المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية - المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها - جـ ٢

[د. غالب بن علي عواجي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب العاشر: العلمانية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: حقيقة التسمية

- ‌الفصل الثاني: التعريف الصريح للعلمانية

- ‌الفصل الثالث: نشأة العلمانية وموقف دعاتها من الدين، وبيان الأدوار التي مرَّت بها

- ‌الفصل الرابع: الردّ على من زعم أنه لا منافاة بين العلمانية وبين الدين

- ‌الفصل السادس: هل العالم الإسلامي في حاجة إلى العلمانية؟ وأسباب ذلك

- ‌الفصل السابع: انتشار العلمانية في ديار المسلمين، وبيان أسباب ذلك

- ‌الفصل الثامن: مظاهر العلمانية في بلاد المسلمين

- ‌مدخل

- ‌المسألة الاولى: العلمانية في الحكم

- ‌المسألة الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسة

- ‌المسألة الثالثة: العلمانية والاقتصاد

- ‌المسألة الرابعة: العلمانية والعلم والتعليم والاكتشافات والدين

- ‌المسألة الخامسة: العلمانية في السلوك

- ‌الفصل التاسع: آثار العلمانية في سلوك بعض المسلمين

- ‌مدخل

- ‌العمل العام عند المسلمين بالعلمانية

- ‌ ظهور الولاءات المختلفة:

- ‌ ظهور أفكار العلمانية كحلول حتمية:

- ‌ الاختلاف في الدراسة والشهادة:

- ‌ ظهور التأثر في الأسماء:

- ‌ الهجوم على اللغة العربية:

- ‌ التأثر في التعليلات:

- ‌ التأثر في الأخلاق:

- ‌ العلمانية والآداب:

- ‌ علمنة الإعلام:

- ‌ تعقيب على ما سبق:

- ‌الباب الحادي عشر: الديمقراطية والشورى ونظرية السيادة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: منزلة الديمقراطية في الحضارة الغربية

- ‌الفصل الثاني: معنى الديمقراطية ونشأتها

- ‌الفصل الثالث: الوصول إلى الغاية

- ‌الفصل الرابع: هل حقق الأوربيون مطالبهم في الديمقراطية حقيقة

- ‌الفصل الخامس: الحكم على الديمقراطية

- ‌الفصل السادس: هل المسلمون في حاجة إلى الديمقراطية الغربية

- ‌الفصل السابع: الديمقراطية والشورى

- ‌الفصل الثامن: حكم من يتمسَّك بالديمقراطية الغربية

- ‌الفصل التاسع: نظرية السيادة

- ‌المبحث الأول: ما هي نظرية السيادة

- ‌المبحث الثاني: أساس قيام نظرية السيادة

- ‌المبحث الثالث: ما مدى صحة نظرية سيادة الشعب

- ‌المبحث الرابع: المسلمون ونظرية السيادة

- ‌المبحث الخامس: حكم السيادة في الإسلام

- ‌الباب الثاني عشر: الإنسانية أو العالمية أو الأممية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: بيان المقصود بالإنسانية أو العالمية أو الأممية

- ‌الفصل الثاني: سبب انتشار دعوى الإنسانية

- ‌الفصل الثالث: أماكن انتشارها

- ‌الفصل الرابع: هل يحقق مذهب الإنسانية السعادة

- ‌الفصل الخامس: هل تحققت دعاوَى الإنسانية بالفعل

- ‌الفصل السادس: هل تقبل الدعوى إلى الإنسانية التعايش مع الإسلام والمسلمين

- ‌الفصل السابع: الإنسانية والمغريات

- ‌الفصل الثامن: الإنسانية والقومية والوطنية

- ‌الفصل التاسع: تناقض دعاة الإنسانية

- ‌الفصل العاشر: زعماء الدعوة الإنسانية

- ‌الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية، والرحمة الصادقة هي في الإسلام

- ‌الباب الثالث عشر: الوجودية

- ‌الفصل الأول: التعريف بالوجودية

- ‌الفصل الثاني: أقسام الوجودية

- ‌الفصل الثالث: ظهور الوجودية وأبرز زعمائها

- ‌الفصل الرابع: من هو سارتر

- ‌الفصل الخامس: الوجودية هي الفوضى

- ‌الفصل السادس: أسباب انتشار الوجودية

- ‌الفصل السابع: الرد على الوجوديين

- ‌الباب الرابع عشر: الروحية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الروح

- ‌الفصل الثاني: ظهور الروحية

- ‌الفصل الثالث: إنتشار هذا المذهب

- ‌الفصل الرابع: منزلة فكرة "تحضير الأرواح

- ‌الفصل الخامس: أدلة دعاة تحضير الأرواح

- ‌الفصل السادس: مجمل عقائد الروحيين

- ‌الفصل السابع: حقيقة الروحية وأشهر زعمائها

- ‌الفصل الثامن: الروحية والملاحدة

- ‌الفصل التاسع: قضية الإلهام

- ‌الباب الخامس عشر: القومية

- ‌الفصل الأول: المقصود بالقومية

- ‌الفصل الثاني: دراستنا للقومية

- ‌الفصل الثالث: كيف ظهرت القومية

- ‌الفصل الرابع: متى ظهرت القومية

- ‌الفصل الخامس: كيف تسربت دعوى القومية إلى البلدان العربية والإسلامية

- ‌الفصل السادس: نتيجة ظهور القومية بين المسلمين

- ‌الفصل السابع: ماذا يراد من وراء دعوى القومية

- ‌الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية

- ‌الفصل التاسع: هل تحققت السعادة المزعومة في ظل القومية

- ‌الفصل العاشر: خداع القوميون

- ‌الفصل الحادي عشر: إبطال فكرة القومية

- ‌الفصل الثاني عشر: نقض الأسس التي قامت عليها القومية

- ‌الفصل الثالث عشر: الإسلام والقومية

- ‌الفصل الرابع عشر: مصادر دعم القومية

- ‌الفصل الخامس عشر: أهم مشاهير دعاة القومية العربية

- ‌مصطفى الشهابي:

- ‌محمد معروف الدواليبي

- ‌ جمال عبد الناصر:

- ‌ الخاتمة:

- ‌الباب السادس عشر: الوطنية

- ‌الفصل الأول: بيان حقيقة الوطنية

- ‌الفصل الثاني: القومية والوطنية

- ‌الفصل الثالث: كيف نشأت دعوى الوطنية

- ‌الفصل الرابع: هل نجحت الوطنية في تأليف القلوب

- ‌الفصل الخامس: الإسلام والوطنية

- ‌الفصل السادس: نتائج تقديس الوطنية

- ‌ تعقيب على ما سبق:

- ‌الباب السابع عشر: المذهب الوضعي

- ‌الفصل الأول: حقيقة المذهب الوضعي

- ‌الفصل الثاني: زعماء المذهب الوضعي

- ‌الباب الثامن عشر: الإلحاد

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: المراد بالإلحاد

- ‌الفصل الثاني: كما تدرجوا في إظهار الإلحاد

- ‌الفصل الثالث: أقسام الإلحاد

- ‌الفصل الرابع: أسباب ظهور الإلحاد

- ‌الفصل الخامس: هل يلتقي الإسلام مع الأنظمة الإلحادية

- ‌الباب التاسع عشر: الاشتراكية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: معنى الاشتراكية

- ‌الفصل الثاني: أقسام الاشتراكية

- ‌الفصل الثالث: متى ظهرت الاشتراكية

- ‌الفصل الرابع: هل الاشتراكية هي الشيوعية

- ‌الفصل الخامس: مزاعم الاشتراكيين ودعاياتهم

- ‌الفصل السادس: قوانين الاشتراكية

- ‌الفصل السابع: خداع الاشتراكيين في زعمهم أن الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام

- ‌الفصل الثامن: كيف غزت الإشتراكية بلدان المسلمين

- ‌الفصل التاسع: دعاة على أبواب جهنم

- ‌الباب العشرون: الشيوعية

- ‌الفصل الأول: دراسة عن الشيوعية

- ‌مدخل

- ‌ تمهيد عام عن الشيوعية:

- ‌المبحث الأول: قيام الشيوعية الأولى بقيادة رجل يسمَّى "مزدك

- ‌المبحث الثاني: من أكاذيب الشيوعيين

- ‌المبحث الثالث: رد زعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى

- ‌المبحث الرابع: زعامة الشيوعية الماركسية

- ‌المبحث الخامس: الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية

- ‌مدخل

- ‌ المادية:

- ‌ الجدلية "الديالكيتك

- ‌ تعقيب:

- ‌ التطور:

- ‌المبحث السادس: التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليها

- ‌مدخل

- ‌ مدى صحة الأطوار التي تزعمها الشيوعية:

- ‌ المشاعية البدائية:

- ‌ الرِّق:

- ‌ الإقطاع:

- ‌ الرأسمالية "البرجوازية

- ‌المبحث السابع: التفسير المادي للإنسان

- ‌المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية

- ‌المبحث التاسع: حرب الأخلاق والقيم

- ‌المبحث العاشر: القضاء على الأسر

- ‌المبحث الحادي عشر: محاربة الدين

- ‌المبحث الثاني عشر: سبب قيام الحضارة الإلحادية على العداء للدين

- ‌المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع

- ‌المبحث الرابع عشر: إنكار وجود الله تعالى وتقدس

- ‌مدخل

- ‌ هل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى

- ‌ شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى:

- ‌المبحث الخامس عشر: روافد أخرى

- ‌مدخل

- ‌ الإنسان التقدمي:

- ‌ الرجعية والجمود:

- ‌ الخرافة والتقاليد:

- ‌ الحرية والكبت:

- ‌ الإلحاد:

- ‌الفصل الثاني: الاقتصاد في الإسلام وفي المذاهب الوضعية

- ‌المبحث الأول: قضية الملكية الفردية والجماعية

- ‌المطلب الأول: الملكية في الإسلام

- ‌المطلب الثاني: الملكية في المذاهب الوضعية

- ‌المبحث الثاني: رد مزاعم الملاحدة الشيوعيين

- ‌المطلب الأول: رد مزاعمهم في الملكية الفردية

- ‌المطلب الثاني: رد مزاعمهم في نشأة الصراع الطبقي

- ‌تعقيب

- ‌المبحث الثالث: إيضاح بعض الجوانب الاقتصادية

- ‌المطلب الأول: التعريف بعلم الاقتصاد

- ‌المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان

- ‌المطلب الثالث: أهمية دراسة الأحوال الاقتصادية

- ‌المطلب الرابع: الغزو الفكري عن طريق الاقتصاد

- ‌المطلب الخامس: المال في الإسلام

- ‌المطلب السادس: وجود الموارد وندرتها

- ‌المطلب السابع: مدى صحة تعليل أصحاب النظام الوضعي للمشكلة الاقتصادية

- ‌المطلب الثامن: تنظيم الإسلام للشؤون المالية وطريقة معالجته لمشكلة الفقر

- ‌المبحث الرابع: التكافل في النظم البشرية

- ‌المطلب الأول: التكافل في الرأسمالية

- ‌المطلب الثاني: التكافل في النظام الشيوعي

- ‌المراجع:

- ‌قائمة بأسماء بعض المراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية

‌الفصل الثامن: هل المسلمون في حاجة إلى التجمع حول القومية

؟

من البدَهي أن يأتي الجواب بالنفي مطلقًا والأمر واضح تمام الوضوح، فقد أغنى الله المسلمين عن التجمع حول أي فكرة جديد أو شعار أو حزب، بل أنه حارب كل تجمُّع يقوم على غير هديه القويم، معتبرًا المسلمين كلهم أخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا""مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"3.

ونصوص أخرى كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنَّة نبيه كلها تحث المسلمين على أن يكون تجمعهم وتفرقهم وحربهم سلمهم ومعاداتهم وموالاتهم كلها قائمة على هدي الله عز وجل، لا إلى العرب أو العروبة أو القومية أو الوطنية، فهي وغيرها شعارات جاهلية يبغضها الإسلام ويحاربها، وكل دعوى لا تلتزم هدي الله فهي دعوى جاهلية يجب الحذر منها، ولقد أعلنها المصطفى صلى الله عليه وسلم صريحة حيث قال للأنصاري الذي قال: يا للأنصار، واللمهاجري حين قال: يا للمهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم:"ما بال دعوى أهل الجاهلية" ، وفي رواية4 "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم".

1 من سورة الحجرات آية: 10.

2 أخرجه البخاري ج1، ص182، ومسلم ج4، ص1999.

3 أخرجه البخاري ج5، ص2238، ومسلم ج4، ص1999.

4 صحيح البخاري -مع الفتح ج4، ص146-147.

ص: 929

وفي بعض الروايات قال لمن افتخر بعروبته: "دعوها فإنها خبيثة" 1، وفي رواية "فإنها منتنة" 2، وفي بعضها "دعوها فإنها ليست لكم بأم ولا أب" 3؛ لأن الإسلام أراد أن تجتث شجرة التعصُّب الخبيثة من أساسها؛ لأن ثمارها لا خير فيها لأحد، بل فيها العداوة والبغضاء والكبرياء والأحقاد وكل المساوئ والرذائل، وأنها لا تؤلف القلوب بل تنفرها وتثير فيها كوامن حب التعالي والبغي بغير الحق، فلا تفيدهم لا في دينهم ولا في دنياهم.

ولقد جُرِّبَت هذه الفكرة قديمًا وحديثًا فكانت فاشلة تافهة، ما أن يحصل خلاف وخصام بين أصحابها إلّا رموا بها عُرْضَ الحائط، وصار بعضهم لا يخالف في الآخر إلًّا ولا ذمَّة، فهو لا يخالف من اختراقها نارًا حامية، ولا يرجوا من تطبيقها جنة عالية، فتكون النتيجة كما قال أبو فراس:

إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر4.

وقد وضح لكلِّ عاقل أن القومية لم تقدِّم أي نفع للناعقين بها، بل إنها كانت معول هدم وتخريب وبغي، فأي حاجة للمسلمين إلى النعرات الجاهلية بعد أن أعزَّهم الله بالإسلام الذي أكمله الله لهم ورضيه لهم إلى يوم القيامة، وجعل أحكامه شاملة كاملة وافية بجميع ما يحتاج إليه البشر لسعادتهم في الدراين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 5.

1 صحيح البخاري مع الفتح ج3، ص1296.

2 أخرجه البخاري ج4، ص1863.

3 الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج4، ص225، وقال: هذا حديث مرسل، وهو مع إرساله غريب.

4 سورة المائدة، الآية:50.

ص: 930

إن الدعوة إلى القومية دعوة إلى الفرقة والفخر والتعالي؛ حيث يدخل التعصُّب بجميع أشكاله من جميع الأبواب، فما الذي يمنع في شرع القومية أن يفتخر العربي بأنه عربي ومن بلد كذا وكذا، والعجمي بأنه عجمي ومن بلد كذا وكذا، سيفتخر حتمًا في شرع القومية العربي بعربيته، والفارسي بفارسيته، والهندي بهنديته، والصيني بصينيته.

وهكذا كل قوم أو بلد سيجدون ما يفتخرون به بالحق وبالباطل، فالقومية ستلهمهم جميعًا صواب ما يريدون، وستعطي كل حزب أدلته على أنه أفضل عناصر البشر، وأن وطنه أفضل الأراضي، وأن كل ذرة منه مقدَّسة، ومعلوم أنه لم يحتج المسلمون في تاريخهم الطويل -قبل انحرافهم عن الجادَّة- إلى قومية تجمعهم ولا أيّ رابط يربطهم غير كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لا يصلح آخر هذه إلّا بما صلح به أولها.

يقول د. جمعه الخولي بعد أن ذكر أن دول أوروبا تحوَّلت إلى شتات من البشر لا رابطة بينهم بعد أن أبعدوا عنهم النصرانية ورجال دينها، وأنهم لجأوا إلى القوميات كوسيلة لربط الشعوب كالقومية الألمانية والقومية الفرنسية والنمساوية

إلخ، وأنهم لم ينتفعوا بها، بل كانت فتنة لهم وسببًا من أسباب الحروب بينهم.

ثم جاء يوم تحاربت فيه على أساس هذه القوميات في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فلما أحسَّت بلعنة القومية أخذت تتخلَّى عنها

ص: 931

وعدَّ كثير من مفكريها العودة للدعوة لها دليلًا على الرجعية والتخلُّف وعنصرًا هدامًا للإنسانية، واعتبروها نوعًا من التجارب التي لجأت إليها أوروبا في ظروف خاصَّة وفي وقت محدود، ثم نقل عن المؤرخ الشهير "أرنولد توينبي" قوله:"القومية لا تستطيع أبدًا أن توحِّد الإنسانية، بل إنها توزعها وتشتت شملها، ومن أجل ذلك ليس لها مستقبل، وأنها لا تستطيع إلّا أن تدفن الإنسانية في ركامها، وأننا إذا أردنا أن ننقذ أنفسنا من الهلاك والدمار فينبغي أن تحتضن الإنسانية كلها من غير استثناء، ونتعلم كيف نعيش كأسرة واحدة"1.

ثم ألَا يعلم القوميون العرب بخصوصهم أن العرب قبل الإسلام كانوا في غاية الأنفة والحمية والفصاحة العجيبة، فما الذي أغنت عنهم، وهل جنَّبتهم غضب الله، أو جنَّبتهم الذل لغيرهم من سائر الأجناس، أليس كان الفرس ينظرون إلى العرب كما ينظرون إلى الحشرات، لا يقيمون لهم وزنًا ولا قيمة، فلماذا لم تدافع عنهم القومية، وهل ستدافع عن المسلمين والعرب اليوم لولا ذوابها؟! وكم دعوا لها وكم لاذوا بها فكانت النتيجة ما نشاهده اليوم من تفرقهم وتشتتهم وذلهم الذي بلغ ذورته مع وصول القومية إلى ذورتها على أيدي ملاحدة البعث ونصارى العرب وغيرهم من مغفلي المسلمين وأصحاب المصالح، الذين أذلّتهم بطونهم ومطامعهم، الذين هم أشبه ما يكونون بالقطط الذين يشبعون، والنمور جياع، ثم أليست شريعة القوميين هي نفسها الشريعة التي كانت في الجاهلية من التعصُّب القبلي -انصر أخاك ظالمًَا أو

1 انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة ص119.

ص: 932

مظلومًا- ومن الدعوة إلى الفجور والفواحش، ومن التعالي والبغي على الناس بغير الحق، ومن تقديس رءوس الكفر واحترامهم، وعدم وجود العزَّة والأنفة التي يتميّز بها المسلم أمام أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، حتى أصبح راضيًا مطمئنًا بأن يتولّى عليه من لا يساوي شراك نعله من ضلال اليهود والنصارى وغيرهم من كبار الفساق؛ لأنَّ شريعة القومية توجب ذلك لأنَّ العروبة حين تجمع بين هؤلاء جميعًا لا يبقى أيّ مزية للمسلم على الآخرين، وهذا المفهوم منطقي مع استبدال الدين بالقومية.

ألم يعلم الأشرار دعاة القومية أنّ المسلمين كانت لهم بالإسلام عزة طأطأ الجبابرة لها جباههم ذلًّا وانكسارًا، وملكوا بها الشرق والغرب، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا راهبين وراغبين، فاغتبطوا به وفازوا في الدنيا والآخرة، وأصبح المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى، وكانوا قلبًا واحدًا، هدفهم واحد، وتفكيرهم واحد، وعبادتهم واحدة، نشروا الإسلام رغبةً في الأجر العظيم من الله لا حبًّا في التملُّك ولا رغبة في السيطرة، حتى أدوا ما أوجبه الله عليهم من نشر دينه وقمع الفساد والمفسدين.

وإذا كنا ننكر الدعوة إلى القوميات عمومًا والقومية العربية بخصوصها، فما ذاك إلّا من شدة الحرص على أن لا تفوت البقية الباقية من عز العرب المسلمين، وليس تجاهلًا لفضل العرب والعربية، وليس ما نذكره هنا في فضل العرب بمبرِّر للافتخار به على طريقة القومية الجاهلية، وإنما هو تبيان للحقيقة.

ص: 933

فالعرب هم أول من أبلوا في سبيل الله: جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وأسدوا إلى البشرية عامَّة ما صلح به أمر دينهم ودنياهم، ولا ننسى كذلك أفذاذًا من غير العرب كانوا إلى جانب الرعيل الأوّل من المهاجرين والأنصار، وقد اختار الله عز وجل نبيه من العرب، وأرسله ورحمة للعالمين، وفضَّله على جميع البشر، كما أنَّ الأماكن التي كان ينزل وحي الله فيها لا شكّ أنها محطّ الأنظار ومهوى الأفئدة.

وقد شرَّف الله اللغة العربية وكرَّمها بنزول القرآن بها، وهو معجزة المسلمين الخالدة، كما لا ننسى ما امتاز به العرب من صفات حميدة سجَّلها لهم التاريخ من الوفاء والكرم وحفظ حقوق الجار والشجاعة والفصاحة، وغير ذلك من الصفات، ولكن يجب أن نتفطَّن لأمر مهم جدًّا وهو أنَّ العربية والعرب ما كانوا شيئًا يذكر لولا الإسلام، فالعربية هي إحدى اللغات في هذه الأرض، والعرب هم أحد الأجناس من هذه الأمم، فلا مزيَّة لهم إلّا بالدين الإسلامي، ولنا أن نسأل الذين يتشدقون بأمجاد العرب قبل الإسلام ما هي، ألم يعترف فضلاء الصحابة بأنَّهم كانوا جهالًَا وفقراء وقاتلين قبل الإسلام، وأن الله رفعهم بالإسلام وأعزّهم به.

والآن تريد القومية العربية إرجاع العرب إلى حالتهم تلك السابقة، إبعادهم عن دينهم ومصدر مجدهم الحقيقي، فأي جريمة سيرتكبونها بحقّ العرب وسائر المسلمين لو تَمَّ لدعاة القومية ما يهدفون إليه، وليت تلك الدعوات إلى القومية الجوفاء كانت دعوة موجَّهة إلى لَمِّ شَعْثِ

ص: 934

المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا في ظل ما يحدق بهم من أخطار تتهددهم على طول تاريخهم، وإلى أن يتكاملوا فيما بينهم في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وإلى أن يكونوا منهم عالمًا قويًّا ثابت الأقدام كما كان أسلافهم، ثم لتكن تسمية هذا المسلك أيّ ما تكون ما دام الهدف واضح المعالم؛ لأنه إذا كانت كلمة الإسلام تجمعهم سيصبحون قلبًا واحدًا وهدفًا واحدًا، ويصبح العربي وغير العربي المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى، وكم ضحى العربي بنفسه في سبيل نجاة أخيه المسلم غير العربي، وكم ضحى غير العربي عن أخيه العربي المسلم بنفسه في ميادين القتال، وكم سجَّلوا جميعًا أروع الانتصارات وأروع الإيثار.

وليتذكر العرب والمسلمون جميعًا تلك المواقف التي سجَّلها المماليك في ردّ الصليبيين عن بلاد العرب والمسلمين، وليتذكروا صلاح الدين الأيوبي وهو من الأكراد، ماذا سجَّل للمسلمين في إرجاع القدس وبلاد الشام ودحره النصارى، وكم كانت من المواقف العظيمة التي خاضها المسلمون من أجناس شتَّى في آسيا وإفريقيا وفي أوروبا دفاعًا عن الإسلام والمسلمين، فكم كان المسلمون سيخسرون لو كانت الدعوة قومية من أول يوم؟

ص: 935