الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: هل تحققت دعاوَى الإنسانية بالفعل
؟
والجواب عن هذا السؤال هو أن نسأل دعاة الإنسانية: هل يمكن أن يحققوا تلك الدعاوى الكاذبة؟ وهل يمكن أن يقبل الناس كلهم تلك الحياة التي يدعون إليها؟ إن من السهولة بمكانٍِ أن يتخيل الشخص أشياء كثيرة وتحقيق أماني عديدة فيما يشبه الأحلام السعيدة في عالم الخيال، ولكن من الصعوبة جدًّا أن يراها مطبَّقة أمامه حقيقةً، فإن ما شاء الله أن يجمعه لا يستطيع أحد أن يفرقه، وما شاء الله أن يفرقه فلا أحد يستطيع أن يجمعه، من المعلوم بداهة أن الله تعالى شاء أن يختلف الناس في لغاتهم وفي سلوكهم، وبل وفي دينهم، وأن يختلفوا في أوطانهم "ولذلك خلقهم". فكيف يتمكَّن أولئك الملاحدة أن يغيِّروا ما أراده الله؟ هيهات ذلك، ومتى سيقبل الناس أفكار دعاة الإنسانية ويتناسون أديانهم وأوطانهم ويوحدون سلوكهم ولغاتهم؟ إنها دعوة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 1.
إن دعوى الإنسانية دعوى ضالة مخدِّرة لأتباعها، وأرخت لهم زمام الآمال الفارغة، وجمدتهم على ترقب ما تخيلوه على أنَّ ما نادوا به من إماتة الوطنيات والقوميات وسائر الفوارق الخاطئة أمر مستحسن، ولكن في حدود الشرع الشريف، وليس بحسب ما تصوروه أو تصوره القوميون
1 سورة النور، الآية:39.
أو الوطنيون، فإن تصوراتهم هي عودة إلى الجاهلية، وتعصب مذموم، فإن التعصُّب حولهما لا ينتج مجتمعًا صحيحًا متماسكًا متحابًّا، بل ينتج أمة قابلة للتمزق والأحقاد والتعالي بالباطل، والواقع أقوى شاهد، فما أن تنشب حرب أهلية إلّا وتناسى الناس فيها كل الروابط الجاهلية من قومية ووطنية وإنسانية وغيرها، وراحوا لا يرقب أحدهم في الآخر إلًّا ولا ذمَّة؛ لأن هذه الروابط ليس وراءها ما يرغب فيها من جزيل الثواب عند الله تعالى، ولا خوف منه عز وجل في يوم الحساب، بل فيها ما يثير الأحقاد والتعصبات القبلية، واغتنام المصالح ولو على حساب الغير "إذ مت ظمآنًا فلا نزل القطر"1.
وهذه الدعوة الحمقاء لجمع العالم كلهم على فكرة واحدة من وضع البشر، قد جربها كثير من الناس آخرهم البهائية، ولكنهم كلهم باءوا بالفشل الذريع، وظهرت حماقاتهم واضحة للعيان، ولم يستطيعوا هم أنفسهم تطبيق هذه الدعوة الفارغة؛ لأنها غير قابلة للتطبيق العملي، فإن أمامها عوائق لا يمكن تخطِّيها بمثل تلك الأفكار البرَّاقة الضحلة، فهي لم تطبق على حقيقتها لا في أوربا ولا في أمريكا ولا في بلدان العالم الإسلامي ولا في غيرها، ولهذا نجد أن الله لم يأمر الناس أن يتكلموا لغة واحدة، ولا أن يتنكروا لشعوبهم وقبائلهم.
1 شطر بيت من قصيدة لأبي فراس الحمداني وأوله:
معللتي بالوصل والموت دونه
…
إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر
انظر كتاب "كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة" ص276.
ومن المدهش حقًّا أن يتبارى دعاة الإنسانية في تقديمها في الوقت الذي يتفنَّون فيه في سفك دماء الإنسانية وامتصاص خيراتهم،/ والتخويف والتجويع وافتعال الأزمات، ووصف كل من يخالفهم بأنه إرهابي ومتخلف وعدو للحضارة
…
إلى آخر أوصافهم، وتشجيع كل فريق على الفتك بالآخر في مؤامرات وخطط جهنَّمية لا تفعلها الوحوش الكاسرة.
ولعل ذلك يعود إلى لطف الله بالبشر؛ ليعود إليه عز وجل حينما يرون ما يفعله الجهل بأهله، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} 1، كما أنَّ الشَّرَه قد وصل بأولئك إلى حَدِّ انتزاع الرحمة من قلوبهم حينما يؤججون نار الفتن لتنشب الحروب ليربحوا من ورائها بيع الأسلحة الفتَّاكة التي ملئت بها مخازنهم، ولتجربتها فوق رءوس المخالفين لهم، وبالتالي فإنهم يرمون عصفورين بحجر، وأين غاب دعاة الإنسانية والرحمة بالإنسان في الوقت الذي تسفك فيه دماء المسلمين، وتنتهك أعراضهم، وتؤخذ أموالهم في أكثر الأقطار الإسلامية، والبوسنة والهرسك وكشمير والفلبين، بل وفلسطين، والآن العراق أكبر شاهد على كذب دعاة الإنسانية، وأين دعوى الإنسانية في الوقت الذي يعامل فيه الغرب الكلب أحسن من معاملة الإنسان، وقد سمعت من إذاعة لندن أن كلبًا في هندوراس وصل إلى رتبة وزير أمن، فاتضح أن دعوى الإنسانية
1 سورة طه، الآية: 124-126.
إنما يراد بها هدم الأديان واستعمار البلدان ونشر الضلال وإعلاء رايات المساونية، وكم في السجون من البائسين المظلومين تتناساهم تقارير دعاة الرحمة والإنسانية كما يسمون أنفسهم، لا لشيء إلّا لأن هؤلاء البائسين يتمسَّكون بدينهم الإسلامي، أو لم يباركوا ظلم الطغاة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الظالمين يصرخون بعزمهم على إذلال المسلمين وتقطيع أوصالهم، ويتبعون القول بالعمل دون أن يوجّه الإنسانيون كلمة رحمة أو عتاب من أجلهم، بينما أي حركة يتحركها المسلم ولو دفاعًا عن نفسه فإنه يوصف فورًا بالإرهابي والمشاغب والمتشدد، وغير ذلك من الألقاب الجاهزة التي يضعونها على من يشاءون في أية لحظة.
وتحت هذا البنز يقع للإنسان من التعذيب والتخويف ما تتنزه عن فعله الحيوانات المفترسة في الغابات، فأين دعاة الإنسانية من النصارى -وهم الأغلبية، وغيرهم من سائر من يتشدق بهذا الاسم، ويزعم أنه سيحقق السعادة للبشرية، وأن الإنسانية في زعمهم ستكون عليهم بردًا وسلامًا حينما تقصى الأديان، وفي أولها الدين الصحيح الذي لا يقبل الله غيره، وهو الدين الإسلامي الذي قرَّر الرحمة في أكمل صورها، دعا إليها دون خداعٍ أو نفاق منذ مئات السنين، حين دعى إلى المحبة والتعاون ونبذ كل شعارات الجاهلية وخرافاتها، وأن يكون البشر كالجسد الواحد عقيدةً وحبًّا وصفاءً، ولهذا فإن دعاة الإنسانية إنما هم صدًى لتلك التعاليم الإسلامية المشرقة، وإن كانوا لا يطبقونها على حقيقتها التي جاء بها الإسلام، بل ولا يعترفون له بفضل السبق إليها، سواء كان ذلك تجاه
الإنسان أو تجاه الحيوان، وهكذا فإن الدعوة إلى الإنسانية قد لا يفطن الكثير من الناس إلى أنها دعوة تقوم على الاحتيال والمغالطة، إلّا لمن يتتبع نتائجها وبتعمُّقٍ في معرفة الوصول إلى ضحاياها من المسلمين، ويرى مدى الإجحاف في حقِّ الشعوب المسلمة على أيدي دعاة تلك الإنسانية، بل وفي غير البلدان التي تحكم بغير الإسلام، ومدى ما يفعلونه بمضايقة المسلمين في دينهم وفي أعراضهم وفي ثقافتهم، والعمل على تفريق كلمتهم بكل ما يستطيعون من الوسائل وما يخترعونه ضدهم من الأسماء الظالمة لضربهم تحت تلك الأسماء؛ كتسميتهم متمردين وعصاة وخارجين عن القانون، وما إلى ذلك، ثم التنكيل بهم بكلِّ وحشية دون أن يحرك دعاة الإنسانية نحوهم أي التفاتة، بل يلقون التأييد والدعم السخي بأنواع الأسلحة والمساعدات المادية والمعنوية، وفي مقابل اعتزاز المسلم بدينه حيث يشار إليه بأنه عدو الحضارة متعصب جامد، ويجب أن يتنازل عن غيرته على حرمه، وأن يتنازل عن كل عاداته التي لا يمكن بسببها أن يذوب في خِضَمِّ الماسونية الجارف، وإسرائيل وأمريكا أقوى الأدلة على صحة هذا.