الإنفاق في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2.
وقال تعالى في المنفقين بلا مَنٍّ ولا أذى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} 3.
وقال تعالى في فضل الإحسان وذم البخل، ومدح الإنفاق وذم الرياء:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا، وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ
1 سورة البقرة، الآية:177.
2 سورة البقرة، الآية:261.
3 سورة البقرة، الآيتان: 262، 263.
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} 1.
وفي القرآن الكريم آيات عديدة في بيان هذا الاتجاه والترغيب فيه، وإثارة مشاعر العطف والإحساس في نفس الشخص تجاه الآخرين، والدعوة إلى الكرم، والتنفير عن الشح والبخل.
وجاءت السنة النبوية بتأكيد كل تلك المعاني النبيلة التي تؤدي إلى أسمى التكافل بين المسلمين، وإلى إقامة أروع نظام اقتصادي ناجح، فمن ذلك:
1-
قال النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب إشاعة المحبَّة بين كل أفراد المسلمين، وأن كل مسلم يجب عليه أن يحب لغيره مثل ما يحبه لنفسه قال:"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"2.
وقال صلى الله عليه وسلم، وكانوا في سفر:"من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له"، قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث:"فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منا في فضل"3.
1 سورة النساء، الآيات: 36-40.
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه مسلم، ج3، ص1354.
وغير ذلك من النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه أنظار المسلمين إلى الرحمة وعطف بعضهم على بعض، واحتساب الأجر والثواب، وتحريم غشهم، أو احتكار الخير عنهم، أو أذيتهم بأي نوع من الأذى، وهو توجيهات لو سار عليها المسلمون لأصبحوا كما كانوا في عهودهم الأولى؛ حيث كان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها منه.
ومن المعلوم عقلًا أن سعادة المسلمين في عصورهم الأولى إنما كانت بفضل تعاليم الإسلامية الإلهية، ثم بتطبيقهم لها؛ حيث أصبحوا كالجسد الوحد وكالبنيان المرصوص يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فإنه لا يمكن أن تقوم قائمة لأي نظام لم ينجح في الحلول العادلة بين أفراده، كما أنه لا يمكن أن تستقرَّ أوضاع أيّ مجتمع لا يحس بالطمأنينة على مستقبل حياته دون أن يلمس الضمانات الوافية بذلك.
ولهذا بقي الإسلام حيًّا في قلوب أبنائه على مرِّ الدهور والعصور؛ لشموله لكل أنواع التكافل في جميع نواحي التشريع، سواء ما يتعلق بحق الفرد أو حق الجماعة أو حق الدولة دون محاباة لأحد.
إن الإسلام دين يهتم بأمور الدنيا كما يهتم بأمور الآخرة، فهو لا ينحصر فقط في داخل المسجد كما يزعم العلمانيون وسائر أعداء الإسلام الذين يصورونه أنه دين جامد ومثبط عن العمل ويدعو إلى الكسل، وأن نظامه ليس شاملًا كالقوانين الوضعية التي يمجدونها، ويدعون إلى تقديمها على النظام الإلهي {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 1، {الْيَوْمَ
1 سورة الكهف، الآية:5.
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} 2.
وسيأتي إن شاء الله في خلال هذه الدراسة ما يوضح كل ذلك.
إن التكافل الاجتماعي في الإسلام له صفة شاملة لا تقف عند جهة أو مجتمع أو شخص، وإنما ينظر فيه إلى جميع الأمة على أنها كالجسد الواحد، وأن مضرَّة الفرد كمضرَّة الجميع، ومضرة الجميع كمضرة الفرد، يجب أن يحس كل فرد بإحساس الآخرين على حد قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3. بينما النظم الجاهلية إما أن تنحاز إلى الغني أو إلى الفقير أو إلى المصلحة الذاتية.
2-
الإسلام يدعو إلى تحقيق كل أنواع التكافل، سواء أكان بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين أفراد أسرته أو جماعته، أو بين أمة وأمة، فالتكافل لا حدَّ له في الإسلام، ولا ينحصر في جهة دون أخرى، وهذه المزية لا توجد في النظم الوضعية ذات الأحزاب والأهواء المختلفة.
3-
إن الدعوة الإسلام إلى التكافل لم تكن بعد تجارب تعرَّضت للخطأ أو الصواب، ولا عن مشورة أحد، وإنما هي توجيه إلهي؛ لتتحقق به سعادة البشر مضمونة النتائج، بينما الدعوات الأخرى نشأت إما
1 سورة المائدة، الآية:3.
2 سورة النساء، الآية:122.
3 سورة المائدة، الآية:2.
عن تجارب، وإمّا عن رهبة أو رغبة، أو لمصالح أخرى، ثم هي قابلة للتغير في كل حين، وفرق كبير بل لا مقارنة بين نظام وضعي وبين نظام صادر عن علّام الغيوب، غير قابل للتناقض والاضطراب والخلل الذي ملئت به الأنظمة الوضعية؛ لنقص عقول البشر عن إدراك الأمور على حقيقتها.
4-
في التكافل الإسلامي يصل الفقير إلى ما يعطاه من المال دون أي منَّة لأحد عليه؛ إذ تعطيه الدولة القائمة من مصاريف بيت المال المشروعة له، وخصوصًا الزكاة التي تؤخذ من مال الأغنياء بطريقة عادلة تنفع الفقير ولا تضر الغني في ماله، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل بعد أمره ببيان الزكاة لأهل اليمن قال:"وإياك وكرائم أموالهم"1.
وفي الوقت الذي يؤدي فيه الغني زكاة ماله يشعر برضى وسعادة؛ لأنه قدَّم نوعًا من أنواع العبادة، فلا يشعر بالحقد على الفقراء، ولا يشعر بأنها ضريبة دون مقابل تؤخذ جبرًا عنه، بل هو عمل نبيل يثاب عليه الثواب الجزيل، وكذلك الحال بالنسبة للفقير تجاه الغني؛ إذ يشعر بأنه له في مال الغني نصيب يصل إليه، بخلاف الأنظمة الوضعية التي خلت عن هذا المسلك الطيب، فقامت على الشَّرَه واستعباد الغني للفقير، وما ينشأ عن ذلك من الأحقاد والبغضاء بين جميعهم.
5-
الإسلام لم يكتف بفرض ذلك التكافل ضمن تشريعاته الإلزامي
1 أخرجه البخاري ج6، ص2658، ومسلم ج1، ص51.
منها، وإنما هو يخاطب ضمير الإنسان وصفة الكرم فيه وترغيبه في الأجر والثواب؛ لتشجيعه على فعل الخير تجاه الآخرين عن رضًى واقتناع، فيقنعه في داخل نفسه بأن المال كله ومالكه أيضًا هو ملك لله، وأن الله تعالى هو الذي يرزق ويخلف الخير بأفضل منه، والصدقة بعشر أمثالها ويضاعفها أضعفًا مضاعفة، فلهذا نجد أن المسلم يقدِّم ما يقدِّم من الخير وهو قرير العين لا يفكر في أخذ مقابل من أحد {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} 1.
وقد خلت الأنظمة الوضعية من هذه الصفات كلها.
المسألة الثانية: الاتفاقيات في العمل
الإسلام وهو يحث على العمل والضرب في الأرض يعتبر كذلك أكل الرجل من كسب يده من أشرف المكاسب، لم يترك الإسلام أمر العمل دون ضوابط بين العاملين وأصحاب العمل تضمن عدم النزاع وعدم انقطاع العمل دون الوصول إلى نهايته، لذلك نجد أن الإسلام يأمر قبل إبرام أيّ اتفاق في العمل رضا جميع الأطراف دون أي تدخل أو ضغط خارج عن رغبتهم في صفقة العمل المراد القيام به والاستفادة منه، وأن تكون المدة بين الأطراف كذلك محددة لا شبهة فيها، ولا تقبل التأويل، وإذا كان العمل يتطلَّب أن تقوم به جماعة أو فرد، فيجب أن تكون الأجرة معلومة ومتَّفق عليها، وهذه الضمانات كلها كي تنتظم الأمور ولا يحصل الضرر ولا الغرر، فينتج عن ذلك التراضي وجودة العمل ومراقبة الله
1 سورة الإنسان الآية: 9.
فيه، ولهذا فقد وجد أصحاب الأعمال على أختلاف دياناتهم أن المسلم الملتزم أتقى في عمله وأخلص في أداء واجباته، ولقد كانت أعمال المسلمين وأفعالهم بمثابة دعوة إلى الله تعالى في تعاملهم مع غيرهم، وأسلم الكثير من الناس بسبب تلك الأمانة والإتقان الذي اتصف بهما العامل المسلم، ومن المعلوم لدى جميع العقلاء أن الأجير يستحق أجرته عندما يتقن عمله ويسلمه لمن استأجره حسب الاتفاق بينهما في المدة والجودة والإتقان.
ولهذا فقد حذَّر الإسلام من عدم الوفاء للعامل بأجرة عمله، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثُمَّ غدر، ورجل باع حرًّا فأكل منه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفه أجره"1.
كما حثَّ الإسلام الأجير أن يكون كريم النفس وفيًّا صاحب همة وخلق، فقد أخبر الله عن نبيه موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- أنه استأجره صاحبه ثماني حجج، فإن أتمَّ عشرًا فمن عنده، فوفَّى بذلك وزاد على الاتفاق، فوفَّى العشر كما يذكره أصحاب التفسير"2.
كما يجب أن يكون صاحب العمل كذلك على خلق وأمانة، فلا يشق على عامله كما قال صاحب موسى له:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 3، وقد كان كذلك.
1 صحيح البخاري ج2، ص792.
2 انظر "تفسير القرآن العظيم" ح3، ص386.د
3 سورة القصص، الآية:27.
ولا يجوز التحايل لإسقاط أجرة العامل إلّا بعذر شرعي واضح، فلا يحق له أن يوقفه عن إتمام العمل إلّا إذا ترك العامل ذلك، أو اتضح أنه لا يحسنه ونحو ذلك، فعليه حينئذ أن يعطيه أجر عمله السابق، مراعيًا في ذلك قول المصطفى -صلى الله عليه سلم:"لا ضرر ولا ضرار" 1 لا على النفس ولا على الغير.
المسألة الثالثة: الكسب المشروع وغير المشروع
أولًا: الكسب المشروع
المسلم مأمور بالتكسُّب، ومأمور أن يسعى لذلك قدر استطاعته، وأن الكسب الطيب هو ما جاء في مقابل عمل وجهد جسمي أو فكري من قِبَلِ الشخص تجارة أو زراعة، أو صناعة تتطلب العمل الجسمي وحده، أو العمل الجسمي والفكري معًا. كما أنه يلتحق بالكسب الشخصي ما جاء عن طريق غير العمل أو الفكر مما يؤول إليه في النهاية كالإرث أو الوصية له والهبة، فإن هذه حتى وإن لم تكن من عمله الشخصي لكنَّها بعد صولها إليه تعتبر كسبًا وحلالًا مشروعًا ومباحًا له بنص كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما لو وصل إليها عن طريق غير شرعي؛ كالسرقة والغصب والنهب والغش.. إلخ، فإنها لا تعتبر مكاسب صحيحة شرعية؛ لعدم وجود ما يقابل هذا المال من الجهد الشخصي، وهو طريق لم يأمر به الله لسد الحاجات، بل حرَّمه وتوعَّد بالعقاب عليه، وجعله من
1 المستدرك ج2، ص66.
المكاسب الخبيثة، وملكه له ليس يحله له، ومن المكاسب المشروعة إحياء الأراضي الموات التي لم يسبق أحد إلى امتلاكها قبل المحيي لها؛ إذ تصبح ملكًا شرعيًّا له لورود النصوص بذلك، قال عمر رضي الله عنه:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له"1، بل ويحقّ تملك الأرض المحتجرة إذا طال عليها الحال دون الاستفادة منها ففي بعض الروايات:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق"2.
ويروى عن أبي حنيفة أنه اشترط إذن الحاكم منعًا للنزاع الذي ربما ينشأ بين المتنافسين لامتلاكها3، وهو أمر واقع ملموس حينما يتسابق الناس لامتلاك أرض جديدة، والذي يظهر والله أعلم أن الأمر يحتاج إلى تفصيل، أي: إذن الحاكم أو عدم إذنه؛ بحيث ينظر فيه إلى حقيقة الحال من حيث حصول النزاع أو عدم حصوله، فإن لم يؤد الإحياء إلى النزاع فهو إحياء صحيح لا يتطلّب إذن الحاكم كما تفيده النصوص النبوية، وإن كان الإحياء يؤدي إلى النزاع والفتنة فإن ملكية الأرض تنتقل إلى الحاكم وهو الذي يتصرف فيها حسب المصلحة العامة من توزيعها أو حجرها لمصالح المسلمين؛ لأن الدولة هي المسئولة أمام الله عن توزيع الأموال العامة بما تعود مصلحته على الجماعة، بما فيهم القائمون على تلك المصالح.
1 أخرج البخاري ج5، ص18.
2 انظر فتح الباري ج5، ص18.
3 انظر "النظام الاقتصادي في الإسلام" ص96. نقلًا عن كتاب "الخراج"، لأبي يوسف ص65.
ثانيًا: الكسب غير المشروع
الكسب من وراء السلطة:
يجب التنبيه هنا إلى أنَّ الإسلام ليس فيه تمايز بين الحاكم والمحكوم في حيازة الأموال إلّا عن طريقها الشرعي، فالكل محاسب ومؤتمن، حاكمًا أو محكومًا، ولهذا فقد حرَّم الإسلام استغلال السلطة والنفوذ ليحازة الأموال للمنفعة الشخصية، واعتبر هذا المسلك باطلًا، ويجب إرجاع تلك الأموال إلى بيت مال المسلمين العام؛ لأنه ليس من المكاسب المشروعة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده لا يأخذون من الأموال إلّا ما يكفي حاجتهم، ويرجعون الباقي لصالح المسلمين، بل حرّم الرسول -صلى الله عليه سلم- أخذ الأموال بواسطة السلطة، حتى وإن كانت عن طريق الهدايا، كما قال في شأن الرجل الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من جباية الزكاة:"هذا لكم وهذا أهدي لي"، فقال صلى الله عليه وسلم:"أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته"1.
1 أخرجه البخاري ج6، ص2559.
المسألة الرابعة: إيجاب الإسلام إخراج جزء من المال "فريضة الزكاة"
وفيها أمران:
الأمر الأول: مشروعية الزكاة
أوجب الإسلام إخرج جزء من المال لا يتضرر به صاحب المال، وفي نفس الوقت ينتفع به الفقير ويسد بعض حاجاته، ومن ذلك إخراج الزكاة، فهناك من الناس من لا يستطيع العمل، أو لا يتيسر له، فيعاني مشقَّة الفقر، بل وقد لا توجد له أسرة تساعده وتتنبه لحاله، فإن الإسلام كما هو معروف عنه يهدف إلى جعل المسلمين كلهم أسرة واحدة، ولهذا شرع فريضة الزكاة لمساعدة المحتاج ومن لا أسرة له تساعده، يأخذها الفقير وكأنها جزء من حقوقه، فلا يشعر بمنِّة المتصدق، ولا المتصدق يشعر بإسدائه يدًا عند أحد بعينه، وهي مورد من موارد الدولة التي تغطي بها حاجات الأفراد بحسبها، فهي طهارة للنفس ونماء للمال، وفائدة للمحتاج، ونوع من أنواع تصريف المال لخدمة المجتمع، "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" 1، ولو طبقت هذه الفريضة بكل جد وإخلاص لما بقي لأعداء الإسلام منَّة على المسلمين في مساعدتهم بالأطباء بلا حدود "المنصرون"، ولا للحاقدين على الإسلام الذين يتربَّصون به وبأهله الدوائر عن طريق زرع المشكلات الاقتصادية في كل الأقطار الإسلامية؛ لأن الفقراء حينئذ سيكون اعتمادهم بعد ربهم على ما في أيديهم من الموارد المتاحة لهم، وكذلك على ما يصلهم من إخوانهم الموسرين حتى يغنيهم الله من فضله.
1 أخرجه البخاري ج2، ص505، ومسلم ج1، ص51.
وفريضة الزكاة هذه التي أوجبها الله في مال الأغنياء هي قدر معلوم يجب إخراجه عندما يصل المال إلى أن يحتمل إخراج الزكاة منه، ويكون قد حال عليه الحول وهو غير محتاج إليه لضرورة، وقد ذكر الله عز وجل الزكاة في تسع وعشرين آية، وقد أخطأ بعض الناس وأطلق عليه تسمية ضريبة، ولا شك أن الفرق شاسع بين الضريبة وبين المال الذي يخرج من أجل الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة وعد الله عليها بالثواب بخلاف الضريبة فإنها تؤخذ كرهًا، وهذا المال الذي يؤخذ من الأغنياء يُرَدُّ على الفقراء والمساكين، وأصحاب الديون المعسرين، والعتق قديمًا، وأبناء السبيل، والقائمين على جباية الزكاة، يأخذها هؤلاء من بيت مال المسلمين بعد أن توضع فيه، ومن الطبيعي أنه وإن كان لا يحس صاحب المال بمنَّته على أحد، ولا يشعر الفقير بذل سؤال الغني، لكنها في نفس الوقت فيها حثٌّ للجميع على العمل والإنتاج، فما يأخذ الفقير إنما هو دفعة لينشط للكسب والعمل، لا لتكون مصدر عيشه دائمًا، وهي كذلك تجعل الغني يشعر بأنه قدَّم لإخوته المحتاجين ما ينفعهم، وقد بينت الشريعة تفاصيل هذا الجانب الهامّ من شعائر الإسلام، وفي الفقه الإسلامي تفاصيل لكل ما يحتاجه المسلم لمعرفة كل تفاصيل هذه العبادة، وقد جاء في القرآن الكريم التهديد الشديد لمن يكنزون الذهب والفضة الزائدة عن حاجتهم ولا يؤدون زكاتها بخلًا أو جحدًا لوجوب الزكاة، بينما النظم الجاهلية الرأسمالية لا ترى أيّ جرح في تكديس الأموال في يد شخص أو شركة مهما كان حال أولئك، فإن الرأسمالية لا تنظر إلّا إلى كيفية جمع المال بكل طريقة مشروعة، أو غير مشروعة، الحلال ما حلَّ في أيديهم، والحرام ما حرموا منه كما، أن إيجاب الزكاة في الأموال يلاحظ فيه أيضًا جانبًا آخر وهو ضمان عدم تكدس الأموال في فئة خاصة كي لا تطغى
فكانت الزكاة تنقيصًا ما من تلك الثروة الكبيرة لتسد حاجة آخرين ولا يتضرر بها الغني، وقد أراد الشيوعيون منع هذا الجانب -أي: تنقيص المال وعدم حصره في فئة- ولكنهم لم يوفَّقوا للحل العادل؛ إذ منعوا الناس من اكتساب الأموال فأفقروهم، بينما هيمن كبار الطبقات على كل الأموال، فأصبحت في يد الدولة، أما الإسلام فإنه ينظر إلى مصالح الجميع، فهو يبارك للغني أمواله، ولكن يأمره بأخراج بعضها عن طيب نفس منه، فلا يتضرر الغني ولا الفقير، وقد حرمت المذاهب الوضعية من الاهتداء إلى هذا الحل الطيب.
الأمر الثاني: آثار الزكاة على النفس والمجتمع
لا يجهل أي مسلم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأن لها آثارًا مشرقة على النفس والمجتمع، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث معاذ إلى اليمن: "
…
فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أعنيائهم، وترد على فقرائهم
…
" 2.
وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلون جنة ربكم"2.
1 سورة البقرة الآية: 43.
2 تقدَّم تخريجه.
3 انظر صحيح ابن خزيمة ج4، ص12، والمستدرك على الصحيحين ج1، ص52.
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليها وبيان أهميتها في الإسلام، وقد أجمع المسلمون كلهم على فرضيتها وكُفْرِ منكر وجوبها، وأنها أحد أركان الإسلام التي ذكرت في حديث جبريل المشهور، وقد فرضها الله تعالى لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، نؤمن بذلك عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، مع اليقين التامِّ أن فيها حِكَمًا إلهية عظيمة، وقد يبدو أنَّ من حكمتها وجود الحافز لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المسلمين، وفي تخفيف الكثير من المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البشر في تسابقهم إلى الاستحواذ على المال وجمعه.
كما أن للزكاة أثارًا نفسية عظيمة على المزكّي والآخذ معًا؛ فبالإضافة إلى أثارها التي سبقت الإشارة إليها فهي من الناحية الاقتصادية فيها حثٌّ لصاحب المال على زيادة الرغبة والنشاط لتنمية أمواله وسدّ ما حصل من نقص فيها بإخراج الزكاة، فهو يشعر من ناحية بهذا النقص، ومن ناحية أخرى بالسعادة لأدائه هذا الحق المفروض عليه، والرغبة في الثواب، فيجتمع له الأمل والعمل معًا، وفي الجانب المقابل يشعر الآخذ للزكاة أنه يجب عليه أن ينهض للعمل وأن لا يبقى دائمًا في انتظار وصول الزكاة، وهذا يحثّه على الاستفادة من مال الزكاة في الوجوه التي تعود عليه بالربح وتغنيه عن أخذ الزكاة، فإن المسلم يعلم يقينًا أن اليد العليا خير من اليد السفلى، فهو دائمًا يتشوّف إلى الاستغناء عن مد يده لأحد من الناس.
ومن الآثار الظاهرة للزكاة أنها تهدف إلى أن يسير الناس كلهم متقاربين، فالفقير يأخذ حاجته التي تغني من في مثل حاله، والغني لا يتكدّس المال
في يده، فلا تنشأ طبقات بعضها في الثرى والأخرى في الثريا، كما هو حال الدول القائمة على النظم الوضعية الشَّرِهَة إلى المال؛ حيث يستعبد بعضهم بعضًا، وتنشأ بينهم أحقاد وحسد لا يعلم مداه إلّا الله؛ لشعور الفقراء بالإحباط التامّ واستعلاء الأغيناء عليهم، ويأسهم من الاستفادة مما في أيدي الأغنياء مهما كانت قلته، وهذه النزعة لا توجد في النظام الإسلامي للزكاة؛ إذ يشعر الفقير أنه سيصيب من مال الغني بأي طريقة كانت، وكأنه مشارك له، فتهدأ نفسه، وبالتالي لا ينظر إلى صاحب المال بأنّه عدو شرس مستكبر عليه، وإنما هو تفاوت لحكمة من الله تعالى، فتقرَّ نفسه، ويجد في قلبه حنانًا وشفقة تجاه أخيه صاحب المال، خصوصًا مع الإيمان والرضى بالقدر، فلا تجد إلّا القليل من يفكر في السرقة أو الغصب أو النهب؛ إذ ما دام ذلك المال سيأتيه جزء منه مع محافظته على سمعته واحترامه ودينه، فلا يجد ضرورة للتفكير السيء إلّا من طُبِعَ عليه الشر وهم قليلون بالنسبة لغيرهم، وإذا أردت الدليل فتأمَّل حال الدول الكافرة وما يحدث فيها من السرقات والنهب والغصب على مدار الساعة.
وفي الزكاة كذلك تقوية خزينة الدولة الإسلامية وتنوع نفقاتها على المستحقين، وعلى تأليف قلوب الكثير من الناس، وقد ضمن الله الزيادة لمن أدّاها على وجهها الشرعي، وهي فوق ذلك كله نوع من أنواع العبادة التي تدلّ على صدق القائم بها، وعلى رغبته فيما عند الله؛ إذ لو شاء أن يحتال للانفلات من إخراجها لأمكنه ذلك بأية حيلة من الحيل التي يفعلها الكثير ممن ضعفت في قلبه مراقبة الله تعالى.
وتخرج الزكاة لمن ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1.
وقد بيِّنَ فقهاء المسلمين كل تلك الأقسام والمقدار الذي يصرف لكلٍّ منهم، بما لا يتَّسع المقام لذكره هنا.
وهناك موارد أخرى في الإسلام من غير الزكاة تصل بيت المال ويستفيد منها فقراء المسلمين، وتلك الموارد هي ما يحتويها بيت مال المسلمين من غير دخل الزكاة، وهي موارد كثيرة تنمّي خزينة الدولة؛ كي تتمكَّن من الوفاء بحاجات المواطنين المختلفة، ومدّ يد المساعدة للمحتاجين منهم، ومن تلك الموارد خيرات الأرض من معادنَ على اختلاف أصنافها، كذا جباية أوقاف الدولة العامة، وما تملكه عن طريق الغنائم في حال الحرب والفيء، وما تفرضه من ضرائب في بعض المصالح، وما تخصصه من محميّات للصالح العام، وغير ذلك من المرافق العامّة التي تختص بالإشراف عليها الدولة، والتي هي مسئولية أمام الله تعالى عن كل ذلك.
المسألة الخامسة: الضرب في الأرض وطلب الكسب
ويشمل طرق كل وسيلة لإيجاد العمل والكسب الحلال الذي ينتج عن جهد وعمل وكد الشخص بجسمه وفكره امتثالًا لقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
1 سورة التوبة الآية: 60.
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1، وقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، وقوله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 3.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وجل التي تحثّ على العمل وابتغاء طرق الرزق من أبوابه المشروعة، فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه للمتواكلين:"لقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"4.
وللضرب في الأرض طرق كثيرة، مثل طلب الرزق عن طريق التجارة والبيع والشراء، أو استصلاح الأراضي للرزاعة، أو الأعمال التي يقوم بها الشخص لخدمة الغير، أو مزاولة الأعمال اليدوية المختلفة من صناعة وخياطة ونجارة وسباكة وأعمال كهربائية، وغير ذلك من الأعمال والحرف اليديوية الكثيرة، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان لا يأكلون إلّا من كدهم، فقد رعَى النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة على قراريط، وكان يأكل من كسبه في الجهاد، والصحابة كانوا يستقبلون المهاجرين منهم، فيقول أحدهم لصحابه: أعطيك كذا، أعطيك كذا، أعطك كذا، فيقول له: بارك الله لك في أهلك
1 سورة القصص، الآية:77.
2 سورة المزمل، الآية:20.
3 سورة الجمعة، الآية:10.
4 انظر المفهوم الإسلامي للتكافل الاجتماعي ص41.
ومالك، دُلَّني على السوق1، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد من يسأل الناس إلى أن يتوجه إلى العمل ولو بالاحتطاب، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأال، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا إذا كان يملك شيئًا، فأخبره السائل أنه لا يملك إلّا قدحًا يشربون به، قال له النبي صلى الله عليه وسلم جئني به، فلمَّا جاء به رفعه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"من يشتري هذا" فوصلت قيمته درهمين، فباعه وأعطي الرجل درهمًا، وأمره أن يصلح به شأن بيته، وأمره أن يأخذ الدرهم الآخر ويشتري به فأسًا فيحتطب به ويبيعه، ففعل الرجل ذلك فأغناه الله، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك خير له من أن يتكفَّف الناس أعطوه أو منعوه2، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن اليد العليا خير من اليد السفلى2، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف4.
وهو تنبيه من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم أن لا يذل نفسه لسؤال الناس والركون إليهم والإخلاد إلى الكسل والخمول، وتفويت المجتمع خدمته، والاستفادة منه كعضو عامل في بناء الحياة السعيدة، والإسهام في التكافل الاقتصادي، ولهذا يقول الناس في أمثالهم:"لا تغديني سمكًا ولكن علمني كيف أصطاده"، فالعمل والاحتيال لطلب الرزق أمر مشروع، وتركهما هو الطريق المذموم الذي يؤدي إلى زيادة الفقر وارتفاع نسبة البطالة في المجتمع الذي يتصف بهما.
1 انظر "الآحاد والمثاني" ج3، ص388، "ورجال حول الرسول" ص643.
2 مجمع الزوائد ج3، ص94.
3 تقدم تخريجه.
4 السنن الكبرى ج6، ص160.
ويلحق بالاحتطاب كل عمل فيه جهد شخصي للحصول على أي نفع يسد به حاجته؛ كطلب الصيد وبيع الأعلاف والساقية ورعي البهائم للناس بأجرة أو الحراسة لهم، وغير ذلك من وسائل طلب الرزق التي لا يكاد تحصى، والتي لا تتطلّب من الشخص غير التفكير السليم والعزم بصدق والتوكل على الله عز وجل، والابتعاد عن المكاسب المنهيّ عنها؛ كالربا بجميع أنواعه، والغش بجميع أنواعه، وغيرها من المكاسب التي حرَّمها الله، والتي هي في حقيقتها ليست مكاسب، وإنما هي خسارات ظهرت في شكل مكاسب يغتَرّ بها ضعاف النفوس.
وكان الكثير من علماء هذه الأمة وأسلافهم يعملون في شتّى الحرف يطلبون العلم ويؤلّفون، فأفادوا الناس في دينهم ودنياهم، وأفادوا أنفسهم ومجتمعاتهم، وكان الكثير منهم تأتيه الصدقة فيردّها لصحابها ويقول: أعطها من هو أفقر مني، وكان أحدهم يأكل من عمل يده، ولهذا كان يقال لبعضهم وراقًا وبزازًا وزجاجًا وخرازًا وجصاصًا وخواصًا وخياطًا، وغير ذلك من الألقاب التي اقترنت بالمهن التي كانوا يزاولونها، ويجدون فيها رغم متاعبها متعة وراحة عن استجداء الناس، وكان التوكل عندهم هو العمل والجد، حتى إذا انحرفت فطر الناس وتغيَّرت المفاهيم، وحلّت الخزعبلات في عقول بعض من ينتسب إلى الدين، أصبح التواكل بدل التوكل، والشعوذة بدل العمل، والكسل والخمول زهدًا، والاتكال على الناس أمرًا سائغًا، فتفشَّى الفقر وانتشرت البطالة.
والذي نهدف إليه من هذا البحث هو أنّ الضرب في الأرض لطلب
الرزق، وإعمار الأرض بالعلم والعمل هو أحد الأهداف التي يحثّ عليها الإسلام لكفاية المجتمع ورفع أحواله الاقتصادية، ولهذا فقد حرَّم الإسلام أي كسب غير شرعي، فحرَّم السرقة والغصب والنهب والاحتيال
…
إلخ. وحث على التنافس، وفي الإسلام ليس العمل الفردي هو المسلك الوحيد لرفع الاقتصاد، فالإسلام يجعل على الدولة النصيب الأكبر في تشغيل رعاياها، وإيجاد الفرص المناسبة للاستفادة منهم في أشغالها كلٌّ حسب طاقته واتجاهه، والقائم على شئونهم هو المسئول الأول عن كل خلل يحصل في النواحي الاقتصادية للدولة، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتململ على فراشه ويقول:"والذي بعث محمدًا بالحق، لو أن جملًا هلك ضياعًا بشط الفرات لخشيت أن يسأل عنه آل الخطاب" يعني: نفسه -رضي الله عنه1.
ولهذا انتعشت أحوال المسلمين حينما كان التوجه صادقًا من قِبَلِ الحكام والمحكومين، ويذكر المؤرخون أنه مرَّت فترات بالمسملين كان يمشي أحدهم بصدقته في أفريقيا وغيرها، فلا يجد من يأخذها، وتولى عمر رضي الله عنه القضاء في خلافة أبي بكر فمكث سنة لم يتحاكم إليه أحد2.
وهي شواهد على ما وصل إليه المسلمون من الجدّ والتناصح والإيثار، ووقوف كل شخص في المكان الذي يستطيع فيه نفع نفسه ونفع غيره.
1 انظر تمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص123.
2 العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد 3/ 491، تاريخ الطبري 2/ 351.
المسألة السادسة: الصدقات
فالصدقات نوع من أنواع التكافل، ومظهر أخلاقي رفيع، وتعويد للنفس على الكرم ومحاسن الأخلاق، وهي سد لجانب من جوانب الحاجة للغير، وينبغي للمسلم أن يتصدَّق بأي شيء مهما كانت قلته، فإن الجود أن تجود بالموجود، وعلى الآخِذِ أن لا يزدريها، بل يدعو للمتصدق، فإن في هذا تطييبًا لنفسه وتشجيعًا له على البذل، ويحصل عكس هذا فيما لو أظهر الازدراء لها، ولهذا فإن كثيرًا من الناس يمنعه الحياء أن يتصدق بالقليل؛ لعدم استطاعته التصدق بالكثير، فيفوت على نفسه هذه الصفة الطيبة، قال المتنبي:
أورق بخير ترجي للنوال فما
…
ترجى الثمار إذا لم يورق العود
وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتصدق أحدهم حسب ما يجده، مهما كان قليلًا، وكان المنافقون يهزأون ممن يأتي بالقليل، فأنزل الله تعالى توبيخًا لهم واستحسانًا لما يفعله أولئك الأبرار، قوله تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.
وقال تعالى في شأن الصدقات: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
1 سورة التوبة، الآية:79.
2 سورة المزمل، الآية:20.
وفي السنة النبوية أحاديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يحثّ فيها على الصدقة بأي شيء كان، حتى وإن كانت تلك الصدقة هي الكلمة الطيبة، قال صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة"1.
وهذا فضل من الله تعالى وفتح لأبواب الخير أن تكون أبواب الصدقة بهذه السعة؛ حيث رغَّب الله تعالى فيها وجعلها على قدر الاستطاعة، وأخبر عز وجل عن مضاعفة تلك الصدقات، وما لها من النتائج الطيبة على المتصدق وعلى المتصدَّق عليه وعلى المال، وتلك الموارد وغيرها إذا توفّرت فلا بُدَّ أن تسد حاجة وتدر نفعًا على قسم من المجتمع إلى حين يغنيهم الله من فضله؛ إذ الإسلام لا يقر الشخص على أن يصبح عالة على غيره، بل عليه أن يعمل ويكدح، فقد يباشر السبب البسيط الذي يجر وراءه المال الوفير، ولا ينبغي للمسلم أن ينظر إلى الصدقات إلّا على أنها في حال ضرورة ملحّة، لا أنها مورد يجب أن يركن إليه دائمًا، فالمؤمن يجب أن يبقى عزيز النفس متعففًا عمَّا في أيدي الناس، وأنَّ عمله شرف له ونفع لغيره من أفراد المجتمع؛ ليحصل التكاتف وعمران الأرض والانتفاع بما أودعه الله تعالى فيها من موارد الرزق العديدة2.
وقد أولى الإسلام جانب الإنفاق في سبيل الله تعالى اهتمامًا ورعاية فائقة، ورتَّب عليه الأجر المضاعف والثواب الجزيل، ولقد تسابق الصاحبة -رضوان الله عليهم- ومن جاء بعدهم إلى امتثال الأمر، فكانوا ينفقون أموالهم
1 سنن الدارمي ج1، ص478، ومجمع الزوائد ج3، ص105.
2 انظر الكتاب "الضمان الاجتماعي في الإسلام" تأليف محمد أمين الشعراني ط1، سنة 1395هـ.
بكل سخاء في مختلف أوجه الخير، فساد التراحم بينهم، واختفت صور العنف التي كانت تشاهد في المجتمعات الجاهلية الجشعة، ولم يفرض الله تعالى على الشخص في باب الهبات والصدقات -غير الزكاة- أي: إلزام، وإنما ترك الأمر لضمير المستطيع، ورغبته في اكتساب الثواب والثناء الحسن عند الله وعند الناس.
ومعلوم أن الإنسان بصفة عامة شحيح على المال، فإذا لم يكن وراء بذله لماله دافع قوي يرغّبه في ذلك، فإنه لا يمكن أن يسارع إلى ذلك، هذا هو الفارق بين المحسنين في الإسلام وملاك الأموال من غير المسلمين.
فإن غير المسلمين لا يمكن أن يبذل أحدهم أيّ مال مهما كانت قلته إلّا أن يكون له هدف إلى مقابل دنيوي، أو يكون في سبيل شهواته ومتعه الدنيوية؛ لأنه لا يؤمن بأنه وراء دفعه لماله الثواب الذي هو خير من المال، فلا يجد حافزًا يدفعه إلى الإنفاق، كما هو الحال عند المسلم الموقن بذلك.
المسألة السابعة: الوقف
ومجال التكافل في الإسلام واسع جدًّا؛ إذ يشتمل على الترغيب في جميع أنواع الخير، ومنه الصدقات الجارية كالوقف، وهو عمل خيري إذا كان مما تحصل به فائدة من مساكن أو أراضي زراعية أو حفر آبار ماء، أو أي شيء مما تسد به الحاجة، وصفته أن يحبس الأصل فلا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يشمله الانتقال بالإرث بعد وفاة الواقف، ولا يباح الانتفاع به إلّا فيما أوقف من أجله.
وفي الترغيب في الوقف يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"1.
ولقد كان السلف السابقون يهتمّون بهذا الجانب رغبةً في ما عند الله، ولقد أسهمت الأوقاف في سد حاجات كثيرة، وأفاد منها المحتاجون، وكانت عاملًا قويًّا في دلالته على التكافل الحقيقي بين المسلمين، وهو من الخصائص التي تميِّز بها الإسلام، ونظَّمها وبيِّنَ طرقها، ويلاحظ أن الإسلام وهو يبيح الوقف ويرغِّب فيه ضمانًا، فإنه لا يبيح الوقف الذي ينتج من ورائه إلحاق الضرر بالورثة؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار، بل قال صلى الله عليه وسلم لسعد:"لئن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم فقراء يتكفَّفون الناس" 2، فلا يعمد الشخص لوقف أمواله إلّا إذا لم يكن فيها مضرَّة على الورثة، أو لم يكن له ورثة أصلًا.
المسألة الثامنة: الميراث
- تحليل الميراث لمن يستحقه:
يعتبر الإسلام أي مصدر فيه فائدة وسدٌّ لحاجة الناس، وجاء عن طريق مشروع، يعتبره الإسلام مصدر خير وطريقًا مستقيمًا، فلا تتوقف مصادر الرزق على عمل الشخص وجهده فقط، بل هناك مصادر أخرى قد لا تكون
1 مسند أبو عوانة ج1، ص495، مصباح الزجاجة ج1، ص35.
2 مسند أبو عوانة ج3، ص458، وسنن البيهقي الكبرى ج7، ص467.
من عمل الشخص تصبح جزءًا من ماله؛ كالميراث الذي آل إلى الوارث بعد موت مورثه. فالميراث هو أحد قسمة الأموال وتوزيعها العادل بين أكثر من شخص؛ لتعميم الاستفادة والإسهام في توزيع الموارد لقضاء الحاجات بين مستحقيها، ومن ناحية أخرى لئلّا يبقى المال حجرًا على فئة دون فئة من المستحقين ذكورًا أو إناثًا.
كما أن الإسلام نظر إلى جانب آخر فنظَّمه، وهو حالة ما إذا كان المتوفى صاحب مال، ولكنه يريد حرمان بعض الورثة أو كلهم، أو أن يجعل ماله من بعده لشخص، أو حيوان، فهل له مطلق التصرف في ذلك.
أما بالنسبة للإسلام: فإنه يمنعه من هذا التصرف الظالم؛ إذ لا بُدَّ من القسمة العادلة بين الورثة، حتى ولو أراد المالك أن يخصّ أحدًا منهم بزيادة فإنها لا تصح، والوارثون في الإسلام طبقات، الأقرب فالأقرب إلى الميت في تنظيم بديع بينته كتب الفقه الإسلامي أتَمَّ بيان، وأما في المذاهب الوضعية القائمة على الأفكار البشرية القاصرة، فإن نظام التوريث قائم على تناقضات وغبن، فلو أراد صاحب المال أن يوصي بالمال كله لكلبه لصحَّ ذلك كما نسمعه من أخبارهم وقد سمعناه، وقرأنا أن بعضهم يوصي بفندق لكلبه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1.
1 سورة المائدة، الآية:50.
فالإسلام ينظر إلى تحقيق عدة مصالح في مال المتوفى؛ فمن ناحية لا يريد أن ينتقل المال كله وكما هو إلى فرد بعينه دون الآخرين، ومن ناحية أخرى أن يستفيد أكثر من واحد منه، ممن يمتُّ إلى الميت بسبب من أسباب القرابة، ممن يحق له الإرث شرعًا، ممن ذكرتهم الشريعة الإسلامية، كما قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} 1، وقد توعَّد الله بالعذاب كل من يتعدَّى الحدود التي فرضها في الميراث، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2.
1 سورة النساء، الآيتان: 11، 12.
2 سورة النساء، الآية:14.
وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية وفي كلام علماء الفقه الإسلامي بيان كل ما يتعلّق بنظام الإرث الشامل لكل مَنْ يستحقه من ذكور أو إناث صغارًا كانوا أم كبارًا، مع الالتفات إلى الميت صاحب المال نفسه إذا جعل له حدًّا في التصرف بماله، وفي ما يوصي به إن أراد الوصية، خلافًا لأنظمة الجاهلية التي لا تعير هذا الجانب أيّ اهتمام؛ كالاشتراكية التي تعترف بحق الإرث مهما كان، أو الرأسمالية التي لا تعترف به بأي وجه من وجوه الإرث من مال الغير1، الأولى نتيجة لمصادرتها جميع حقوق الناس، والثانية لشرهها في حب المال والتنافس في جمعه، وكما هو حاصل مع الأسف في بعض المجتمعات الإسلامية الجاهلة التي لا ترى إرث المرأة من مال أبيها، وهو ظلم فاحش بسبب الأنفة والعصبية الجاهلية. والغرض من ذكر الإرث هنا هو بيان أن الميراث هو مصدر كأحد المصادر التي تمثّل جانبًا في سد الحاجة كغيره من سائر الموراد التي أتاحها الإسلام لأتباعه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لئن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس"2.
المسألة التاسعة: الوصية
وكذا مشروعية الوصية من المال الثلث فأقل لتوزيعها في جهات خيرية من أقرباء أو غيرهم، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
1 إن بعض المجتمعات عندهم عرف وهو إرث الولد الأكبر لجميع التركه دون غيره من أخواته وأخواته، انظر النظام الاقتصادي في الإسلام ص115.
2 تقدم تخريجه.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 1، وهذه الوصية تكون لغير الوراثين كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث" 2، إذ الغرض منها هو تعميم المال على أكبر قدر ممكن من الناس، حتى وإن بعدوا عن نسب الميت، وكانت هذه الوصية لغير الوارث الحقيقي معمولًا بها وواجبة التنفيذ، وقد نسخ وجوبها فهي مستحبَّة، وفيها إيصال خير الشخص المتوفى إلى من لا يرثه شرعًا بعد وفاته من أقربائه أو غيرهم فيدعون له، ويذكرونه بالثناء والترحم، ويكون قدوة في هذا العمل الخيري ومشجعًا لغيره عليه، فهذه الوصية خير نَدَبَ إليها الإسلام ورغَّب فيها، بخلاف ما لو وصَّى بمحرَّم، فإن وصيته باطلة وعليه الإثم كمن يوصي بإقامة حفلات الطرب، وبناء مساكن الدعارة، ونحو ذلك من المحرَّمات، وكذلك الوصايا الخرافية، كمن يوصي بماله أن يبنى منه قبَّة على قبره، أو على قبر غيره، أو ينحت له تمثالًا، أو توقد على قبره الشموع، أو الوصية للقراء على قبره بمال عند كل ختم للقرآن، أو الوصية بماله لحيّان من الحيوانات، وغير ذلك، التي لا تعود بالنفع على المحتاجين أو أجر لصاحبها فيها.
وأمر جل وعلا بالتعاون والتكافل على وجوه الخير، وحرَّم التعاون على الإثم والعدوان، كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3.
1 سورة البقرة، الآية:180.
2 البخاري "باب لا وصية لوراث" ج3، ص1008.
3 سورة المائدة، الآية:2.
المسألة العاشرة: الحث على الإيثار
ومن التكافل في الإسلام أيضًا الحث على خلق الإيثار الذي حثَّ عليه الله تعالى في كتابه الكريم، ومدح القائمين به، كما قال تعالى في مدح الأنصار:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار والمهاجرون أروع الأمثال التي لا نظير لها في التاريخ البشري من الإيثار في ساعة العسرة وعند الشدائد2، والبدء بسد حاجة المحتاج، وتقديمه على النفس، وقد سطروا أروع الأمثلة في الإيثار، ويكيفيهم مدح رب العالمين لهم.
المسألة الحادية عشرة: الهدايا والهبات
ومن التكافل أيضًا الهديا والهبات، وهي من الأخلاق الرفيعة التي دعا إليها الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا"3.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه، ويقبل الهدية، ويرفض الصدقة، وللهدايا
1 سورة الحشر الآية: 9.
2 اقرأ ما نقله الشيخ عبد الله ناصح في كتابه "التكافل الاجتماعي في الإسلام" الفصل السادس بعنوان "أثر التربية الوجدانية في تحقيق التكافل" ص10-107.
3 الأدب المفرد ج1، ص208، ومسند أبو يعلى ج11، ص9.
والهبات فوائد اجتماعية وسلوكية عديدة، وحرَّم الإسلام الرجوع في الهدية، واعتبر العائد فيها كالكلب الذي يقي ثم يأكل قيئه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" 1، تنفيرًا عن الرجوع فيهما؛ لأنَّ الرجوع فيهما يبعث على الحقد والعداوة الشديدة؛ ولأن المقصود بها التكرمة ورفع الحاجة عن مَنْ كان محتاجًا إليهما، فالعودة فيهما إخلال بهذا المسلك، وعدم التكافل المطلوب، إضافة إلى ما يجده المهديّ إليه من إنكسار قلبه عند رد الهدية، والوحشة التي تحصل عنده من المهدي، وفي الغالب أن الهدايا قد تكون لأشخاص لا تربطهم بالمهدي إلّا الصداقة، ولا يكونون مِمَّن تلزمه نفقته والقيام بمصالحه، والحديث يذم كل من عاد في هبته لأي شخص تُقَدَّم له الهدية، سواء أكان قريبًا أو بعيدًا، والله أعلم. ولا يجوز أن تشتمل الهبة على مضرّة الآخرين أو مُحَرَّم وكذلك الهدية.
المسألة الثانية عشرة: التكافل الأسري
ومن الإرشادات الاقتصادية في الإسلام التكافل الأسري، فمن الأمور المعلومة أن المذاهب الوضعية لا تنظر إلى تلاحم الأسر خصوصًا الشيوعية، أما الإسلام فإنه يحرص أشد الحرص على تماسك الأسرة فيما بينهم ، وإشاعة العطف بين كل أفرادها، ويدعوهم إلى أن يكمل بعضهم بعضًا بأن يعطف الغني على الفقير، وأن لا ينسوا الفضل بينهم، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يكمل بعضه بعضًا ويشده، وقد رغَّب في الصدقة على المحتاج
1 رواه البخاري ج2، ص925، ومسلم ج3، ص1241.
القريب، وأن أهل البيت أولى بالصدقة، وخصوصًا ما يتعلق منها بصلة الرحم، فحقها أوجب وآكد، وقد جاء في كتاب الله تعالى في بيان هذا الجانب قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 1، وقال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} 2، ووردت في السنة النبوية نصوص كثيرة في الحثّ على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" 3، وقد أكد الإسلام حقَّ الرحم وشدَّد عليه، وأن حقَّ الرحم يصل إلى حد أن الله يصل من يصلها، ويقطع من يقطعه، فقد ورد في الحديث:"إنها تعلقت بساق العرش وقالت يا رب: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال لها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: رضيت، قال: فذلك لك" 4، ولا شكَّ أن أي مجتمع يحقق هذا التكافل سيكون مجتمعًا سعيدًا لا يشعر فيه الفقير بذل الحاجة ولا الغني بمنَّة العطاء.
هذا وللتكافل الأسري طرق كثيرة حسب ما يتيسر لهم، فإمّا أن يكونوا
1 سورة النساء، الآية:36.
2 سورة الإسراء، الآية:36.
3 أخرجه البخاري ج5، ص2273.
4 صحيح ابن حبان ج2، ص185، والأدب المفرد ج1، ص36.
شركة فيما بينهم، في شكل تجارة أو وقف أو مال مدَّخر يدفع كل فرد منهم قسطًا حسب طاقته، ثم ينمَّى هذا المال قليلًا قليلًا إلى أن يصبح مبلغًا يستطعيون من خلاله مساعدة بعضهم بعضًا، كل بقدر حاجته الضرورية، وتكون تلك المبالغ بيد أمين منهم يختارونه كلهم، له خبرة بالتصرّف في تنمية المال من وجوهه الشرعية، وعليهم ان يتقبَّلوا هذا المسلك ولا يسأمون، وأن يتذكَّروا ما يأتي به من فوائد فيما بعد من تأليف قلوبهم وشدة تمساكهم ورفع الحاجة عنهم مهما كان ضئيلًا في البداية، وهذا وجه جيد من وجوه حلّ المعضلات الاقتصادية لو طبِّق بصبر وأناة.
ومن التكافل الأسري أن تجمع الأسرة من كل فرد منهم مبلغًا من المال، ثم يعطون المحتاج منهم إمّا صدقة أو دينًا، وهذا بدوره عليه أن يحسن التصرّف في ذلك المال فلا يضيعه فيما لا يعود عليه بالفائدة، فيصبح عالة على أسرته وغيرهم، أو يعطون الفقير منهم أمتعة يبيعها إمَّا بأخذه أجرته منها، وإما بغير ذلك من طرق الكسب.
وأبرز مظاهر التكافل الأسري كفالة الزوج لأسرته وزوجته أو زوجاته وأولاده ذكورًا أم إناثًا، فللزوجات النفقة ما داموا عاجزين عن التكسُّب، وما داموا تحت رعاية أبيهم، ونفقة الرجل على أسرته تكون حسب مقدرته، فلا يجوز الإسراف ولا التقتير، قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فأهلك
…
" الحديث2.
1 سورة النساء الآية: 34.
2 رواه مسلم ج2، ص692.
وهذا التكافل لا شَكَّ أن فيه إسهامًا لدفع حاجة المجتمع؛ إذ لو قام كل شخص بكفالة أسرته خير قيام لقلَّ عدد المعوزين والعاطلين، ولو تعدَّى الحال إلى كفالة كل قريب موسِر لأقربائه المحتاجين من غير الورثة؛ لكان في هذا العمل إسهامًا مباركًا في سعادة المجتمع ودفع الفاقة عنهم. وفي كتب الفقه إيضاحات كافية لقضية النفقات، فلترجع إليها إن أحببت التفاصيل، وقد قيل في الأمثال:"لو كنس كل شخص أمام باب داره لأصبح الشارع كله نظيفًا".
المسألة الثالثة عشرة: ومنها موارد أخرى متنوعة
وهذه الموارد قد تبدو قليلة ولكنها تشكل بمجموعها روافد أخرى في سد حاجة الفقراء، اهتمَّ الإسلام ببيانها:
1-
مثل زكاة الفطر بعد نهاية صوم شهر رمضان.
2-
توزيع لحوم الأضاحي على المحتاجين.
3-
توزيع ما لا يحتاجه الموسرون من الأمتعة التي يستغنون عنها، وهي في نفس الوقت تصلح للمحتاجين؛ من ثياب وآنية وغيرها من الأمتعة المختلفة.
4-
ومنها إطعام مسكين في كل يوم في حق الرجل أو المرأة الكبيرين، أو المريض الذي لا يرجى برؤه إذا عجزوا عن الصوم في نهار مضان، ويلحق بهم أيضًا الحامل والمرضع إذا خافاتا على نفسيهما أو ولديهما كما يرى بعض الفقهاء.
5-
ومنها توزيع لحوم الهدي من قِبَلِ الحاج أو المعتمر، إبلًا كانت أو بقرًا أو غنمًا، عندما يرتكب محظورًا من محضورات الإحرام، أو في حال تمتعه في الحج أوقرانه، فإنه يقدّم هديًا بالغ الكعبة1.
6-
ومنها ما رغَّب فيه الشارع وأوكله إلى ضمير الشخص من التصدّق على المحتاجين الذين يحضرون وقت حصاد الثمار تطييبًا لأنفسهم وسدًّا لحاجتهم، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 2.
7-
ومنها سائر الكفَّارات التي جعلها الله من ناحية عقوبة للمخالف وتطهيرًا له، ومن ناحية أخرى فائدة للمحتاجين وإسهامًا في نشر الحياة السعيدة بينهم، وتشمل تلك الكفارات:
كفارة الإيمان، وكفارة الإفطار في نهار شهر رمضان عامًدا، وكفارة الظهار من الزوجة، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة قتل المحرم الصيد في حال إحرامه عمدًا.
1 لقد كانت لحوم الأضاحي في الحج قبل فترة من السنوات تذهب سدًى غير ما يؤكل منها، وهو قليل بالنسبة لكثرة ما يضحى به، ثم فطن المسئولون إلى الاستفادة منه، فأقيمت له المصانع لتعليبه وتوزيعه على الفقراء في مختلف بلدان المسلمين، وهو أمر طيب يشكرون عليه.
2 سورة الأنعام الآية: 141.
1-
أما كفارة الأيمان:
فقد قدَّر الله فيها إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يستطع الحالف ما تقدَّم فإن عليه صيام ثلاثة أيام، على أنَّ المؤمن مطالب بحفظ لسانه من الحلف، وورد النهي الشديد عن الحلف الذي قد يؤدي إلى الحنث، فيلحقه الإثم، قال تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1، وقال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} 2.
وورد في السنة النبوية الوعيد الشديد لمن يحلف على سلعته ليبيعها، وفي اليمين الغموس، وكثرة الحلف يؤدي إلى الاستهانة بحق الله والتعوّد على الكذب، وفي مقدار كفارة اليمين يقول الله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3.
ويُخَيِّر من حنث في يمينه بين هذه الثلاثة من الأمور السابقة، فإن لم يتمكَّن ينتقل الحكم إلى الصوم لتطهير نفسه، وفي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فائدة للمحتاجين، وإسهام في إشاعة التكافل وسد الحاجات، وفي
1 سورة المائدة، الآية:89.
2 سورة القلم، الآية:10.
3 سورة المائدة، الآية:89.
تحرير الرقبة دعوة إلى الترغيب في إشاعة الحرية التي تؤهل الشخص لتحمّل كافّة أعباء الحياة، والإسهام في بناء التكافل العام بين كل أفراد المسلمين في مستوى واحد، وفي الترغيب أو فرض تحرير الرقبة في بعض الأمور دليل صريح في أن الإسلام قد نادى بالغاء الرق قبل أن يظهر المتشدقون من دعاة الحرية العصرية، مع أن حال الرقيق في الإسلام يختلف كما بين المشرق والمغرب عن حاله في العالم الجاهلي، وقد عرفت سابقًا ما كان معمولًا به في أوربا وغيرها زمن الإقطاع، وسيطرة البابوات في الوقت الذي كان الإسلام يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كلكم لآدم وآدم من تراب" 4
…
إلى آخر النصوص الكثيرة.
2-
كفَّارة الإفطار:
وأما كفَّارة الإفطار في شهر رمضان نهارًا، وبالجماع عمدًا، ففيها الإطعام لستين مسكينًا لمن لم يجد عتق رقبة، أولم يستطع صوم شهرين متتابعين، ولا شكَّ أن إطعام ستين مسكينًا فيها مواساة وتكافل بين أفراد
1 سورة الحجرات، الآية:10.
2 سورة الحجرات، الآية:13.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند ج5، ص411.
4 أخرجه أبو داود ج4، ص331.
المجتمع المسلم، وفيها نفع للفقراء والمحتاجين، فلو افترضنا أن هذه الكفّارة وجبت على عشرة من الناس لكان مجموعها إطعام ستمائة شخص، وهو أمر ظاهر في التكافل الاجتماعي، ومعلوم أن كفارة الجماع في نهار رمضان ليست على التخيير، وإنما هي على الترتيب: عتق رقبة، فصوم، فإطعام، وقد ورد الحديث ببيان ذلك كله "فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم:"وما أهلكك"؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال صلى الله عليه وسلم:"هل تجد ما تعتق رقبة"؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ ، قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم:"فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا"؟ قال: لا، قال: ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، قال:"تصدَّق بهذا"، قال: فهل على أفقر منَّا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال صلى الله عليه وسلم:"اذهب فأطمعه أهلك" 1، وقد اشتملت عقوبة هذه الفعلة على نفع الغير ونفع النفس أيضًا.
3-
كفَّارة الظهار:
وأمَّا كفارة الظهار، وهي قول الزوج لزوجته أنها عليه كظهر أمه -أي: في التحريم- كنايةً عن تحريم ما أحلَّه الله تعالى، ففيها إطعام ستين مسكينًا لمن لم يستطيع تحرير رقبة مؤمنة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين، وكما قدمنا في كفارة الجماع في نهار رمضان يقال مثله في كفارة هذه الخطيئة.
1 أخرجه مسلم ج2، ص781.
4-
وأما كفَّارة القتل الخطأ:
ففيه الدية؛ حيث تسلَّم إلى أهل الميت إذا طلبوها فتصبح ملكًا لهم يتصرَّفون فيها كما يشاءون وينتفعون بها، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 2.
5-
وأمَّا كفَّارة قتل المحرم للصيد عمدًا:
فهو بالإضافة إلى أنه نوع من إظهار الأمن العام لكل المخلوقات من قبل المحرم، وهو أيضًا نوع من الإحسان إلى الفقراء وسدًّا لحاجتهم بما يصلهم من لحوم الكفارات، أو من الإطعام لهم، وهذا إسهام في سد حاجة
1 سورة المجادلة، الآية: 3، 4.
2 سورة النساء الآية: 92.
الفقراء يصلهم من مال الأغنياء الذين قد لا يتأثَّرون بما يقدمونه، بينما هو في نفس الوقت فيه نفع لأصحاب الحاجات، ومن هنا فإنه لا يجوز للشخص أن يستهين ولو بالشيء القليل من الطعام أو غيره، فإنَّ هذا القليل قد يكون كثيرًا في نظر آخر محتاج.
6-
النذور:
ومن الوسائل الأخرى التي تعزّز التكافل الاجتماعي بين أفراد المسلمين النذور التي يجب الوفاء بها بعد إيجابها من ذبائح أو أطعمة أو كسوة أو سكن، أو غير ذلك من الوجوه التي تعود بالنفع على المحتاجين، وتسد جانبًا من حوائجهم، قال تعالى في مدح الذين يوفون بنذرهم:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 1.
ولا يرد على هذا أن النذر غير مرغب فيه أنه إنما يستخرج به من البخيل؛ إذ أنه بعد إيجاب الشخص على نفسه ذلك يجب الوفاء به حتى وإن كان من الأمور غير المرغب فيها في الأصل، ولم يمدح الله الموفين به إلّا وفيه أجر وثواب، وأنه يجب الوفاء به إذا كان نذر طاعة مشروعة.
7-
إكرام الضيف:
ومنها ما شرعه الإسلام من وجوب إكرام الضيف ودفع الحاجة عنه حينما يكون في سفر باستضافته عند أي شخص يأوي إليه في سفره
1 سورة الإنسان، الآية:7.
حتى يصل إلى بيته وأهله، ولهذا لو طبَّق الناس هذا المنهج الإلهي لأَمِنَ المسافر الحاجة والعوز مهما امتدَّ به السفر، وهذ بخلاف ما في الحضارات الجاهلية التي لا تعرف للضيافة معنى، خصوصًا في المجتمعات الرأسمالية التي تجعل الولد أو الوالد يدفع كلٌّ منهما للآخر ما أكله من مطعمه، كما يقال، وخصوصًا بعد أن كثرت المطاعم والمقاهي والفنادق التي هي عدوة الضيافة حسب مفاهيم الضيافة في القديم.
المسألة الرابعة عشرة: التكافل عن طريقة العارية
ومنها التكافل بين المسلمين عن طريق العارية تسهيلًا لانتفاع المحتاج إليها وسدًّا لحاجته، ثم يردها كما هي لصاحبها، فيحصل الانتفاع بالشيء الواحد لأكثر من جهة، وهو خلق حميد حثَّ عليه الإسلام ورغَّب فيه وذمَّ الذين يمنعون الماعون في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} 1.
المسألة الخامسة عشرة: رعاية العاجزين والضعفاء
ومنها كذلك رعاية الإسلام للعاجزين والضعفاء وحل مشكلاتهم الاقتصادية، فلقد أولت التعاليم الإسلامية عناية واهتمامًا كبيرًا بالعاجزين والضعفاء وإصلاح شئونهم إلى أن يقوى أمرهم، وجعل مسئولية القيام على مصالحهم في أعناق المجتمع كله حكامًا ومحكومين، كلٌّ حسب وضعه؛ إذ لو
1 سورة الماعون الآيات: 4-7.
قام هؤلاء كلهم بواجبهم لما بقيت أي مشكلة اقتصادية تهدد حياة البؤساء بهذه الحدة، وهؤلاء الفئات من المجتمع هم:
1-
الأطفال عمومًا.
2-
الأيتام.
3-
اللقطاء.
4-
أصحاب العاهات.
5-
الشواذ والمنحرفين.
6-
المطلقات والأرامل.
7-
الشيوخ والعجزة.
8-
المنكوبين والمكروبين1.
9-
الغارين وأصحاب الديون المعسرين.
1-
أما الأطفال فإن رعايتهم والقيام على مصالحهم هي قبل كل شيء تقع على الآباء والأمهات، فقد أوجب الإسلام عليهم تربية أبنائهم تربية بدنية ورحية، وملاحظة نموهم وسلوكهم، وتقييم كل تصرفاتهم، والعدل بينهم، وتعليمهم العلم النافع، وتوجييهم إلى الجدّ في العمل، والرغبة في خدمة أنفسهم ومجتمعاتهم، وأوجب على الآباء النفقة عليهم ما داموا في حاجة آبائهم، وأوجب على أمهاتهم إرضاعهم ورعايتهم إلى أن يكتفوا بأنفسهم، وهذا في حال حياة الآباء.
1 انظر التكافل الاجتماعي في الإسلام ص59.
2-
وأما في حال وفاة الآباء وأبناؤهم لا يزالون أطفالًا صغارًا، وهم من يطلق عليهم "الأيتام"، فقد أوجب الإسلام على الناظر لهم كامل الرعاية والعناية بهم، ورغَّب في الأجر على القيام بتربيتهم إلى أن يتجاوزوا سن الطفولة، قال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} 1.
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} 2.
وإذا كان لليتيم مال فقد أوجب الإسلام الحفاظ عليه وعدم التصرف فيه إلّا بالتي هي أحسن؛ لتنميته والحفاظ عليه سليمًا مصونًا حتى يكبر، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 2.
فإذا تصرَّف فيه الناظر بالغشِّ، فإن الله تعالى قد توعَّده بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 4.
فإذا أحسَّ الناظر أن اليتيم أصبح حَسَنَ التصرُّف في ماله ردّه عليه امتثالًا لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا
1 سورة الضحى، الآية:9.
2 سورة الماعون، الآيتان: 1، 2.
3 سورة الأنعام، الآية:152.
4 سورة النساء، الآية:10.
أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} 1.
وفي السنة النبوية حثٌّ شديد وتأكيد لحق اليتيم عَبَّرَ عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بإصعبيه السبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا"2، ولا شَكَّ أن هذا فضل عظيم وأجر جزيل لمن احتسب كفالة الأيتام.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلّا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة، ومن أحسن إلى يتيمية أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" وفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى" 3.
3-
وإذا كان الطفل لا يعرف له أب ولا أم وهو ما يسمَّى باللقيط، فقد اهتمَّ به الإسلام وأوجب له من الحقوق مثل غيره من الناس؛ إذ لا ذنب له فيما فعله أبوه وأمه، والله تعالى يقول:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 4، وكفالة اللقيط وتربيته الروحية والبدنية تقع على مسئولية الدولة ابتداءً، فإن الحاكم وليُّ من لا وليَّ له، ولكن إذا تبرَّع شخص بكفالته وتربيته فله ذلك، ويعتبر فعله صدقة يثاب عليها، وموردًا اقتصاديًّا خيرًا، واللقيط على العموم يعتبره الإسلام عضوًا عاملًا، وله أن يقوم بكل ما يقوم
1 سورة النساء الآية 60.
2 البخاري 5/ 2032.
3 أخرجه أحمد ج5، ص250 في مسنده.
4 سورة الإسراء، الآية:15.
به غيره من الأعمال استصلاحًا له، ولا يبيح الإسلام تغييره بنسبه أو ازدراءه لذلك تطييبًا لخاطره، وعلى رجاء أن ينفع الله به. هذا بالإضافة إلى وجوب قيام الدول بإتاحة التعليم لهم والمساعدات الأخرى حين يتعيِّن عليهم تقديمها.
4-
أما رعاية أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الله بعاهات قد تضعفهم عن مواصلة أعباء الحياة وخض معتركها؛ كأن يكون أحدهم أعمى أو أصمّ أو أبكم أو إصابته ضعف الشيخوخة، أو كان به اختلال عقلي، أو غير ذلك من الأمراض المزمنة التي لا يستطيع الشخص معها السعي والكسب، سواء أكانت عاهات جسدية أو عقلية، فهؤلاء تقع مسئوليتهم على ذويهم أولًا، ثم على الدولة، ثم على المجعمع كله؛ حيث يجب أن يشعروهم بالرحمة والعطف، والعمل على تشغيلهم ما أمكن في حدود استطاعتهم، كما يجب أن تتولّى الدولة القسط الأكبر من العناية بهم وتعليمهم، وفتح الباب لهم لتدريبهم في الأعمال المهنية التي يستطيعونها، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام تحت دعوته إلى التراحم وأنواع البر.
5-
أما رعاية المنحرفين والشواذ: فبغضِّ النظر عن أسباب ظاهرة الانحراف والشذوذ، فإن المسئولية عن تربيتهم وإصلاحهم تقع أولًا على أولياء أمورهم، وثانيًا على الدولة، ثم على المجتمع كله، وتشترك مسئولية أولياء الأمور والدولة تجاه هؤلاء في حمايتهم من وسائل الشذوذ، فيمنعونهم مثلًا من مشاهدة الوسائل المشجعة على الفسق؛ كالأفلام الخليعة، والنظر في المجلات الماجنة، وسماع الأغاني الفاجرة، واقتناء الآلات التي تعمل على هدم الأخلاق وتسهيل الجريمة، وما أحرى الجميع بمواجهة الفساد المنتشر
في عصرنا في وسائل الإعلام بشتَّى صنوفه -إلّا من رحم الله، فقد جدَّ أعداء الإسلام في تمييع شباب المسلمين وإخراجهم عن دينهم، وجعلهم أداءة طائعة لمطامعهم، يريدونهم أن لا يصلحوا لجهاد ولا يتحركوا لإصلاح، ويجدر بالأب إذا لم يستطيع كبح جماح ولده بشتَّى الوسائل أن يستعين بعد الله بالدولة، ويترك العاطفة جانبًا فلربما يجد على أيديهم خلاص ابنه، خصوصًا الدولة التي يمنّ الله عليها بحكَّام مسلمين مخلصين، فإن الولد يحسّ حين تتضافر جهود الأب والدولة على ردعه بأنه شاذٌّ عن الطريق الصحيح، وإلّا لما وقف كل المجتمع في وجهه بما فيهم مصدر الرحمة عليه وهو الأب، وتضاف إلى مسئولية الدولة عن هذا النشئ أيضًا فتح المجالات التي تستوعبهم، ويشغلون فيها بمختلف الأنشطة المفيدة، بل وفتح دور للإصلاح والتهذيب على حد قول الشاعر:
قسا ليزدجروا ومن يك حازمًا
…
فليقس أحيانًا على مَنْ يرحم
وقد سمع عمر رضي الله عنه في إحدى عسَّاته بالليل امرأة من داخل بيتها تتغنَّى بأبيات شعرية تذكر فيها أنه لولا خوف الله لسهل عليها مقارفة جريمة الزنا، فسأل عن حالها فتبيِّنَ أن زوجها ضمن المجاهدين، فأمر بردّه، وحدَّد بعد ذلك وقتًا لغياب الزوج عن زوجته، وقد سمع امرأة تتغزَّل في رجل فأمر بإحضاره فرآه جميلًا وسيمًا، فأمر بحلق رأسه فزاده ذلك جمالًا، فأمره بأن يذهب إلى مكان في العراق ليسكن فيه غيرة منه على حُرَمِ المسلمين وقطعًا لمصادر الفتنة.
وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم راكبًا وخلفه ابن عمه الفضل وكان جميلًا، فوقفت
امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الحج، وكانت تنظر إلى الفضل وهو ينظر إليها، فحوَّل الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه عنها سدًّا للفتنة، والأمثلة على هذا كثيرة في التاريخ الإسلامي، وهكذا ينبغي عدم استسهال ما ينتج الشر مهما كان صغيرًا، فقد قيل:"ومعظم النار من مستصغر الشرر"، فوجب إيقاف الشر قبل استفحاله وفوات الأوان، والإسلام دائمًا يحثّ على سد الذرائع واستشعار المسؤولية "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1، وهي قاعدة دينية اقتصادية من أنجح الوسائل.
6-
وأمَّا رعاية المطلقات والأرامل، فإن الإسلام لم يترك أمرهم دون بيان، ولم يترك أمرهم لرحمة أحد وجفائه، فقد أوجب للمطلقة الرجعية النفقة والسكنى إلى نهاية عدتها، ولها النفقة حتى تضع حملها -إن كانت حاملًا، ولها النفقة بعد وضعها حملها إذا كان ترضع ابنها كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 2، وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
1 البخاري 2/ 901، ومسلم 3/ 1459.
2 سورة الطلاق الآية: 1.
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} 1، وأما الأرملة وكذا المطلقة التي انتهت عدتها، فإن كانتا في حاجة فإن نفقتهما على أقاربهما، فإن لم يكن لهما أقارب انتقلت نفقتهما على الدولة التي يجب أن ترعى مثل هؤلاء الضعفاء والمساكين؛ فتفرض للأرملة والبائنة ما يسد حاجتهما إلى أن يتغير حالهما بالزواج أو الموت أو الغنى، وحينما كان المسلمون يطبقون مثل هذه الأحكام، وحينما كانوا يتسارعون إلى الإنفاق على الضعفاء، كانوا على أحسن حال وأكرمه، كانوا خير أمة أخرجت للناس.
7-
وأمَّا رعاية كبار السن والعاجزين عن العمل والكسب فإن الإسلام يجعل مسئولية إعاشتهم على أقاربهم، ثم على الدولة تنفق عليهم من بيت المال، تقدمه لهم في أوقات معلومة، كما كان الحال في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعصر الصحابة -رضوان الله عليهم، كما يجب على المجتمع كله أن لا ينسى الدعوات في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالتصدق والإنفاق على الضعفاء ابتغاء الأجر والثواب، وإقامة المجتمع الإسلامي على أسمى السلوك الطيب؛ بحيث لا يشكل هؤلاء مشكلة اقتصادية يواجهونها دون سند من أحد.
8-
ومثل هؤلاء في الرعاية المنكوبين والمكروبين من أصحاب الحاجة، وهؤلاء لم يتركهم الإسلام وشأنهم يواجهون المعضلات دون أن يلتفت لهم أحد -كما هو الحال في الدول الكافرة، بل إن الإسلام اهتمَّ بشئونهم
1 سورة الطلاق، الآية:6.
ورغَّب في خدمتهم وتسهيل أمورهم إلى حين انفراج الحال عنهم، ومن كان معسرًا وعليه دين، فإن الإسلام يوجب على صاحب الدَّيْن أن ينظره إلى حين انفراج حاله، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، ومن كان في كربة فقد رغَّب الإسلام في الوقوف إلى جانبه ومساندته، بل ولو أدَّى ذلك إلى إيثاره على النفس، كما قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.
وفي السُّنَّة النبوية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّجَ عن مسلم كربة من كُرَبِ الدنيا فرَّج الله بها عنه كربة من كُرَبِ يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"3.
ومساعدة هؤلاء لا تقف فقط عند المشكلة الاقتصادية، بل تتعدَّاها إلى أمور أخرى كثيرة؛ كالمشورة لهم والتوجُّع لحالهم ومواساتهم بالنصائح، وإدخال السرور عليهم بأيّ فعل أو قول فيه خير، وهذا جزء من التكافل الاجتماعي بين المسلمين الذي رغَّب فيه الإسلام، فإن تفريج الكربات عن المنكوب لها طرق كثيرة، وقد جعل الإسلام الكلمة الطيبة صدقة كما تقدَّم بيانه.
1 سورة البقرة، الآية:280.
2 سورة الحشر، الآية:9.
3 رواه البخاري 2/ 862، ومسلم 4/ 1994.
- تعقيب:
فأي نظام من النظم البشرية الوضعية يصل إلى هذا الرقي والتلاحم بين أفراده غير الإسلام، هل في الاشتراكية الظالمة الحاقدة، أم في الرأسمالية الجشعة المستكبرة، أم الوثنيات البهيمية، كلَّا إنه في الإسلام المشرق الذي جاء وصف أتباعه بأنهم كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
المسالة الرابعة عشرة: تحريم التعامل بالمال في بعض الأمور
ومن تنظيم الإسلام للأمور المالية أنَّه لم يجعل لصاحب المال الحبل على الغارب، بل هذَّب التصرفات فيه، وقد لا يفطن البعض إلى أن هذا التحريم هو مورد من الموارد التي أرادها الإسلام، ومن ذلك:
1-
أنه حرَّم الربا الذي هو التسليف بزيادة على رأس المال، وقد حرمه الله لكي لا تذهب أموال قوم إلى آخرين دون مقابل، فيزداد به الفقراء فقرًا والأغنياء ثراءً على حساب الفقراء، وما ينشأ عن ذلك من إثارة للأحقاد والضغائن بين فئات المجتمع، وانتزاع الرحمة، وقتل كل مشاعر الفضيلة والكرم والأخلاق النبيلة، والقروض الربوية التي تسمَّى -كذبا وزورًا- فوائد، إن هي إلّا سحت واستحلال للربا وأكل أموال الناس بالباطل، فإذا
اقترض الفقير بسبب حاجته وفقره مبلغًا من المال على افتراض أنه مليون ريال، ثم يعيده بزادة 2%، فإذا عجز عن السداد في الوقت المحدَّد يضاف إليه أيضًا نسبة أخرى لنفرض أنها 3%، فإذا عجز أيضًا تضاف نسبة أخرى، فمتى يسدد المحتاج المبلغ الأساسي والمبالغ المضافة إليه، ومنطق هذا الصنيع يقول: كلما افتقر الشخص فإنه يزاد عليه فقرًا، هكذا شريعة الربا.
ولهذا كان الربا بمثابة إعلان الحرب على جميع الأمة، وأن الله تعالى سيحارب أصحاب الربا بما يشاء سبحانه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 1.
وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 2.
وقد لعن الرسول -صلى الله عليه سلم- آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمرابي يفقد كل معاني النخوة والشهامة والكرم، ويستمرئ العيش الرغيد والثراء الفاحش من وراء كَدِّ الناس له، فيميل إلى الإغراق في الكسل وعدم حب العمل والتفنُّن في اصطياد من ألجأهم الحال إلى الاستعانة به، فيصبح كما قال الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كربته
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
1 سورة البقرة، الآية:278.
2 سورة البقرة، الآية:275.
كما أنَّ آخذ المال بالربا يصبح هو الآخر في خطر؛ إذ تقوده رغبته في الثراء الذي يتخيله من وراء أخذ المال بالربا والدَّيْن إلى الإفلاس من وراء استثمار ذلك المال إذا لم يوفَّق في تصريفه بطريقة ناجحة، فيتحمَّل بعد ذلك سداد رأس المال وسداد الربا والإفلاس الذي حلَّ به، ولم يقتصر ضرر الربا على شخص أو أسخاص معدودين، بل قد يشمل ضرره المجتمع والدولة بأجمعها، فيبنما هي تستحلي أخذ الأموال بالربا؛ إذ بها تفيق على مبالغ هائلة متراكمة يصعب عليها أن تسددها، فتلجأ بعد ذلك إلى الذل والخضوع للدول الدائنة، أو استجداء مَنْ لا يبالي ولا يرحم، بل وقد تدخل تلك الدولة تحت حكم الدولة المرابية طوعًا أو كرهًا كما فعلت الدول الاستعمارية في أكثر من بلد حين تدخَّلت بحجة حماية رعاياها ومصالحها الاقتصادية، وأخيرًا إلى مشاركة الدولة المدينة في اقتصادها وأخذ الثمرة منه، والغرض هنا هو بيان نظرة الإسلام إلى مصالح البشر من وراء تحريم الربا، وقد استفاض علماء الإسلام في بيان شئون الربا وأضراره، والحكمة من تحريمه، وبيان نتائج التعامل به، وأقسامه المختلفة التي عدَّدها علماء الفقه وبينوا أحكامها على ضوء النصوص من كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بما لا يحتمل المقام تفصيله هنا.
فيجب أن يحذر المسلم الحريص على سلامة دينه ودنياه أن ينساق مع دعاة تحليل ما حرّمه الله من الربا وغيره، أو أن ينظر في شبهاتهم التي هي بمثابة استدراكات على الله عز وجل وإن لم ينطقوا بذلك، فإن الربا حرام تحت أيّ حيلة أو أية تسمية، فقد أخبر الله في كتابه
الكريم أن كبار آكلي الربا زعموا أن البيع مثل الربا لا فرق بينهما في ميزانهم الخاطئ، وهي مغالطة بيَّنَها الله بأنَّ الفرق بينهما أن البيع حلال وأن الربا حرام، ومنهم من يزعم أن الربا لا يصدق على الزيادة الفاحشة التي أخذ فيها المرابي أضعاف ما أقرضه وهي شبهة باطلة، فإن الربا يصدق حتى ولو كان يسيرًا ما دام، وقد أخذ عن طريقه مع أنهم يعلمون أن الربا يضاعف فيه الدين عند عدم السداد، ومن الناس من زعم أن الربا في حال الضرورة جائز بالنسبة للمضطر، بحكم أن الضرورات تبيح المحضورات، وهذا تحايل لاستحلال الربا المحرّم، فالربا طريقة واضحة، والضرورات كذلك لها طرق واضحة وضوابط بخلاف الربا. والحاصل أن المسلم يجب أن يبقى بعيدًا عن أي شبهة توصّله إلى الربا، وأن لا ينخدع بزخارف أقوال المرابين مهما اختلقوا لها من شبهات وحيل كاذبة لاستحلال تعاملهم به.
- تعقيب:
اتضح مما سبق أن الربا محرَّم بجميع أشكاله وتحت أي مسمَّى كان، وأن أضرار الربا ليست قاصرة على من قَبِلَه فقط، وإنما تتعدَّى أضراره إلى كل طبقات المجتمع بما فيهم المرابي نفسه؛ من حيث سخط الله على صاحبه، ووكذا نظرة الناس إليه، ونظرته هو نفسه إلى العمل والجد، بالإضافة إلى ظهور أضرار اقتصادية عامَّة، وأضرار أخلاقية، وأضرار اجتماعية؛ حيث ينشأ عن ذلك استمرار الغني في غناه والفقير في فقره، وسوء توزيع وتداول المال بين أفراد المجتمع، فتزداد البطالة، ويظهر الخلل العام في كل أفراد
المجتمع، بالإضافة إلى ما يحصل بينهم من العداة والشحناء، وهذه العداوة والخصومات والأحقاد يؤججها ما يشعر به الفقير المحتاج تجاه الغني المرابي المستبد، وعدم شعور الفقراء بأي عطف أو إحسان من جانب أصحاب الأموال المرابين، بينما يحسّ الأغنياء بأن الفقراء يحسدونهم ويريدون التنصل مما عليهم من ديون الأغنياء؛ فتفسد الضمائر، وتنتكس الأخلاق، وقد عرف اليهود هذا الجانب فاهتمّوا بجمع الأموال وإقراضها الأميين أو الجوييم -كما يسمونهم، فيضمنون سلب أموالهم، وإضعاف اقتصادهم، وهدم أخلاقهم، وهو ضمن وسيلة لافساد المجتمعات وتمزيق وحدة قلوبهم.
2-
تحريم الاحتكار:
ومن وسائل الإسلام لحسن التعامل بالمال وتنظيمه للشئون المالية تحريمه الاحتكار.
ومعناه: أن تنعدم بعض الحاجيات الضرورية أو يرتفع سعر تلك الحاجيات، وتوجد عند شخص أو أشخاص كمية منها يمكن أن تخفف الغلاء أو تسد بعض الضرورات لو بيعت من المتاجين بالثمن الذي تستحقه، فيعمد المحتكرون ويخفونها ولا يبيعون شيئًا منها إلّا عند شدة الحاجة إليها، وبسعر أكثر مما تستحق؛ لإقبال الناس عليها بسبب حاجتهم واضطرارهم إليها، فيستغل أولئك حاجة الناس إليها فيرفعون ثمنها؛ ليكسبوا من ورائها الأموال الكثيرة دون أدنى إحساس بالرحمة أو العطف، هذا الصنيع جائز في الأنظمة الجاهلية والرأسمالية، بل ويفتخر أولئك المحتكرون بأنَّهم أذكياء يحسنون التصرف في تنمية أموالهم، ولكن الإسلام يجعل هذا العمل
خطأ، وصاحبه يرتكب إثمًا مبينًا، ويوجب عليه أن يبيعها بثمن مناسب، وإلّا ألزم رغمًا عنه بذلك دفعًا للضرر عن الجماعة، ولا يعطى منه إلّا قيمة السعر المناسب فقط، قال صلى الله عليه وسلم:"من احتكر فهو خاطئ" 1، أي آثم.
ولو تصوَّر هذا المحتكر أنه ربما يأتي عليه يوم من الأيام يحتاج هو نفسه إلى سلعة يحتكرها صاحبها لوجد في نفسه من الغيظ ما لا يعلمه إلّا الله.
كما ينتج عن الاحتكار أضرار جسمية تضر بمصالح الناس الاقتصادية العامة؛ إذ تختفي السلع والحاجات الفردية للناس، بينما تبقى في أيدي فرد أو أفراد بخصوصهم، فترتفع أسعار تلك الحاجيات فوق ما تستحقه من الأثمان، وبالتالي ينتج تسابق شديد في المنافسة بين المستهلكين لاختزانها وجمعها من الأسواق، فيلاقي الناس من جرَّاء ذلك عنتًا شديدًا، وللمسلمين عظة بالغ فيما يلاقيه الناس في ظل النظم الوضعية الجائزة التي تجيزه، أو على الأقل تتغاضى عنه، خصوصًا الأنظمة الوضعية الرأسمالية، وكذا الأنظمة الوضعية الماركسية التي تحوّل فيها الاحتكار من أفراد الناس في النظام الرأسمالي إلى خصوص أفراد الحكام في النظام الماركسي الخبيث.
والإسلام حينما حرَّم الاحتكار واعتبره خطأ يجب الابتعاد عنه، لم يشمل ذلك التحريم ما يدخره الإنسان في بيته من قوته وقت عياله مهما بلغ إذا لم يكن في ذلك إضرار بالمصالح العامة للناس، أو ما تختزنه الدولة لأوقات الطورئ التي تلمّ بها، بشرط أن لا يكون ذلك فيه إضرار بالمصالح العامة، أو نقص لحقوقهم الضرورية، فقد ورد في من يفعل هذا تهديد
1 رواه مسلم 3/ 1227.
شديد، قال صلى الله عليه وسلم:"من احتكر سلعة يريد أن يتغالى بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئ منه ذمة الله" الحديث1.
3-
تحريم الغش:
فقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا"3.
والإسلام يجعل كسب المال عن طريق الغش محرمًا يجب التنزه عنه وتركه، وذلك لاستمرار صلاح القلوب، وداوم الثقة بين الناس، وحسن معاملة بعضهم لبعض، والحرص على إتقان العمل الطيب، وقد قيل:"من عاش بالحيلة مات بالحيرة"، فإن الغاشَّ في سلعته أو في عمله يجد من وخز الضمير ومن نفور الناس عنه ما يكدِّر عليه صفو حياته، ثم يفضي به الحال إلى الإفلاس، فلا يأتمنه أحد على عمل، ولا يشتري منه أحد سلعته، هذا مع ما ينتظره من العقاب في يوم الدين الذي يرى الإنسان فيه كل ما قدَّم وإن كان مثقال حبة أو مثقال ذرة كما أخبر الله بذلك في كتابه الكريم:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 4.
1 المستدرك ج2/ 14.
2 سورة المطففين، الآيات: 1، 3.
3 أخرجه المسلم 1/ 99.
4 سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.
وقد حرَّم الإسلام كل ما يوصل حيلة الغش وإنجاحها؛ فحرَّم بيع المجهول، والحلف على قيمة السلعة، أو اختلاس شيء منها قد لا يراه المشتري، أو قيام شخص بالزيادة في قيمة سلعة وهو لا يريد شراءها متواطئًا مع البائع لرفع سعرها، وكذا ما يفعله أصحاب المواشي من غش المشتري بأن الشاة أو الناقة أو البقرة تحلب كثيرًا فلا يحلبها مدة من الزمن؛ ليذهب بها إلى السوق ممتلئة الضروع فيظنّ المشتري أنها دائمًا كذلك فيشتريها، فيقع في الغش، ومن الغش أيضًا ما يقع في زمننا الحاضر بالنسبة للسيارات؛ حيث يعمد بعضهم إلى إيقاف عدَّاد السرعة مدَّة من الزمن، فإذا جاء المشتري أصلح العداد وأراه أن السيارة نظيفة لم تسر كثيرًا لقلة استعمالها، وكذا ما يفعل بعض المستأجرين للسيارات؛ حيث يعمدون إلى إيقاف العداد لئلّا يتجاوز الكيلو مترات المتَّفق عليها لزيادة الأجرة، وغير ذلك من صور الغش التي لا يعلمها إلّا الله تعالى، والتي لا يمكن أن تزول إلّا بوجود المراقبة الذاتية لله تعالى، واستعشار الخوف منه عز وجل، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
4-
تحريم المكاسب التي تأتي دون مقابل حلال كالقمار
والقمار يراد به نوع من المراهنة على صفة خاصة قد يكسب فيها الشخص مبالغ ضخمة في لحظات قد يخسرها أو يخسر بعضها في لحظات، وقد لا يكسب شيئًا مطلقًا، بل يخسر ما معه من المال، وهذا القمار نوع من الغش، وهو كسب خبيث يؤدي إلى وقوع العداوة والحرب
في أكثر الأحيان، إضافة إلى ما يحدثه بصاحبه من الاتِّكار في رزقه على تلك الطرق الخطرة، وترك العمل المثمر الذي ينفعه وينفع غيره من أبناء أمته، الذي يضع به لبنة في بناء صرح الإسلام، وقد حرَّمه الله تعالى وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان، وأن الفلاح مرتهن بتركه، والخسران مرتهن بسلوكه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، 2 فالقمار رذيلة من تلك الرذائل التي حرَّمها الله على المؤمنين، وإذا أراد الناس إصلاح أموالهم والرقيّ في عيشتهم، والنزاهة في معاملاتهم فليتركوه، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.
5-
تحريم إنفاق الأموال في غير الطرق المشروعة
وهي كثيرة، وقد تجد الشخص يجود بماله من أجلها بسخاء، ويحجم عن إنفاقه في الطرق المشروعة؛ لأن الطرق غير المشروعة توافق دائمًا هوى النفوس المبتدعة، مثل: إنفاق بعضهم على الاحتفال بالموالد البدعية، وقد عرف القارئ أن الاحتفال بأعياد المولد تكلّفت أموالًا كثيرة، خصوصًا إذا كان الاحتفال بعيد أحد الوجهاء وأصحاب النفوذ، ومن المؤسف أن تجد بعض الدول الفقيرة يأتون في هذه البدع بأنواع البذخ والإسراف بما لا يتفعله أغنى الدول أحيانًا، وكل ذلك على حساب الفقراء وكدحهم في سبيل الظهور بتلك الأبهة الحمقاء.
1 والميسر في الآية الكريمة: أي القمار.
2 سورة المائدة الآية: 90.
ومثل ذلك إنفاق الأموال الكثيرة في إحياء بعض الأمور الجاهلية؛ كالآثار والتماثيل الموجود قديمًا، وكذ إنفاق الأموال بسخاء على بناء المقابر وإيقاد الأنوار عليها مباهاةً وإضلالًا لأصحاب النفوس الضعيفة، ولقد حكي أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى حينما قرب أجله أن يكفَّن في الثوب القديم، وقال:"إن الحيَّ أحوج إلى الجديد"1.
فأين هذا السلوك من فعل أولئك الحمقى الذين ينفقون أموالهم على رفات موتى لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا.
وكذا إنفاقها تشجيعًا لبعض الألعاب التي لا تعود بالنفع على المحتاجين من الفقراء، وكذا إنفاقها على شراء بعض الأجهزة وأفلاهما الخليعة التي خطَّط لتروجيها أعداء الدين والإنسانية في هوليود من فجار اليهود؛ ليكسبوا أمرين في آنٍ واحد؛ هما: كسب المال، والآخر: القضاء على الأخلاق والعفَّة والغيرة في وقت واحد، ومن ذلك أيضًا هذا الغرام العارم في النساء للتفنُّن في متابعة ما يسمونه بالموضة في الثياب وفي إصلاح الشعر وأنواع المكياجات التي لا تخدم إلّا البنوك الربوية اليهودية في أكثرها، ومنها إنفاقه على معاهد ما يسمونه بالفن، معهد الموسيقى أو الرقص الشرقي أو الغربي، أو تعليم آلات الطرب وأنواع الأغنيات، أو حفلات ما يسمون اختيار ملكة الجمال، وهي وصمة عار تجعل الحمير أرقى منهم وأعقل سلوكًا. وكذا إنفاقه في طباعة الكتب الضارَّة ككتب السحر والإلحاد، أو الشعر الماجن، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لا تحصر، والله تعالى لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والعاقل من اتَّعظ بغيره.
1 انظر صحيح ابن حبان 7/ 308، موارد الظمآن 1/ 534، الموطأ 1/ 224، المستدرك 3/ 67.