الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس عشر: القومية
الفصل الأول: المقصود بالقومية
…
الفصل الأول: المقصود بالقومية
القومية فكرة وضعية نشأت أول ما نشأت في البلاد الأوروبية شأن غيرها من الحركات والأفكار التي تبحث عن التفلُّت من رابطة الدين، ويلاحظ أن دعاتها قد اختلفوا في المفهوم الصحيح لها، هل هي بمعنى تجمُّع أمة من الناس وارتباط بعضهم ببعض هدفًا وسلوكًا وغاية، إمَّا لانتمائهم إلى لغة واحدة -كما يرى القوميون الألمان، وإمَّا لانضوائهم في عيشة مشتركة -كما يرى القوميون الفرنسيون، أم أنها لكليهما، أو أنها لغير ذلك من أمور سياسية واقتصادية؛ كالاشتراك في المعيشة الاقتصادية -كما يرى الماركسيون، أو الاشتراك في التاريخ واللغة في البلد الواحد -كما يرى كثير من دعاة القومية العربية ساطح لحصري ومن سلك سبيله، بحيث يحسون أنهم جميعًا كتلة واحدة، وأن ما يجري على البعض من آلام وآمال هو ما يجري على الكلّ، فتقوم قوميتهم على هذا المفهوم.
إنه خلاف مرير بين القوميين على تعريف القومية، ولكنهم جميعًا متفقَّون على أن إبعاد الدين خصوصًا الإسلامي أمر حتميّ لانتعاشها.
والقوميون العرب دائمًا يصرخون بأن الدعوة القومية ليس معناها الدعوة إلى الدين؛ لأنَّ كل الناس عباد لله تعالى، وكلهم يريدون الحياة السعيدة في الدنيا، وما بعد الحياة الدنيا، وهذا لا شأن للقومية به، بل
يعتبرون الدعوى إلى الدين دعوى ناقصة عن تحقيق طموحات القوميين، بل إنها رجعية في نظرهم، ويجب فصله عن الدولة أيضًا انسياقًا مع مفاهيم الحركات الأوربية التي قامت في البداية على القومية وحرب الدين، بل وصل طمع دعاة القومية أن تكون بديلًا عن النبوات، وأنَّ نبوة القومية يجب أن يبذل لها كل غالٍ ورخيص، وأن يكون الإيمان بها أقوى من كل الروابط، وجعلوها في الكفة الأخرى مع الإيمان بالله تعالى، وأنها يجب أن تكون هي الديانة لكل عربي، وأخذوا يتباكون على مصير العرب حينما لا يتم تحقيق هذا الدين الجديد الذي سيخلص العرب من كل سيطرة أجنبية، ويرفعون رءوسهم عالية أمام كل أجنبي -ليس بعربي "بزعمهم"، ولا ريب أنها دعوات جاهلية ليس وراءها إلّا الخراب، سواء أكانت الدعوة إلى القومية أو إلى الوطنية، فلا عزة للعرب ولا استرجاع لحقوقهم إلّا بالتمسك بالدين الحنيف.
إن القومية والوطنية كلتاهما نعرتان جاهليتان خرجتا من أوروبا الجاهلية، وفي هذا يقول فرنارد لويس:"فاللبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشعوبية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقْلَمَها وعدَّلَها أتابعها في الشرق الأوسط"1 أحلَّها القوميون والوطنيون محل الدين، ورأوا أن الاجتماع عليها خير وأنفع من الاجتماع على الدين، وذلك للاختلاف الواضح بين الناس في قضية التدين -حسب زعمهم، بخلاف القومية والوطنية
1 العرب والشرق الأوسط، تعريب د. نبيل صبحي، ص179، عن فكرة القومية، صالح العبود ص365.
التي تضمّ كل أفراد القوم وجماعاتهم ليكونوا مجتمعًا واحدًا لا خلاف فيه لاتحادهم التامّ في الانتساب إلى القومية، أما الوطنية التي تقبل كل تناقضات المذاهب المختلفة، وهي في الواقع لا تقبلها كما يدّعون، بل ترمي بها كلها وتؤخذ بدلًا عنها شعار القومية والوطنية، ومن هنا قدَّسوها ورفعوها فوق كل اعتبار، واجتمعوا على التفاخر والتباهي بها، حتى صار كل قوم يدَّعون أنهم هم أفضل الجنس البشري وغيرهم في الدرجة الدنيا، ولهذا تسمع وتعجب حين يفتخر كل قوم أو كل شعب بأنهم أرقى أمة وأفخرها، فما دام قد انحلَّ الوكاء فما الذي يمنع كل جنس أو قوم من الافتخار بل والتعالي على الآخرين، راكبين كل صعب وذلول في تقرير ذلك، فكثرت تبعًا لذلك القداسات المزيَّفة لهذه الفئات من البشر، كما كثرت الأماكن والأرضي المقدَّسة عندهم، كما يقتضيه شرع القومية والوطنية.