الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: هل المسلمون في حاجة إلى الديمقراطية الغربية
؟
إن الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج إلى تفكير من قِبَلِ أيّ مسلم لم تدنّس فطرته الشبهات، لقد قامت الحياة في الدول الغربية على المناداة بالديمقراطية سلوكًا ومنهجًا في كل شئون حياتهم، وصار كل سياسي يتباهى بتطبيقها، والرغبة في تصديرها، والواقع أنه قد يكون للغرب ما يبرر كل هذا السلوك؛ لأنهم ليسوا على شيء، فلم يعرفوا من النظم إلّا هذا النظام الذي اكتشفوه وفرحوا به لعدم معرفتهم بما هو أفضل منه، وهو الشرع الحنيف الذي أكمله الله ورضيه لنفسه ولعباده دينًا وسلوكًا، وإذا كان للغرب والنظم الجاهلية ما يبرر هذا السلوك، فإنه لا مبرّر لانسياق الكثير من النظم الإسلامية ومن بعض المفكرين من المسلمين إلى اتِّباع أولئك، بعد أن منَّ الله عليهم بأفضل دين وأكمله، وأفضل نظام اجتماعي وأعدله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2، وإحكامه غاية العدل {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. يتركون هذا المعنى الفيَّاض ثُمَّ ينساقون إلى نظام ثَبَتَ فَشَلُه، ويتركون نظامًا صالحًا إلى يوم القيامة، مضى عليه سلفهم فكانوا مصابيح الدُّجَى ومشارق الأنوار.
1 سورة المائدة، الآية:50.
2 سورة النساء، الآية:65.
إن الشرع الإسلامي يستهوي بعدله ورحمته وشموله حتى أعداء الإسلام، فإذا بهم ينساقون إليه مذعنين، بل ويصبحون من جنوده البواسل حينما قارنوا بين ما جاء في الإسلام وبين النظم الجاهلية التي تقود البشر من شقاء إلى شقاء؛ لأنها من صنع البشر الذين قصرت أفهامهم، والتبست عليهم الأمور، وهؤلاء حُجَّة على أولئك الهاربين إلى الديمقراطية دون أن يعلموا شيئًا عن الإسلام وعن تعاليمه الشاملة، لقد انبهر الكثير من المسلمين ببريق الحضارة الغربية وصناعاتها المادية، فظنوا أنّ ذلك إنما هو بسبب ما عندهم من الأنظمة، ولم يفطنوا إلى أنَّ سبب ذلك إنما يعود إلى نشاط الغرب وشحذ هممهم وإصرارهم على اكتشاف خيرات الأرض والاستفادة منها، وطرقهم لآلاف التجارب دون كلل أو ملل مهما واجهتهم من المصاعب، كلما فشلوا في تجربة صناعية زادهم ذلك إصرارًا على إعادة الكَرَّة، والله عز وجل لا يضيع عمل عاملٍ من ذكر أو أنثى، فأعطاهم الله من الدنيا على قدر عزمهم، بينما المنتظرون من المسلمين للحضارة الغربية يغطُّون في سباتهم، فلمَّا أفاقوا على هدير مصانع الغرب وإنتاجهم ألقوا باللائمة على الإسلام ظلمًا وزورًا، وظنُّوا أن هذا التبرير يبقي على ماء وجوههم، فإذا بهم لا ظهرًا أبقوا ولا أرضًا قطعوا، فلا هم بقوا على إسلامهم وتلافوا أخطاءهم، ولا هم لحقوا بالدول الغربية في إنتاجها المادي، وكان يجب عليهم أن يعرفوا أن الإسلام الذي عاش عليه ملايين البشر في القرون الغابرة على أحسن حال وأعدل نظام لا يزال كذلك على مَرِّ الدهور عاش عليه البشر قبل أن يظهر قرن الديمقراطية التي يريدون إحلالها محله، والتي قامت من أوّل أمرها على محاربة الدين وخداع الجماهير للوصول إلى الحكم بأي ثمن يكون، واعتبار ذلك فوزًا أو مغنمًا، بينما الإسلام لا
يجيز الخداع ولا النفاق، ولا يجيز الاحتيال على الناس وابتزازهم، لا في دينهم ولا في دنياهم، بل يعتبر الوصول إلى سدة الحكم أمانة عظيمة حملها ثقيل ومزالقهاخطيرة، ولا يعتبر الوصول إليه فوزًا كما نسمعه في تطالب الديمقراطيين للوصول إلى الحكم، فتذكَّر أخي القارئ ما قاله أبو بكر رضي الله عنه حينما ولي الخلافة:"لقد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أعوججت فقومني"، وكان عمر دائم التأوُّه من حمل ثقل الخلافة، وكان أسلافنا من أعلام الإسلام يفِرُّ أحدهم من أخذ الحكم، كما يفِرُّ أحدنا من الأسد أو أشد، لا جهلًا به ولا خوفًا من مشقته، إنما هو الخوف من الله عز وجل أن يقع فيما لا يوافق الحق، فإذا تَمَّ انتخاب الخليفة أسدوا إليه النصحية وآزروه، راضين مطمئنين بحكمه، لا يجوزون عصيانه ولا الخروج عليه، ولا تشكيل حزب معارض له ما دام يشهد الشهادتين ويطبق أحكام الإسلام، حتى وإن كانت له معاصي وكبائر، فهو محل طاعتهم، وأمره إلى الله مع محاولتهم بيان الحقّ وإسداء النصحية له.
حتى إذا جاءت الديمقراطية فإذا بأقطابها يتهارشون عليها ويخادعون الناس وينافقون، ويعدون بما لا يفعلون -وإذا بالناس غير الناس والقلوب غير القلوب- وكأنَّ حال الإسلام والمسلمين يقول:
ذهب الذين إذا رآوني مقبلًا
…
هشوا إليَّ ورحبوا المقبل
وبقيت في خلف كأن حديثهم
…
ولغ الكلام تهارشت في المنزل
إن الحاكم في الإسلام مؤتَمَن مصالح المسلمين، وليس له أكثر من كونه منفذًا لا مشرعًا؛ لأن التشريع إنما هو لله عز وجل، وبذا يضمن الحاكم
والمحكوم على حد سواء الخوف من الوقوع في الجور، أو انتشار الفساد، وتفكك المجتمع، والفرقة التي تنشأ في الغالب من البعد عن هدي الله عز وجل وهدي نبيه الكريم -صلوات الله وسلامه عليه، وهذا بخلاف الديمقراطية التي يكون الحاكم فيها مشرِّعًا من دون الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1.
فإذا طبَّق الشعب والحاكم هذه المفاهيم كانوا صخرة قوية تتحطَّم عليها كل آمال الحاقدين وأعداء الملة، وعاشوا في سعادة ووئام كأنَّهم أسرة واحدة.
والحاصل أن ظهور الديمقراطية في الغرب كان أمرًا حتميًّا في مواجهة نظام الإقطاع وصرامة رجال الكنيسة واستعبادهم للشعوب، وإذلالهم لكرامة الإنسان؛ إذ كانت الطبقة الغنيّة تستبعد الطبقة الفقيرة، بل كانوا يعتبرون الفقراء جزءًا من أملاكهم، وحينما جاءت الأنظمة الاشتراكية والشيوعية ازداد الأمر سوءًا، وازداد استعباد الطبقات المسيطرة على المستضعفين
1 سورة يوسف، الآية:40.
2 سورة النساء، الآية:65.
3 سورة النساء، الآية: 59
فلما جاءت الديمقراطية الغربية نظرت إليها الشعوب المستعبدة على أنها هي الأمل لخلاصهم مما هم فيه من الشدة، ورأوا أن الالتفاف حول النظام الديمقراطي خير من القبضة الحديدية في النظام الإقطاعي، أو البابوي الجبار، أو الشيوعي البغيض، ولهم عذرهم تجاه ذلك، فإن تلك الأنظمة كانت شرًّا محضًا لا خير فيها، وكان استبدالها أمرًا يفرض نفسه، ومبرراته واضحة، إلّا أنهم لم يهتدوا إلى الحق وإلى النظام الصحيح الذي ينقذهم مما هم فيه من الشقاء.
- أثرها على الأوربيين والحكم عليها:
يتبين الحكم عليها من خلال جانبين هما:
1-
الجانب الإيجابي على الأوربيين.
2-
الجانب السلبي عليهم.
أما الجانب الإيجابي:
فقد عرفت حال أهل أوربا حينما كان رجال الدين وزعماء الإقطاع هم المسيطرون، ومدى ما قاسته الشعوب على أيديهم من أنواع الظلم الفادح والغبن الفاحش، وأنَّ أولئك الطغاة لم يستيقظوا إلّا على تلك الأوضاع -وهم على صواب في ذلك- غير ما أخذ عليهم من أنهم لم يتوجَّهوا الوجهة الصحيحة التي تضمن لهم الخروج النهائي عن حكم البشر بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله تعالى، كما
تبين من خلال الدراسة السابقة، وقد عرفت أنهم أخذوا ينبشون عن أمجادهم السابقة علَّهم يجدون الخلاص، فكان ذلك الخلاص هو العودة إلى الديمقراطية القديمة التي أماتها رجال الدين النصراني حينما كانت الغلبة لهم، فكان أن استبدلوا بجاهليتهم القديمة جاهليتهم الحاضرة، وتحت هذه الدعوى الخيالية -حكم الشعب نفسه بنفسه- بدءوا يرتِّبون لترقيتها وتطويرها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، بل واجتذبت إلى صفوفها أعداد غفيرة، بعضهم ما كان في حاجة إلى السير في ركابها كما كان الأوربيون في حاجة إليها حقيقة، وأنَّ الأوربيين بدءوا في تنظيم حياتهم من نقطة الصفر، كلما حققوا مكسبًا تطلعوا إلى غيره، ولا يأخذونه إلّا بعد جهاد مرير، وتلك المكاسب استخرجوها بقوتهم لم تمنحهم إياها الديمقراطية ابتداءً كما يتصور البعض أن الديمقراطية مذهب نشأ في صورته الحالية، وأنه لا ينقصه إلّا التطبيق، ومهما كان الأمر، فإن ما وصلت إليه الشعوب الأوربية رغم نقصه يعتبر نصرًا مؤزرًا لهم، وفاتحة طيبة للخلاص من حكم الإقطاع والبابوات الظالمين، وبعض الشر أهون من بعض كما تقدَّم ذكره، وما تقدَّم يمكن أن يعتبر جانبًا إيجابيًّا في الديمقراطية بالنسبة للغرب، رغم ما فيه من سلبيات.
أما بالنسبة للجانب السلبي منها:
فقد تبيَّن من خلال الدراسة السابقة أن الديمقراطية تحمل في ظاهرها بريقًا خلابًا، ولكن في حقيقتها هي عكس ذلك.
1-
أما بالنسبة لموقف السلطة وأصحاب الجاه والثراء فقد اتضح أن هؤلاء
عرفوا كيف يحتالون على الشعوب ويوجهونهم لمصالحهم الخاصَّة قبل مصالح الشعوب الحقيقية؛ بحيث يوهمون الشعوب أنَّهم حصلوا على كل ما كانوا يطالبون به، وكان الرابح الحقيقي هم السلطة.
2-
أمَّا ما تحقَّق في ظل الديمقراطية من التشجيع على الفساد الأخلاقي تحت تسمية الحرية الشخصية، وما تحقق لهم من الدعوة إلى الإلحاد تحت تسمية حرية الكلمة، أو حرية الأديان، فإنه لا يعتبر مكسبًا حقيقيًّا، بل الصحيح أنه خسارة فادحة، وإن سموه مكسبًا، وهذا باعتراف عقلائهم.
3-
ما تحقق من الابتعاد التام عن الالتزام بالدين أو التحاكم إليه إنما هو رجوع إلى الجاهلية التي يزعمون أن الإنسان البدائي كان يعيشها في حقبة ما قبل التاريخ كما يسمونها، فأيّ مكسب للشعب في رجوعه إلى تلك الحال.
4 -
ما تحقّق كذلك من نسيان اليوم الآخر، وما أخبر الله به من الثواب والعقاب، وما حلَّ محله من التكالب على المتع الرخيصة، والسير بلهفة للوصول إلى الشهوات، والزخارف الجذابة التي تنتجها مصانع الشرق والغرب، إن هو إلا ضلال وعبادة للدنيا، وإرجاع للإنسان إلى الحيوانية البهيمية.
5-
ما تنادي به الديمقراطية من المبادئ البراقة ينقضه أنها لم تحقق للناس الألفة والمحبة والتراحم الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، فلا يزال السلب والنهب والاغتصاب وكثرة الجرائم هي السمة
الظاهرة في الأنظمة التي تحكم بالديمقراطية، فأين المكاسب في مثل هذه الأعمال، وأيّ أمن سيحصل في نظام من أبرز أسسه التي قام عليها تشريع البشر للبشر، المتمثِّل في مجلس النواب وغيرهم من المشرعين من دون الله بقوانينهم التي تقوم على الهوى ومحادَّة الله، فإن الديمقراطية قد كفلت لهم هذا الحق الذي أخذوه بغير حق، والذي يعتبر من اتخاذ الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، فأي مكسب للإنسان المكرم في ظل هذه الاتجاهات الباطلة، وأي مكسب سيجنيه الشخص من قانون الحرية الشخصية التي أتاحت كل الفواحش وأنواع الإجرام تحت دعوى حرية الشعب، ومن الغريب أن تضمن الديمقراطية الحرية في كل شيء إلّا حرية التمسك بالدين الإسلامي، ولقد صدق المتظاهرون في بريطانيا حين خرجوا يصيحون في الشورع "لا حرية عندنا إلّا في الجنس"، ذلك لأنَّ السفور والزنا واللواط وشرب الخمور والتبجح بالكفر كلها أمور ضمنها قانون حرية الديمقراطية، التي يتبجّح بها الغرب والمعجبون بهم من الدول التي يسمونها "الدول النامية"، أو على الأصح "النايمة"، تظنُّ أن تلك الجرائم مكاسب.
6-
لم يتحقق في الديمقراطية تكريم الإنسان التكريم اللائق به، وإنما تكريمه يتمّ حسب الأمزجة ومن خلال اعتبارات كثيرة، بينما الإسلام يكرِّمه في كل أحواله، سواء أكان فقيرًا أم غنيًّا قبيحًا أم جميلًا، وهذا هو المكسب الحقيقيّ الذي يجب أن يعض الإنسان عليه بالنواجذ، فإن
الإسلام يكرم الإنسان حيًّا وميتًا، يكرمه في حياته فلا يجوز الاعتداء عليه؛ لا في ماله، ولا في نفسه، ولا في عرضه، إلا بشروط، ولا يجوز تعييره بذنب تاب منه، ويكرمه وهو ميت؛ فلا يجوز أخذ شيء منه، ولا الاستهانة بقبره، بل ولا يجوز مجرَّد الجلوس على قبره، ولا أن يذكر بشرٍّ إلّا لمصلحة راجحة، ولا يجوز إخضاعه واستعباده إلّا لربه سبحانه، ولا أن ينفذ تشريع أحد من البشر لم يرد به تشريع من عند خالق البشر، بينما الديمقراطية قائمة على تشريع الناس بعضهم لبعض، متمثلة في مجموعة من الناس يسمّون ذلك لجهلهم مكاسب ديمقراطية.
7-
ما تمدح به دعاة الديمقراطية من أنَّهم ضمنوا للشعوب حق التعبير عن الرأي مهما كان، فإنه قد اتَّضح من التاريخ الأوربيّ أن هذا الاتجاه لم يتحقق بطريقة صحيحة؛ إذ أنه لا يزال لأصحاب الجاه والحكم والثراء سيطرتهم المباشرة أو غير المباشرة على كل رأي تتخذه الجماهير، فلم يصفو المشرب لهذا المكسب كما يجب له، أو كما يتصور البعض، بدليل عدم جواز وصول المعارضة إلى المساس الحقيقي بمصالح السلطة الحاكمة كذلك، فإن حق التعبير عن الرأي هل ينفذ للجماهير؟ ما أكثر ما يعبرون عن أراء ويتظاهرون من أجلها، ويضربون عن العمل لتنفيذها، ولكنها لا تنفذ لهم، وهو ما نسمعه في كل يوم من إذاعاتهم، وما نقرأه في صحفهم، وهذا الأمر ليس بسرِّ إضافة إلى أن حقَّ التعبير إنما كان بتخطيط ماسونِيٍّ لضرب عقائد من يسمونهم بالجوييم.