الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع: هل تحققت السعادة المزعومة في ظل القومية
؟
لقد نادى القوميّون وملؤا الدنيا صياحًا بأن الدعوة القومية ستحقِّق لمعتنقيها كل السعادة، وأنهم سيعيشون في جنة عالية وعزٍّ لا يرام إذا طبّقت الشعوب القومية، سواء أكانت تلك الشعوب عربية أم غير عربية، فالسعادة تنتظر الجميع، وأنها تجمع ولا تفرق، وتؤلف القلوب وتوحّد الأحوال الاقتصادية، وتحقق القوة على الأعداء أيًّا كانوا، إلى غير ذلك من أنواع المديح والتزكية للقومية والقوميين.
ولكن هل تحقَّقت تلك المزاعم لأي قومية من القوميات عربًا أو عجمًا؟ لقد قال بعضهم: إن النَّاس بطبيعتهم فيهم غرائب لؤم، فإن الشخص يبغض الآخرين؛ لأنهم لا يتكلمون بلغته، فإذا تكلموا بلغته فإنه يبغضهم؛ لأنهم ليسوا من وطنه، فإذا كانوا من وطنه بغضهم؛ لأنهم ليسوا من قبيلته، فإذا كانوا من قبيلته بغضهم حسدًا على ما عندهم.
والعرب بحدِّ ذاتهم حينما مالوا إلى القومية ووالوا وعادوا من أجل العروبة، ماذا كانت نتيجتهم، لقد ازدادوا فرقة وفقرًا وعداوةً فيما بينهم، وكاد بعضهم للبعض الآخر، بل ودرات بينهم حروب شرسة حين بغى بعضهم على بعض ببركات حب القومية، وافتخار كلٌّ بقومه، فقامت الأحزاب والتكتلات الصغيرة والكبيرة على حمية القومية الجاهلية، فازدادت المسافة بينهم وبين الوصول إلى السعادة المنشودة في ظل القومية، وليت هؤلاء الهاربون عن طريق
السعادة الحقيقية يرجعون بذاكرتهم إلى تاريخهم المشرق، ويتذكرون حين قال رسول سعد بن أبي وقاص لرستم حينما سأله: ما الذين أخرجكم علينا؟ فقال له: أُمِرْنَا أن نخرج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة رب العباد. وفي نهاية اجتماعهم قال له: "واعلم أن لكم عندنا ثلاث خصال، إمَّا الإسلام أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو القتال". وهو كلام ما كان يحلم به العرب في يوم من الأيام أن يواجهوا به سادة الفرس الذين كانوا يعتبرون العرب أذلَّ البشر قبل أن يعزهم الله بالإسلام، وقبل أن يصبحوا خير أمة أخرجت للناس، حينما نبذوا جميع الخرافات الجاهلية وافتخروا بدينهم، فوجدوا السعادة الحقيقية فيه، تراحموا بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداءً فيما بينهم، يقهر القوي الضعيف، ويستعبد الأغنياء الفقراء، تراحموا حتى أصبحوا كالجسد الواحد يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، يقول الشخص منهم للآخر: تعال أقاسمك مالي وأهلي، فيقول له صاحبه: بارك الله في مالك وأهلك، دلني على السوق، تراحموا حتى مدحهم رب العالمين بقوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1.
ولقد نجوا من الهلاك الذي كان ينتظرهم باستمرارهم على الشرك؛ حيث امتنَّ الله عليهم بذلك فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2.
1 سورة الفتح: الآية: 29.
2 سورة آل عمران، الآية:103.
وصاروا ينظرون إلى الشرك وأهله بعين الاحتقار والازدراء والرحمة لحال المشركين أن يموتوا على شركهم، فكانوا يذهبون إلى القباب وإلى الأصنام فيهدمونها ويكسرونها دون خوف أو وَجَلٍ، يا عزَّى لا عزَّى لك، إني رأيت الله قد هانك، واتجهوا إلى عبادة خالقهم وحده، فارتاحت نفوسهم من تشتت الفكر وعبادة الأرباب المتشاكسين، والخوف من أصحاب القبور والجن والسحرة والمشعوذين، وحقَّقوا التوكُّل على الله فكفاهم الله كل ما يخيفهم أو يحزنهم، لا تزيدهم الشدائد إلّا صلابة:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1.
وصار فخرهم بالإسلام وحده بعد أن كان فخرهم بأمجادهم الجاهلية وبآبائهم وقبائلهم، وغير ذلك من المفاخر الجاهلية، وصار شعارهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وصارت مراقبة الله تعالى نصب أعينهم في بيعهم وشرائهم وجميع معاملاتهم، لا ربا ولا غش ولا فجور ولا ظلم ولا سوء خلق.
فهل توجد هذه الأخلاق في القوميات؟ هيهات هيهات، وهل يتصور القوميون أنَّ العودة إلى تلك الحال المظلمة للجاهلية هو الذي سيجمع شمل المسلمين -والعرب خصوصًا- وأنه سيكون منهم أمة ذات حضارة وسيادة تحت مظلة القومية البالية؟!
1 سورة آل عمران، الآية:173.
وأما غير العرب فإن الأتراك أقرب مثال لنكسة القومية لهم حينما فشت فيهم نخوة القومية الجاهلية، ماذا كانت النتيجة؟ لقد تفرَّقوا وفَتُرَ نشاطهم في حرب أعداء الإسلام، بل وضعفوا واستكانوا وهانوا على الدول الغربية إلى يومنا الحاضر؛ حيث يطلب حكامها الدخول في المنظمة الأوربية، ومع ذلك يتجاهل الغرب مطالبهم في احتقار لا يحتمله الأحرار، دون أن يتذكَّروا ماضيهم في ظل الإسلام، وكيف كانوا سادة كثيرة من بلدان العالم وقادتهم يحسب له أعداؤهم ألف حساب قبل التفكير في التنغيص عليهم ولو بأدنى اعتداء.