الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: القضاء على الأسر
يزعم الملاحدة أن نظام الأسرة إنما هو ناشئ عن أوضاع اقتصادية مثله مثل سائر القيم والأخلاق، وليس هناك نظام إلهي بشأنه، ولهذا فهو قابل للتطور حسب الأحوال الاقتصادية؛ لأن الأسرة في النظام الشيوعي -حسب تصوراتهم- إنما نشأت عن تطورات متلاحقة حسب تفسيرهم المادي للحياة، كانت بدايتها على الأقسام الآتية1:
1-
أسرة الجيل.
2-
أسرة الشركاء.
3-
الأسرة الزوجية.
4-
الأسرة الوحدانية.
1-
أما أسرة الجيل -كما تصوروها: فيزعمون أن العلاقات الجنسية كانت مباحة بين أبناء الجيل الواحد بين الإخوة والأخوات، ومحرمة فيما دون ذلك، أي بين جيل الآباء وجيل الأبناء، واستمرَّ في هذه المرحلة تصنيف المجموعات الزوجية تبعًا للأجيال: الأبناء جيل، والآباء جيل، والأجداد جيل، والأحفاد جيل، كل جيل لا يتزوج إلّا من جيله، ولا يصح التبادل بين الأجيال.
1 انظر لهذا التقسيم مذاهب معاصرة لمحمد قطب ص302.
ثم حدث تطور جديد فحُرِّمَت فيه العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات بطريقة تدريجية، أي: كان التحريم أولًا بين الأخوة والأخوات من الأم الواحدة، ثم شمل التحريم بعد ذلك جميع الأخوة والأخوات الأباعد، ثم زعموا أنّ أسرة الجيل هذه قد انقرضت.
2-
أما أسرة الشركاء فقد كانت العلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع في شراكة تامّة؛ بحيث أصبح الولد لا يعرف له أبًا أكيدًا، ومن هذه الأسرة انبثقت أسرة العشيرة.
3-
أما الأسرة الزوجية فقد عرفت بمباشرة الرجل لزوجة واحدة في رباط زوجي، ولكن تعدَّد الزوجات والخيانة الزوجية ظلتا من امتياز الرجل، وأما المرأة فتطالب أن تكون على إخلاص تامٍّ للزوج، فإذا زنت عوقبت عقابًا شديدًا، وعند اختلاف الزوجين يرجع الأولاد إلى أبيهم، كما كان الحال في السابق.
4-
أما الأسرة الواحدانية فهي الأسرة التي تقوم على سيطرة الرجل لإنتاج أولاد لا يشك في صحة أبوتهم؛ لكي يحصلوا على إرث مال أبيهم بعد وفاته، وفي هذه الأسرة يكون تسريح الزوجة أو عدمه بيد الرجل فقط، وليس برضى الطرفين كما في رباط الزوجية السابق، وكانت الزيجة الواحدانية تقدمًا تاريخيًّا عظيمًا، وزعموا أن الأسرة الوحدانية لم تقم على الأحوال الطبيعية التي كانت الأحوال الجنسية مشاعة بين الجميع، بل قامت على الأحوال الاقتصادية، وانتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة المشاعة.
ولاشك أن القارئ يدرك تمامًا أن هذا التقسيم وهذا التنظيم إن هو إلّا محض خيال وافتراء، ومن العجيب أنهم يعترفون أن الناس في ذلك الزمن ما كانوا يعرفون الحضارة ولا التقدّم ولا القراءة ولا الكتابة، فمن أين لهم هذه السجلات التي استقوا منها هذه المعلومات الموغلة في القدم، ومن يصدق مثل هذه الترهات {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.
والإنسان في مفهومهم مرة يجعلونه بدائيًّا تافهًا، بل حشرة من الحشرات، ومرة يجعلونه أساس التطور حينما كان يعيش على نظام كل شيء مشاع، ولهذا فهم يريدون أن يرجعوا الناس إلى تلك الحال التي يعبِّرون عنها بالحال السعيدة للمجتمع البشري، والباطل لا بُدَّ وأن يتناقض أهله فيه.
فالأسرة في ظل الشيوعية كما عبَّر عنها "إنجلز" لا تسعد إلّا في حال إلغاء الملكية الخاصة وذوبان الأفراد وكل مصالحهم في المجتمع العام، وظهور شيوعية الجميع في الأحوال والنساء والأطفال الذين تنتقل العناية بهم من الآباء والأمهات إلى المجتمع كلَّه متمثلًا في الدولة -أي: إذا سادت الحياة البهيمية.
يقول "إنلجز": "إن العلاقات بين الجنسين ستصبح مسألة خاصَّة لا تعني إلّا الأشخاص المعنيين، والمجتمع لن يتدخَّل فيها، وهذا سيكون ممكنًا بفضل إلغاء الملكية الخاصة، وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع، ونتيجة
1 سورة البقرة، الآية:111.
ذلك يكون أساس الزواج الراهنان قد أُلغيا، فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها، ولا الأولاد لأهلهم هذه التبعية التي ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة".
وقال أيضًا: "فبانتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة لا تبقى الأسرة الفردية هي الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وينقلب الاقتصاد البيتي الخاص إلى صناعة اجتماعية، وتصبح الغناية بالأطفال وتربيتهم من الشئون العامة، فيعنى المجتمع عناية متساوية بجميع الأطفال، سواء أكانوا شرعيين أم طبيعيين، وبذلك يختفي القلق الذي يستحوذ على قلب الفتاة من جرّاء العواقب التي هي في زماننا أهم حافز اجتماعي -اقتصادي وخلقي- يعوقها عن تقديم نفسها بلا حرج لمن تحب، فلن يكون هذا سببًا كافيًا لازدياد حرية الوصال الجنسي شيئًا فشيئًا، ومن ثَمَّ لنشوء رأي عام أكثر تساهلًا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء"1.
فانظر هذا الكلام الساقط كيط أراد أن يضحي بكل شيء في تغيير حياة البشر، ويقلبها رأسها على عقب في سبيل أن يمحو من الأذهان شرف العذارى وعار النساء، هذا هو الحل الذي اقترحه المجرم "إنجلز" في قضائه على الشرف والحياة والحشمة عند المرأة، وهذا هو مبلغه وأشباهه من العلم، وكأن الحياة كلها متوقفة على وجود حرية الاتصال الجنسي شيئًا فشيئًا إلى أن يتحول إلى رأي عام أكثر تساهلًا فيه، وعندها تتم السعادة ويمحى شيء اسمه العار أو الحياء أو الحشمة؟!
1 انظر مذاهب فكرية معاصرة ص304-305.
وإذا كان يحصل هذا في المجتمع المتحرر عن الملكية الفردية، فلا يرد عليه -في مفاهيم- المجتمع الزراعي وتعاون أهله فيما بينهم للضرورة إلى هذا الترابط الأسري؛ لأن ترابط الأسرة في المجتمع الزراعي أمر بدهي يتطلبه الرغبة في إتقان العمل وزيادة الإنتاج الذي يحتاج بدوره إلى تكاتف الأيدي العاملة، فهذا يحرث، وذاك يحصد، وهذا يقوم بعملية الري، وذلك بتحسين المزروعات، وآخر بتخزينها، وهكذا تفرض عليهم هذه الحالة تكاتفًا أسريًّا قويًّا، ولكن حينما جاء المجتمع الصناعي تفكَّك أمر الأسرة، وذلك لعدم الحاجة إلى ذلك التكاتف الذي نشأ في العهد الزراعي.
فإن العمل في الصناعة يقوم على الفردية واستقلال كل شخص بعمله، دون اشتراط وجود آخرين إلى جانبه، فعمله خاص به وهو مسئول عنه وحده، ويأخذ أجره على العمل وحده كذلك، وهذا يشمل أيضًا المرأة حينما تعمل.
وبالتالي فالمجتمع هنا يصبح كل فرد فيه حرّ ليس له علاقة بغيره، إن أراد الرجل بقاء صداقته مع زوجته فله ذلك، وإن أراد تركها فله بكل يسر، والمرأة كذلك لها أن تقطع علاقتها الزوجية في أي وقت شاءت، فعملها ووظيفتها وما تملكه من المال يجعلها لا تكترث بأي علاقة دائمة مع أي شخص، سواء أكان الزوج أو الأولاد أو الأقارب أو الأجانب عنها، وبالتالي فالعلاقات الجنسية الحرة هي السمة البارزة لهذا المجتمع الصناعي -أي: الإباحية والفجور، وهذه هي النتيجة التي يعيشها العالم المادي الملحد، حالة من التفكك الأسري والإباحية والتمرد على كل شيء، مجتمع نزعت منه الرحمة وصلة ذوي القربى والعاطفة نحو الآخرين والعفة والحياء، ولهذا
أصبحوا أحطّ من الأنعام، قال تعالى:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 1؛ لأن الأنعام يعطف بعضها على بعض أقلَّ شيء في مرحلة الصغر، فالدابة ترفع حافرها عن ولدها، بينما هؤلاء يرمون بأولادهم في المحاضن الحكومية، وبعضهم يرمونهم في الأدوار العلوية لبيوتهم، أو يحبسونهم في البيوت حتى الموت كما سمعنا وقرأنا في المجلات والنشرات، وهي صور لا يطيق العاقل سماعها لبشاعتها وهولها.
والمحسنون منهم يرمون أولادهم في الحضَّانات الحكومية، ولا يفكرون فيهم بعد ذلك، وهذا هو ما كان يريده الشيطان الرجيم "كارل ماركس".
- تعقيب:
لقد داس الملاحدة كل القيم؛ إذ لا وجود لها عندهم إلّا من خلال ما تمر عليه الظروف الاقتصادية التي هي المؤسس الحقيقي بزعمهم لكل1 القيم والأخلاق والأسرة والدين وسائر العلاقات كما عرفت سابقًا، ومن هنا ساغ لهم القول بأن الملكية الجماعية الشيوعية في زمن الشيوعية الأولى البدائية كانت صوابًا؛ لأنها كانت هي الوضع الحتمي لذلك الوقت، ثم تغيَّرت بفعل التطور إلى ملكية فردية، وكانت كذلك مرحلة مرَّت، ثم نشأ الرق والإقطاع والرأسمالية، فكانت كل منها صوابًا في وقتها يحصل التناقض الحتمي، ومع القول بحتمية وقوع كل مرحلة إلّا أنهم يقولون: إن كل مرحلة جديدة تجعل السابقة خطأ يجب تركه ومحاربته بعد تجاوزها، إلى أن تصل إلى الشيوعية الماركسية، فتستقر حينئذ الأوضاع، ويدخل الناس في السعادة الشيوعية!
1 سورة الفرقان، الآية:44.
وكذلك سائر القيم من العفَّة وسيطرة الأب والتدين وترابط الأسرة والتعاون الجماعي، كل ذلك كان صوابًا في وقته، ولكن بعد سرعة التطور والوصول إلى الشيوعية الماركسية يجب أن تعتبر تلك القيم كلها باطلة ويجب محاربتها؛ لأنها لم تعد مناسبة للأحوال الاقتصادية للمجتمع الشيوعي الجديد -أي: بعد تلك التطوارت الخيالية- التي تصورت في أذهانهم عن نشأة الكون وما فيه، وكذا القيم والأخلاق وسائر أنواع السلوك، وهكذا وقف الملاحدة ضد الأسرة كما وقفوا ضد الدين؛ إذ الأسرة لا تبعد في الواقع عن التدين؛ ولأن معنى قيام الأسرة منع الفوضوية الجنسية التي ينادي لها الملاحدة، وقيام الأسرة يحد من ذلك بطبيعة الحال.
كما أنها كذلك تثير مشاعر الأثرة في الوالدين، وتقوي حب التملك من أجل توريث الأولاد ما يملكه الوالدان، ومعنى هذا العودة إلى نشوء الملكية الفردية، وهو ما تحاربه الشيوعية بكل ضراوة، وتبعًا لبغضهم الملكية الفردية فإنه يجب أن يبغض كل شيء يمت لها بصلة، ومن جهة أخرى فإن البديل للأسرة في النظام الشيوعي هو الولاء للدولة والذوبان في النظام والحزب والزعيم والوطن، وليس غير ذلك، بينما نظام الأسرة يشكِّل ارتباطًا آخر غير هذا الارتباط العام الذي لا تسمح الشيوعية إلّا به؛ لأن النظام الشيوعي -ومثله النظم المتجبرة- تريد أن يكون كله في طاعة عمياء للحزب، وولاء مطلق لهم، وجواسيس على بعضهم بعضًا، لا يخرج عنهم أحد، ونظام الأسرة لا يسمح بتنفيذ هذا كما يريدون، فالأسرة لا تسمح بأن يخل بنظامهم الاجتماعي أي أذى، وهذا يحد من نشاط الجاسوسية الدقيقة على كل فرد من أفراد المجتمع، كما أنه يحد من استعباد الدولة للشعب والقضاء على
الأسرة من الضمانات التي يعتمد عليها النظام الشيوعي في تربية الأولاد منذ نعومة أظفارهم على الولاء الكامل للدولة والحزب والزعيم، وليس وراء ذلك أي ولاء لأحد.
ومن العجيب أنهم يسمون الجهل والتخبط القائم على غير دليل صحيح نظريات علمية أو أبحاثًا علمية، فترى الكثير من الناس يسارع إلى تقبل تلك النظريات دون أن يكلف نفسه السؤال عن مدى صحة تلك الدعايات، وهل هي فعلًا نتجت عن علم حقيقي، أم عن تخطيط مدروس للإجهاز على القيم والأخلاق والتديُّن باسم العلم والتقدم.
إن كان ما جاء به الملاحدة من مزاعم عن بدء الأسر وتكونها، وأنها مرَّت بفترات أولها الشيوعية الأولى، ثم بدأت الأسر تتكون بفعل التطور الاقتصادي كما يزعمون، إن هو إلّا كذب وجرأة على تشويه تاريخ الأمم، لا يستندون فيه إلّا على ما تخيلوه في أذهانهم المريضة، وما يزعمونه أيضًا من وجود تلك الشيوعية في بعض القبائل المتأخرة التي عثر عليها في آسيا وإفريقيا واستراليا في القرنين السابقين، إن صدقوا، ولكن هل انحراف هؤلاء يكفي دليلًا لتلطيخ تاريخ البشرية كله بسبب انحراف جماعة هنا أو هناك؟
إن تفسير الملاحدة لقيام الأسرة بأنه عن دافع اقتصادي فقط هو قول باطل وقصور واضح، مع العلم أن للأوضاع الاقتصاية جانب مهم في حياة الناس، ولكن ليس هي كل شيء في حياتهم، بل هي أحد العوامل في حياتهم الواسعة الشاملة التي لا يمكن أن تنحصر في جانب واحد، وكذلك فإن قيام الأسرة لم يكن سببه فقط الدوافع الجنسية والاقتصادية، بل له أسباب كثيرة
تتطلبها فطرة الإنسان وما جبلت عليه من حب الهدوء والألفة وبناء الحياة والأنس بالآخرين، وحب التكامل، وحب تربية الأطفال، التي لا يمكن أن تتكامل تكاملًا صحيحًا جسديًّا وعقليًّا في غياب الأمهات عن أولادهن، وترك الأولاد للمحاضن الجماعية التي هي أشبه ما تكون بتربية قطعان الحيوانات دون شعور بالحب والعطف، والراحة النفسية التي يجدها الطفل في حضن أمه.
وما تقدَّم إنما هو إشارة إلى أن تكوين الأسرة لم يكن ناتجًا عن النظرة الاقتصادية فقط -كما زعم الملاحدة، بل لأسباب نفسية كثيرة أرادها الله عز وجل، وفطر النفوس عليها، ومن شذَّ عن هذا السلوك فهو شاذ، ولهذا لا يشعر الإنسان بتلك السكينة والطمأنينة التي يجدها في بيته وبين أطفاله مهما وجد من المتع الجنسية عن طريق الحرام، ومهما ملك من الأموال، كما أنه لن يجد حلاوة ذلك التنظيم الإلهي لتكوين الأسرة وتكافلها فيما بينها، وقيام الرجل بواجباته خارج البيت، وقيام المرأة بواجباتها داخل البيت، وتصريف الأولاد في الأمور التي يطيقونها، وما ينشأ عن ذلك من الهدوء والسكينة والتعاون الذي حُرِمَ منه أولئك المعاندون للفطرة وللعقل ولأحكام الله عز وجل.
لقد نسي أولئك الملاحدة أو تناسوا عمدًا أنَّ الذين أقبلوا على الفوضى الجنسية وقطع العلاقات الأسرية، نسوا أن هؤلاء يعيشون عيشة ملؤها القلق والاضطراب والأمراض العصبية، مع توفر كل ما يطلبونه من المتع الجنسية ومن المال أيضًا، وإلّا لماذا يبادر أولئك إلى الانتحار المتتابع -وما أكثره في أوروبا- بين الرجال والنساء والأحداث، وما أكثر ما يتأوه عقلاؤهم من أوضاعهم التي تزداد سواء كلما ازداد تفكك الأسرة وفشت الجرائم تحت تسمياتهم الخادعة "حرية، مساواة، ديمقراطية
…
إلخ"، ما خدعوا به
الناس، وأخرجوهم عن فطرهم التي فطرهم الله عليها، إلى الشقاء وتأنيب الضمير.
ومثل ذلك التفسير السخيف بقيام الأسر تجده تمامًا في تفسيرهم للحفاظ على الأمور الجنسية والقيم والعادات المتعلقة بذلك من العفة وغض النظر وحفظ الفرج بأنها عقبات، وأن السبب في كل هذه العقبات أمام شيوعية الجنس إنما يعود إلى المجتمع الزراعي؛ حيث إن الرجل يغار على زوجته وابنته بدافع سيطرته وامتلاكه لأمور البيت الاقتصادية، فهو المكتسب وهو الذي يتعامل مع الحياة كلها في خارج البيت، بينما تكون المرأة حبيسة البيت، ليس بيدها أيّ مصدر إلّا عن طريق الرجل، وهنا فرض الرجل على المرأة العفَّة قبل الزواج وبعده، وأن تكون له وحده حين يتزوج بها، ومن هنا أصبحت العفة فضيلة خلقية واجتماعية مهمَّة في مثل هذه المجتمعات، ولكن حينما ظهر المجتمع الصناعي لم يعد الرجل يفرض على المرأة تلك العادات والأخلاق الجنسية بسبب انقلاب الأمور الاقتصادية؛ حيث دخلت المرأة ميدان التكسُّب والعمل والوظيفة، وصارت تملك المال الذي حرَّرها من قبضة الرجل، فلم يعد يملك مطالبتها بالعفَّة لا قبل الزواج ولا بعده، ولا أن يطالبها بأن تكون له وحده، فهي زميلة في العمل، وقد تملك من المال أكثر مما يملك، ولها حق التصرف بحرية تامة في مالها وفي نفسها دون أيّ اكتراث بالعفة أو الفضيلة، فقد تحرَّرت في المجتمع الصناعي لتغير الأحوال الاقتصادية، فلم تعد كما كانت في المجتمع الزراعي عالة على الرجل في كل شيء، وبهذا التفسير الإلحادي الشيوعي لا يبقى مجال للقول بأن العفة والأخلاق نشئت عن أمر إلهي أو ديني، بل عن أمر اقتصادي، والقارئ يدرك
تمامًا أن هذه الافتراضات إنما هي أكاذيب وخيالات، فإن أمر الحفاظ على العفَّة وسائر القيم أمر فطري في الإنسان وفي سائر الحيوانات التي لا تهتم بالأمور الاقتصادية، فنرى ذكر الحيوان يغار على أنثاه ويدافع عنها، وترى الأنثى تحترم الذكر وتعطف على أولادها، سواء أكانت تملك قوتها أو لا تملكه، وقد أخبر الله عز وجل عن وجود هذه الأمور في نفوس الناس منذ أن أوجدهم، ولهذا لا يمكن أن تجد امرأة مستغنية عن الرجل مهما كان مالها، ولا الرجل كذلك يستطيع أن يستغني عن المرأة مهما كان ماله، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالسعادة ليست فقط في وجود المال، بل قد يكون المال مصدر شقاء لصاحبه، ولك أن تسأل ماذا حصل للرجل والمرأة حينما دخلا معترك الحياة، وصار كلٌّ يحتطب لنفسه من المال ما يستطيع الحصول عليه، ومباح لكل منهما أن يعاشر من يريد عن طريق الإباحية الجنسية، أليس كل واحد منهما أحسَّ بأن الحياة في هذا السلوك رخيصة لا تساوي شيئًا، فرجعا إلى رباط الزوجية ليجدا فيه الأنس والراحة النفسية التي فقداها عن طريق الإباحية أو المال؟
وكان أولئك القساة القلوب لم يسمعوا بشكاوى من غرَّتهم المادية وجمع المال، ولا أنين تلك المرأة التي منعت نفسها من الزواج وجمعت المال والشهادات ما أحبت، فما أحسَّت بتجازوها مرحلة الإنجاب بدأت تبكي وتقول للناس: خذوا هذه الشهادة وخذوا أموالي وأعطوني طفلًا يقول لي: يا أمي، أشعر بالأنس إلى جانبه، أزيلوا عني آلامي وما أحس به من وحشة هذا المجتمع الذي لا يرحم ولا يحترم إلا الأقوياء فقط، ولكن أنَّى لأصحاب الأهواء آذانٌ صاغية تسمع أو قلوب تعقل.