الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية
وفيه أمران:
الأمر الأول: الملكية في الرأسمالية
أما الملكية في الرأسمالية فهي مربوطة بالوصول إلى الأرباح قبل أي اعتبار، يقول محمود الخطيب: يعتبر أنصار الرأسمالية جهاز الثمن هو المحرك الفعّال القادر على حل كل ما يتعلق بالمشكلة الاقتصادية"1.
والرأسمالية كما سبق نسبة إلى رأس المال، ويراد بها منح الشخص كامل الحرية في جمع المال وفي إنفاقه بأي طريقة يكون جمعه أو إنفاقه؛ سواء عن طريق الغش، أو الاحتكار، أو الربا، أو التحايل، ولا قيمة للرحمة والعاطفة والإنسانية أو المثل العليا أو الأخلاق في سبيل الحصول على المال، و"كل هذا يؤدي إلى ظلم الأمَّة ويقوي معول هدمها بيدها؛ لأن الأخلاق زالت، والجانب الروحي معدوم مندثر، فلم يبق إلّا الركض وراء المصلحة الجشعة، فأصبح الرأسمالي شَرِهًا متكالبًا على المال"2. فالرأسمالي لا يمهمُّه أن يموت المجتمع جوعًا في الوقت الذي يرفع قيمة ما في يده إلى الأضعاف المضاعفة، فينظر المجتمع إليه وهو في غاية الشره نظرة حقد وكراهية، وهو
1 أي: وجود المنتج والسلعة والثمن الحافز للإنتاج.
انظر: "النظام الاقتصادي في الإسلام"، ص29.
2 المصدر السابق ص80.
ينظر إليهم أنهم حاسدين له يتمنون زوال ماله، فينشأ عن ذلك إشاعة العداوة والبغضاء وانتزاع الرحمة من قلوب تلك المجتمعات الرأسمالية التي لا هَمَّ لها إلّا عبادة المال وجمعه حسب التنافس في الإنتاج وفي الأسواق؛ بحيث يهدف الرأسمالي إلى التحكم لو استطاع في الأسواق الاقتصادية وإبعاد أي مشروع يرى أنه سينافسه، ثم طلب الربح بأي وسيلة مهما كانت ظالمة أو معيبة، لا يهمه إلّا الحصول على المال، وحال المجتمعات الرأسمالية أقوى شاهد.
وفي المجتمعات الرأسمالية حرب على الفقر لكنها لا ترحم الفقير، بل تحمله مسئولية فقره، وتنظر إليه بازدراء؛ لأنه لم يحتل لنفسه للخروج من الفقر؛ حيث يتهم بعدم الذكاء أو عدم الجد في العمل أو غير ذلك من الأسباب التي لا تشعر بالرحمة تجاهه، ولقد عانى المجتمع الرأسمالي من هذه النظرة في بداية تكوّن المذهب الرأسمالي الأمرَّين، واضطر كل فرد صغير أو كبير، ذكر أو أنثى إلى العمل بأي طريق كان للحصول على ما يسد رمقه، وإلّا انسحق دون أي صوت يلفت النظر إلى حاله، والحكومة لا تتدخَّل لا في الإنتاج ولا في التوزيع، بل كان الحبل على الغارب، إلّا أنه -وبعد فترة- شعر المجتمع الرأسمالي تحت الضغط والعنف والمواجهات الدامية بأن هذا الوضع البغيض لا رحمة فيه، وأنه إنما نشأ عن ما يشعر به أغلبية المجتمع من الإحباط وعدم المبالاة بهم، وجعلهم فريسة الهموم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، فتطوَّر الفكر الأوروبي إلى تعديل الحال، والنظر بعين الجد إلى القضاء على هذا الشعور، وبدأوا في تقنين الأنظمة التي تطوروا فيها إلى أن عرفوا ما يشبه نظام التكافل الاجتماعي الذي دعا إليه الإسلام منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرض الزكاة
التي يأخذ فيها العاجز ما يسد حاجته من بيت مال المسلمين دون أن يطالب بمقابل في ذلك، بينما نظام الغرب رغم ما يدعون له من التطور لازال متخلفًا عن الوصول إلى نظام الإسلام في ذلك؛ إذ لا يعطي الشخص فيه في حال عجزه إلّا حسب نسبة ما كان يدفعه من الضرائب في حال صحته.
فإنه يطالب الشخص وهو صحيح بمبلغ يدفعه ضريبة من دخله حتى إذا عجز عن العمل أعطي مبلغًا حسب ما كان يدفعه قليلًا أو كثيرًا، فإنه يأخذ نسبته على حسب ما دفع وعيب هذا أن الغني يدفع له أكثر؛ لأنه أخذ منه أكثر، والمحتاج يدفع له أقل منه، وهذا الحل لا يفي بحاجة الفقير، فقد يكون لهذا الفقير أسرة كبيرة، بينما الغني قد لا توجد له أسرة، فليس هناك تكافئ في التوزيع، ولا نظر إلى عمق القضية حسب الضرورة، بل إنهم لم يوجدوا هذه النقلة إلّا للتخفيف من مساوئ هذا النظام الذي طعموه بما يسمونه التأمينات الاجتماعية والنقابات
…
إلخ.
أما الإسلام فإنه لا ينظر إلى استحقاق الفقير من بيت المال إلى أنه كان يدفع أو لا يدفع؛ لأنه ينظر إلى إزالة الضرر بغض النظر عن الأسباب، فلا ضرر ولا ضرار، ولأن الفقر قد لا يدوم، فقد يصبح الفقير غنيًّا فيستعفف بعد ذلك عن أخذ ما كان يصل إليه من بيت مال المسلمين، وما يعطاه من المال إنما هو إعانة له إلى أن يغنيه الله من فضله ويستغني عن أخذه بعد ذلك دون منَّة عليه من أحد؛ إذ الإسلام دائمًا يحث الشخص على الاعتماد على الله، ثم على عمل يده، والاستغناء عن الناس بانتظار ما يجودون به عليه، ويخبره دائمًا أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن المؤمن القوي خير
من المؤمن الضعيف، وأن من اعتمد على سؤال الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم
…
وغير ذلك من التوجيهات الإسلامية.
وعلى ضوء ما سبق يمكن تلخيص الأسس التي قام عليها النظام الرأسمالي فيما تقدَّم بيانه فيما يلي:
1-
حرية الملكية الفكرية وحرية التصرف فيها دون تدخل الدولة غير الحماية.
2-
الحرية في ممارسة أي نشاط اقتصادي يريده الفرد إنتاجًا أو استهلاكًَا.
3-
تحقيق التوازن التلقائي عن طريق جهاز الثمن الذي هو المرآة التي تعكس رغبات المستهلكين إلى المنتجين.
4-
وجود حافظ الربح الذي هو المحرّك الأساسي للنشاط الاقتصادي والإقبال على العمل تحقيقًا للربح.
5-
وجود حرية المنافسة الاقتصادية التي تَحُدُّ من انتشار الاستغلال.
وهذه الأسس وإن كانت تبدو للناظر أنها مفيدة وناجحة وتخدم التقدّم الاقتصادي، إلّا أن لها مساوئ كثيرة من أهمها:
1-
سوء توزيع الثروة والدخل بين الناس، فمن عَزَّ بَزَّ.
2-
ما نادت به من الحريات إنما هي حريات ناقصة، والعامل ليس حرًّا في اختيار عمله ولا في أجره، فقد يضطر إلى أن يعمل بأجرٍ أقلَّ حينما
لا يجد عملًا مناسبًا، وكذلك المستهلك ليس حرًّا في استهلاكه، بل يقيد مستوى دخله، وما تسمعه من كثرة المظاهرات في الغرب لتحسين أجر العامل أقوى شاهد.
3-
ظهور البطالة والتقلُّبات الاقتصادية لعدم التوازن الحقيقي.
4-
وجود الاحتكارات والتي تعمل بشكل معاكس لجهاز الثمن.
5-
ظهور الآثار السلبية للمنافسة في الإسراف والتبذير في الإعلانات وغيرها1.
وعلى العكس من كل ما تَقَدَّمَ نجده في الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي لا تحفل بالفرد ولا بتشجيعه على زيادة الإنتاج السليم؛ لسلبهم إياه حرية التملك، وبالتالي إفلاسفه الدائم واتكاله على الدولة، ولا تسأل عمَّا نشأ من المساوئ جرَّاء هذا السلوك الأحمق.
وكل تلك الاتجاهات لا يقرُّها الإسلام ولا تساير نظامه، فالمال في الإسلام إنما هو إحدى متع الحياة الدنيا، ولا حرج على صاحبه أن يتمتع به كيفيما أراد ما دام ذلك في حدود الشرع وتعاليمه، وليس المال هو كل شيء، بل إن هناك حياة هي أسمى من هذه الحياة تنتظر الفقراء والأغنياء، وكم من فقير في هذه الدنيا يصبح في تلك الحياة يفوق في ملكه الدنيا بحذافيرها أضعافًا مضاعفة، كما أنَّ الإسلام يفهم صاحب المال بأنَّ ما بيده من المال ليس هو مالكه الحقيقي، وإنما هو مستأمن عليه، وسيتركه ويرجع كما
1 النظام الاقتصادي في الإسلام ص45-47، بتصرف" نقلًا عن مذكرات أساسية في المفاهيم والمعلومات الاقتصادية لعبد الحليم نصار القوارعة، ص19-27.
بدأ حياته الدنيوية، فلهذا لا يجو له أن يتصرَّف في المال إلّا وفق ما شُرِّعَ له لا أن يتصرَّف فيه كما يشرعه هو لنفسه، فيترك من يستحق الصدقة من الناس فيتصدق بثروته في غير محلها؛ كأن يجعلها لكلبه مثلًا كما يُفْعَل في أوروبا.
والإسلام لا يقر الرأسمالية على مساوئها ولا غير الرأسمالية من المذاهب الوضعية الجاهلية التي لم تقم على الدين الذي ارتضاه الله تعالى وأكمله، فقد قامت الحجة على كل إنسان خصوصًا في عصرنا الحاضر بانتشار وسائل الاتصالات المختلفة، ولا يمكن أن تسعد البشرية ما دامت الأنظمة الوضعية هي السائدة، ولنا فيمن طبَّق الشريعة الإسلامية أقوى حافز وأنبل مثال قديمًا وحديثًا، ولله الحجة البالغة.
الأمر الثاني: الملكية في الشيوعية الماركسية
سبق أن قامت الاشتراكية الشيوعية في اتجاه معاكس عارم ضد الرأسمالية الغربية والديانة النصرانية، وما تلا ذلك من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والقلق العام الذي ساد الدول الغربية الكبرى بفعل المخطَّطات اليهودية ومؤامراتهم المختلفة، ولقد كان للاشتراكية صولات وجولات ودعايات قوية ووعود خلَّابة بأن الناس كما زعموا سيعيشون في سعادة وهناء تشبه الجنة التي وعدت بها الديانات في الآخرة -بزعمهم، ولكنهم ربطوا الوصول إلى هذه الجنة الدنيوية بتطبيق الشيوعية الحمراء التي جاء بها "كارل ماركس" ومن تبعه من طغاتهم "لينين"، و"ستالين" وأضرابهم، والانضواء تحت راية الثورة الصناعية والعمل للجميع، فقام الاقتصاد في المذهب الشيوعي الاشتراكي
على أساس أن الملكية العامة لكل وسائل الإنتاج هي للدولة وحدها، والمناداة بالغاء الملكية الفردية ومصادرة كل شيءٍ وجعله باسم الدولة، ولكن كثيرًا من الدول الشيوعية أدركت انهيارها اقتصاديًّا، وفطنوا إلى أن السبب وراء ذلك هو عدم السماح بالملكية الفردية؛ حيث فترت همم العمال، ولم يعد فيها الحافز الكافي لزيادة الإنتاج، فاضطرت الحكومات إلى السماح بالملكية الفردية في نطاق ضيق، ولكن أخذت الأمور تتطور وتتفاقم النقمة على تلك الأوضاع إلى أن أطيح بالماركسية في عقر دراها -روسيا، وتنفس الناس الصعداء، مما جعل الدول التي لا زالت متمسكة بالنظام الماركسي تتوجَّس خيفة، وتخفف قبضتها على الشعوب رويدًا رويدًا. وتبين لجميع الشعوب الغبن الفاحش حين خدعوا الفقراء بما سموه دكتاتورية البروليتاريا التي لا تتحقق إلّا بقيام الصراع الطبقي والاستيلاء على السلطة ومصادر المال، وقد تطلَّب ذلك قيام الحركات الثورية الدموية في كل مكان استطاعت أن تصل إليه براثن الشيوعية، بحجَّة إقامة حكم البروليتاريا وإسعاد الفقراء، ولم يكتفوا بنزع الملكية الفردية بل نزعوا معها كل ما يمت إلى الأخلاق والأسرة تمامًا؛ لأن بقاء الأسرة معناه بقاء الملكية الفردية كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
وقد وجدت الملكية الفردية حربًا شعواء من قِبَلِ الملاحدة، وحمَّلوها كل أوزار المجتمع البشرية بعد تركهم الشيوعية الأولى التي كان الناس فيها على الملكية الجماعية يعيشون أسعد الأحوال بزعمهم دون صراع طبقي أو أحقاد، إلى أن عرف الناس الملكية الفردية وما تبعها من تطورات، إلى أن وصلوا إلى الرأسمالية التي سبَّبت للبشرية أنواع الشقاء والصراعات الطبقية، إلى
أن ظهرت الشيوعية الثانية لتعيد الناس إلى جنتهم السابقة حسب زعمهم.
وقد تناقض الملاحدة هنا، فبينما يزعمون أن الرأسمالية والملكية الفردية هي السابقة للاشتراكية؛ لأنها جاءت كمنقذ؛ إذ بهم يزعمون أن الاشتراكية البدائية هي السابقة للرأسمالية.
ومما يجب أن يتنبه له الشخص هو معرفة ما هي الملكية الجماعية التي ينادي بها الشيوعيون، وكيفية الرد عليها، وأنها وهم خاطئ، فإن الملكية الجماعية التي ينادي بها الملاحدة هي سلب كل شيء وجعله في يد الدولة التي هي نائبة للشعب، أو نائبة عن طبقة البروليتاريا الكادحة، ويزعم هؤلاء أن العدالة تقتضي أن تضع الدولة يدها على كل مرافق الإنتاج، وهي بدروها تقوم بتوزيعه بالتساوي بين الناس، وبذلك ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان الذي تمارسه الرأسمالية، ومن هنا فقد نادوا بإلغاء الطبقات والانضواء تحت راية الشيوعية لتخليصهم من نظام الطبقات الذي جاءت به الملكية الفردية، وأن علي جميع الشعوب أن تناضل الطبقات المالكة المتحكمة في مصالح الشعوب الذين بأيديهم الجاه والسلطة والمال، وأن هذا النضال لا ينبغي أن يتوقف إلّا بالقضاء التام على هذه الطبقات، واستعلاء طبقة البروليتاريا التي ستحكم هي الأخرى حكمًا صارمًا لا رحمة فيه، إلى أن يتحقق لهم ما يريدون من إقامة النظام الشيوعي بدون منازع؛ حيث سيقوم نظام البروليتاريا على الدكتاتورية الشديدة ما دام يوجد أعداء للشيوعية، ولهذا يطلقون عليهم "دكتاتورية البروليتاريا" أي: حكم الفقراء، وهذا الوصف سينتهي أيضًا حينما تتمكَّن الشيوعية من بسط نفوذها في كل العالم، فلا
تبقى تلك الدكتاتورية؛ إذ أنَّ الشعب أصبح حاكمًا نفسه بنفسه، وكلهم طبقة واحدة هي "البروليتاريا" وقد رأى العالم مدى صحة هذه الأحلام الفارغة؛ حيث أصبحت تعاليم "ماركس" تحت النعال بعد أن أثبتت فشلها الحتميّ، شأنها شأن كل الأفكار والمعتقدات الباطلة.
وهناك الكثير من المبادئ الماركسية التي تطرَّقت إلى كل جانبٍ من جوانب الحياة، والذي يهمنا هو معرفة الفشل الذريع الذي لحق الاشتراكية في معالجتها هي والشيوعية للحالة الاقتصادية، وكيف كانت النتيجة التي وصلت إليها النظريتان الجهنميتان، فإنهما بعد أن عاثتا في الأرض فسادًا طوال سبعين عامًا من قيامهما المشئوم، وأتتا على الأخضر واليابس، وقتل بسببهما ملايين لا يعلم عددهم إلّا الله، ودنست الأخلاق، ومُزِّقَتْ الأسر، وعلا قرن الشيطان1، فأذن الله تعالى في إظهار فشل الشيوعية ذلك الفشل الذريع في سد الحاجات الضرورية لأتباعها من الموارد الزراعية، إلى أن أصبحوا يتكَّفَّفون الغرب الرأسمالي الذين تنبأ لهم "ماركس" بأنهم سيكونون أول من يتقبَّل الاشتراكية الشيوعية بصدر رحب -بزعمه، وكان الشيوعيون يصفون الغرب وغيرهم بالتخلف والجمود.
وما إن قويت الثورة الصناعية عندهم حتى فاجأتهم بزيادة العمل وقلة المكاسب وتدني الحياة وتدني الأخلاق، وزيادة الفقر، وانخفاض المستويات الصحية، وسلب الحريات في البلدان الشيوعية، وكممت الأفواه واشتد الحكم
1 لقد انجلت الظلمة عن فشل الشيوعية بعد سبعين عامًا في جميع أنظمتها وداستها أقدام كانت تقدّسها، وللباطل صولة ثم يضمَّحل.
بالحديد والنار، أصبح العامل يعمل لصالح الدولة لا لصالحه، مقابل كفالة الدولة لطعامه وشرابه ببطاقته الشخصية بما يسدُّ حاجته الضرورية فقط.
وتبيَّن بوضوح تامٍّ بعد فوات الأوان أن مناداة الشيوعية بنزع الملكية الفردية وحصرها في الدولة أنه من أحمق الحلول وأبعدها عن مصالح الشعوب، فهي تقتل الحوافز المشجعة على العمل والتفاني فيه والإخلاص في القيام به، فأي إخلاص سيأتي للعمل الذي لا يملك من وراء كدِّه وتعبه غير لقمة العيش والباقي لغيره، ولقد أحسَّ الملاحدة هذه الهوة قبل أن تكتسح الشيوعية في مهدها، فشدَّدوا قبضتهم على الناحية الصناعية؛ إذ يعرف المقصِّر في أي قطعة فيعاقبونه عقابًا صارمًا قد يؤدي إلى قتله أمام زملائه، فانتظمت له الناحية الصناعية نوعًا ما، بينما فشلت مراقبتهم في الناحية الزراعية فشلًا ذريعًا لصعوبة مراقبة الفلاحين، وظهر هذا واضحًا في البلاد الشيوعية في تخلفها في مجال الزراعة، بل وفي مجال الصناعة؛ إذ لا مقارنة بين الصناعات الغربية والشيوعية، ومن المعلوم أن الملكية الفردية هي نزعة فطرية في كل إنسان لا يمكن أن يتجاهلها، ولا يمكن أن يتغلَّب على فطرته في مقاومتها كي يتركها بطوعه، ولعل هذا الجانب كان من أهم العوامل التي أسرعت بانهيار الشيوعية رغم قوتها التي ما كان أحد يحلم بأنها ستسقط جثَّة هامدة في تلك الفترة الوجيزة من صحوة الشعوب الأوروبية الشرقية في ولاية "جورباتشوف" الذي تولَّى رئاسة الاتحاد السوفيتي بعد "برجينيف" و"يوري أندروبوف"، كما تبيَّن كذلك أنّ التحريش بين الفقراء وأصحاب الأموال إنما هي خدعة لصرف الأنظار عن مقارعة
الشيوعية وضرب الناس بعضهم بالبعض الآخر، بزعم أن طبقة البروليتاريا طبقة العمال أو الكادحين طبقة مظلومة يجب أن تأخذ حقَّها من الأغنياء بالقوة.
فقد دعت الشيوعية إلى تأجيج الصراع الطبقي بين الملاك والفقراء، وأوغرت صدور الفقراء على الأغنياء، وأقنعتهم بأنه لا يمكن أن يصل الفقراء إلى العيشة الكريمة إلّا بالإحاطة بطبقة الأغنياء وأصحاب رءوس الأموال وسلبهم إياها عن طريق السلاح والقوة؛ ليتمَّ رفع مستوى الفقراء الكادحين -البروليتاريا، وتَمَّ لهم ذلك؛ فبطش الفقراء بأصحاب الأموال وسلبوهم إياها، وجاءت الدولة لتستولي على كل مصادر الحياة، وتساوي بعد ذلك الأغنياء بالفقراء، فلا بقي اللأغنياء على غناهم، ولا رفعوا الفقراء، وجنى الجميع بعد ذلك نار الحقد والبغضاء، وتبخرت أماني الفقراء، وذهبت أدراج الرياح كل ما وعدتهم به الطغمة الحاكمة الماركسية، وبقي الجميع في همِّهم وغمِّهم إلى أن استطاعوا أن يتنفسوا الصعداء قبل ثلاث سنوات، ومرَّغوا أنوف جبابرة الماركسية في الوحل، وانتقم الله منهم وهو عزيز ذو انتقام، وقد أدرك القارئ أنه لا مقارنة بين هذه الجاهلية الحمقاء وبين الإسلام، ذلك أنَّ الإسلام ليس فيه صراع طبقيّ ولا تأليب جماعة ضد جماعة أخرى، بل الكل مؤمنون أخوة كالجسد الواحد، والرزق بيد الله، والعمل مشترك بين الجميع، والتنافس المعتدل مطلوب، وبهذا عاش الإسلام والمسلمون بخير، ولم يعهد في أي حقبة من الزمن أن ثار المسلمون على الإسلام وطالبوا بالغائه، وذلك لما عهدوا فيه من الحق.
فتميَّزَ المجتمع الإسلامي بالتوادد والتراحم، وامتاز بالكرم والقناعة والرضا بما قسم الله لكل شخص من الرزق، فلا يجد الفقير حقدًا على الغني، ولا يشعر الغني بأن له الفضل على الفقير، فعاش الجميع في سلام، كل فرد راضٍ بما أعطاه الله، ولك أن تقارن بين البلدان التي اقتنعت بالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا وبين البلدان الكافرة التي لا تؤمن بذلك، لك أن تقارن بين الجرائم التي تحصل في البلد المسلم الملتزم والبلد الكافر، تجد فرقًا هائلًا خياليًّا، وذلك لخلو الوازع الديني، وغلبة حب المال، وقسوة القلوب التي لم يدخلها نور الإسلام.
وأما بقية التعاليم الشيوعية التي لا تتعلق بالجانب الاقتصادي فلا حاجة لنا بالتطويل بذكرها وذكر أشنع ما مرَّ بالإنسانية في تاريخها الطويل في النظام الشيوعي الذي لا يبالي بقتل ثلاثة أرباع الشعب ليبقى الربع الأخير صالحًا، أي: شيوعيًّا، وهو ما طبقوه بالفعل في كثير من البلدان، وكثير من البشر الذين لا يعملهم إلّا الله تعالى طبَّقوه حسب تعاليم "ماركس"، و"لينين"، و"ستالين"، في أنه لا بأس بقتل ثلاثة أرباع الشعب ليبقى الربع الأخير على الشيوعية الماركسية ونظامها الإلحادي.