الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: ما مدى صحة نظرية سيادة الشعب
؟
هل تحققت السيادة للشعوب كما تنادي بها نظرية السيادة، أم أنها انحصرت في فئة خاصَّة هي المجالس النيابية والبرلمانية ورئيس الدولة، الواقع أن القضية صارت ذات جانبين هما:
1-
سيادة الأمة:
فبالرغم مما صادف نظرية السيادة من الحماس الشعبي وتطلُّع الشعوب إليها بشوق، واعتقادهم أنها المنقذ الوحيد لهم، والمصدر الحتميّ لنيل حرياتهم، فقد وجّهت انتقادات مباشرة إلى هذا النظرية في طور سيادة الأمة، وصدق الله عز وجل في قوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 1 فوصفوها بأنها تتسم بتضييق دائرة الحرية؛ إذ لا يجد أفراد الشعب أيّ مجال لإظهار حريتهم إلّا مرة واحدة، وهي المرة التي يحقّ لهم فيها الذهاب إلى صناديق الاقتراع لاخيتار مرشحيهم للسيادة، وبعدها ينتهي دور حرية الشعب السياسية التي تتعلق بعموم مصالح الشعب، كما أن العضو الذي تختاره الجماعة نائبًا عنهم يصبح بحكم عدم تجزأه السيادة موظَّفًا فرديًّا في المجموعة المنتخبة، وبالتالي فلا تستطيع تلك المجموعة التعبير عن كلِّ ما تتطلَّع إليه أممهم من خلال
1 سورة النساء، الآية:82.
مرشحيهم لسيادة الأمة، كما أنه لا يبقى في السيادة إلّا الأعضاء الذين لا ارتباط لهم بالمصالح الطبقية أو النزاعات أو الأهواء الأخرى، وكأنَّ هؤلاء سلطة متميزة عن الشعب تمامًا، فلا يفكرون في مصالح أممهم، ولا يشاركونهم في آلامهم وآمالهم.
ولهذه الانتقادات تطوَّرت فكرة السيادة من سيادة الأمة إلى سيادة الشعب.
2-
سيادة الشعب:
وقد راقت هذه الفكرة لكثير من الناس باعتبار أنها تحقِّق مشاركة شعبية أكثر تلاحمًا من سيادة الأمة، التي أدَّت إلى تضييق دائرة الحرية السياسية وحصرها في صفوة مختارة قد لا تهتم بمصالح الشعب كما يجب عليها، فاختاروا سيادة الشعب، وذلك من خلال مشاركة الشعب في أخذ رأيه في أيّ قضية تطرح للاستفتاء على إقرارها أو رفضها، بغض النَّظر عن رأي الصفوة المختارة الممثِّلة للشعب في سيادة الأمة، فهذه السلطة كأنَّها مشاركة بين الدولة وأفراد شعبها، كما أصبح النائب الممثل لدائرته الانتخابية يملك التعبير عن دائرته لتمثيله لذلك الجزء من السيادة الذي يملكه ناخبوه، بعد أن كان في ظل سيادة الأمة لا يملكه إلّا من خلال إجماع أمة السيادة المختارة، كما أتاحت هذه النظرية مشاركة شعبية فعَّالة عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو الاعتراض الشعبي، أو طلب إعادة الانتخاب، أو طلب حل الهيئة النيابية ونحوه، ولكن ما مدى صحة هذا الكلام؟
الواقع أنه قد وجدت الفوضى والأحقاد مرتعًا خصبًا في ظلّ هذه السيادة أيضًا، كما وجدت لها الدعاة والمشرعين والمنفذين مكتسحة في طريقها كل نظام يخالفها، وبالأخص أنظمة الكنيسة وتعاليمها وأخلاقها وآدابها إثر ذلك الصراع المرير مع رجال الكنيسة، الذين استأثروا بكل شيء وأذلّوا الأمة من خلال فرض طاعتهم المقدَّسة، فتمردوا على تلك الطاعة المقدَّسة ونسفوا في طريقهم كل شيء يمتُّ بصلة إلى الدين أو القداسة الناشئة عنه، واستبدلوا به قداسة نظرياتهم، وجعلوها هي السيد المطاع المقدَّس صاحبة السلطان المطلق، المكتسبة لقداستها من ذاتها أولًا وأخيرًا، ولها حق التشريع في كل أمور الحياة بعيدًا عن الدين الذي حلَّ محله القانون أو الأمة أو الشعب، وجعلت هذه هي الإله الجديد، وقد وصفوا هذه النظريات بكلِّ صفات الإلوهية وقداستها، ووضعوا ما يحلو لهم من التشريع تحليلًا وتحريمًا وأمرًا ونهيًا دون الرجوع إلى أيّ مصدر كان -غير أهوائهم، فتحوَّل التأليه الذي كان يمارسه الرهبان على الناس، تحوَّل إلى تأليه عامَّة الشعب واعتبار ما يوافق عليه الشعب هو الحق المطاع تحليلًا وتحريمًا دون معارضة، وداروا في حلقات مفرغة ونظريات مضطربة متناقضة، كلما عنَّ لهم سراب مشوا إليه، ورحم الله من قال:"من تتبَّع آراء الرجال كثُرَ تنقله" فلم يتحقق الغرض الذي قامت من أجله حركة السيادة الشعبية على الحقيقة؛ إذ لا يستدعي الشعب لبيان آرائهم إلّا من خلال خطة مدروسة من قِبَلِ السياسيين سلفًا، فكأن التصويب من قِبَلِ الشعب إنما هو لأخذ توقيعاتهم بعد أن هيَّأهم السياسيون لذلك، من حيث تشعر الشعوب أو لا تشعر، ولا تنسى المقولة المشهورة:"رضى الناس غاية لا تدرك".