الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر: محاربة الدين
يزعم المادّيون أن الدين إنما هو انعكاس وهميّ في أذهان البشر نحو قوة خارجية تسيِّر الكون لا أنَّه حقيقة منَزَّلة من الله كما هو إيمان جميع المؤمنين بالله تعالى، ثم زعموا أن هذا التوهُّم نشأ في أزمنة موغلة في القدم عند البدائيين؛ حيث كانت البداية هي توهم أن الإنسان له روح تسكن في جسده وتفارقه لحظة الموت، ومن هنا اضطروا إلى اصطناع أفكار تتوافق في العلاقة مع هذه الأرواح التي تطوّر أمرها بعد ذلك إلى توليد الآلهة الأولى وفي غير الأرض، ثم نشأ بفعل التولد في عقول الناس أن يتطوَّر أمر هذه الآلهة إلى إله واحد كما في الديانات التي تعبد إلهًا واحدًا، وعلى هذا فإن الدين إنما تولد عن نظريات الإنسان المحدودة التي نجمت عن عجزه المطلق أمام الطبيعة العاتية التي كان يخافها ولا يفهمها، فتصور أن ذلك إنما نتج عن إرادة سامية عليا فُسِّرَت بعد ذلك بإسنادها إلى الآلهة وقوتها وجبروتها المطلق، والتي أصبحت هذه الآلهة في شكل إله واحد قوي جبار عند الكثير، ثم زعموا أن هذه المعقتدات في الإله إنما تعود عند الإنسان في الأساس إلى ما قبل التاريخ، وحينما جاء العهد التاريخي وجدها هكذا فالتقطها بغباء دون فهم، وقد أرجعوا السبب في ذلك إلى الحالة الاقتصادية التي كان يعيشها الإنسان في عهد ما قبل التاريخ، وهو اقتصاد ضعيف، وفي صورة بدائية تعتمد على الاشتراك في الصيد والماء والمراعي، وتعاون الجميع. هذا في عهد ما قبل
التاريخ، وأما حينما نشأ التطور الاقتصادي على نحوٍ أقوى بداية بعهد الرق والإقطاع والكنيسة، فقد استغلَّ هؤلاء الوجهاء هذا الجانب الإلهي لتخدير الكادحين حتى لا يشعروا بالظلم الواقع عليهم؛ وأن عليهم الرضوخ إذا أرادوا نعيم الجنة في مقابل عذاب الدنيا بطاعة أولئك، ولهذا باركت الكنيسة الرق وأوصت الكنيسة الأرقاء بطاعة أسيادهم، وهددتهم بالنار الأبدية إن لم يمتثلوا، وكان لهذه التعليمات أثر جيد في إنفاذ الحياة الزراعية الضرورية لحياة المجتمع، وفي حفظ المجتمع من الفقر ومن اندلاع نار الثورات، وفي الوقت الذي اشتد فيه كابوس الإقطاع في أوروبا قويت في المقابل السلطة الدينية للكنيسة، وليس فقط السلطة الدينية، بل والفلسفة والأدب والفنون على نفس النهج الذي يريده الإقطاعيون، ولم تكن الكنيسة وحدها في هذه القوة، بل ساندتها قوة السلطة التي كانت هي الأخرى سيدة الإقطاع وحاميته، والمستفيد الحقيقي من تخدير الشعوب بالدين، ولهذا وقف الحكام ورجال الكنيسة ضد كل من تسوّل له نفسه الخروج عن قبضتهم بوصفه بالإسم الذي يبيحون به دمه، وهو إطلاق "الهرطقة" عليه.
وما اشتعال الحروب التي خاضها البشر باسم الدين إلّا صراعًا طبقيًّا في حقيقته، نجم عن الحالات الاقتصادية فحسب، وحينما ظهرت الرأسمالية ضعف أمر الدين لتطور الاقتصاد وانتعاشه، ولكن البرجوازية أحسَّت بأنَّ نبذها للدين خطر عليها، فعادت إلى احتضانه وتستخيره لمصالحها، وهذا هو السبب في تعلُّق البرجوازية بالدين؛ لكي تظل على قوتها الرأسمالية.
هكذا علَّل الملاحدة لنشأة التدين عند الإنسان، وحينما جاءت الشيوعية في روسيا أعلنت الحرب الضروس على الدين وأهله، باعتبار أنه أفيون الشعوب، وأن الدين إنما كان في ورسيا وغيرها بسبب الضعف الاقتصادي، وعدم وجود حول ولا وقوة للطبقة الفقيرة إلّا بالاستناد إلى الدين كعزاء بديل لذلك الشقاء والفقر. ولكن بعد مجيء الشيوعية التي هيَّأت موارد للإنتاج لم يعد الفلاح في حاجة إلى الالتجاء إلى القوة الإلهية ليتسلَّى بها عن شقائه، وعليه حينئذ أن يتخلَّى عن الاعتقاد بوجود الإله وعن الدين كذلك؛ ليسعد في ظل النظام الشيوعي!
أما المجتمع الزراعي فقد كان تمسكمهم بالدين أمرًا واضحًا لوجد المقتضيات الكثيرة لازدهاره في أوساطهم -كما تذكر الشيوعية الماركسية في تعليلاتها الخرافية، كقولهم: إن الإنسان في هذا المجتمع يضع البذور في الأرض ويغذيها ويحوطها بعناية، ولا يملك أكثر من هذا، فهو لا يستطيع أن ينبتها كما يريد، ولا أن يجعلها تثمر أو لا تثمر، وهنا اضطر إلى التعلق بوجود قوة خارجية غيبية -الإله- وإلى استراضائه والتعلق به لإنجاح زراعته، وتحبب إليه بأنواع الطقوس -العبادات، وهذا بخلاف المجتمع الصناعي، فإنه لم يعد الإنسان في حاجة إلى التعلق بتلك القوة الغيبية؛ لأن أمر الصناعة ظاهر يسيطر عليه الشخص ويصرّفه كما يريد، فهو صنع يده وطوع أمره بخلاف الجانب الزراعي، وهذا هو تعليلهم ومبلغ علمهم لقوة التدين في العهد الزراعي وضعفه في العهد الصناعي -كما يزعمون، وهو تعليل يدل على سخافتهم وضحالة أفهامهم، كما أن هذا التفريق بين المجتمع
الزراعي والمجتمع الصناعي إن هو إلّا محض افتراء سخيف وهضم للإنسان، بل وإنكار لحق الله على عباده، ولا يملكون على ذلك أيّ دليل صحيح، ثم أليس الإنسان يواجه مشكلات وتعقيدات وأخطارًا في المجتمع الصناعي كما هو في المجتمع الزراعي، وأن قدرة الإنسان هي نفس القدرة في المجتمعين، فيكف احتاج إلى الله والتدين في المجتمع الزراعي واستغني عنه في المجتمع الصناعي، وماذا فعلت الشيوعية في المجتمع الزراعي والصناعي، أليس أتباعها الآن يتكفَّفون الغرب الزراعي الصناعي، وهم مقرون بالخالق عز وجل، مما يدل على خساة الشيوعية دينهم ودنياهم.
- من الذي غذَّى اشتداد العداوة للدين؟
لقد واجه الدين عدوَّين لدودين، هما: المخطط اليهودي، والمخطط المادي الشيوعي الناتج في البداية عن المخطط اليهودي والمتمم له.
أما المخطط اليهودي فلا شك أن اليهود وهم يريدون استحمار الجوييم يعرفون تمامًا أنه لا سبيل لهم إلى استعباد البشر إلّا بمحو دينهم وسلخهم من عقائدهم وأخلاقهم؛ لأن اليهود عرفوا أنه لا سبيل لهم إلى تحقيق مآربهم ما دام للبشر دين وأخلاق وتراث يرجعون إليها، واليهود أعدى أعداء البشرية على امتداد تاريخهم وحروبهم معهم لا تنقطع، ومؤامراتهم ضدهم لا حدَّ لها، فهم سراق العقائد، والأخلاق والأموال.
وأما العداء الشيوعي فهو امتداد طبيعي لعداء اليهود مضافًا إليه الحقد على الدين وأهله، وعلى سائر البشر الذين لم يستسلموا لطغيانهم، وحينما
وقفت الكنيسة في صف الإقطاعيين والرأسماليين ضد النفوذ الشيوعي، جاعلين الدين شعارًا لهم في حرب الشيوعية، تضاعف حقد الملاحدة على الدين وعلى كل مَنْ يمثله، واستفاد الملاحدة فوائد كثيرة من وقفة الكنيسة إلى جانب الاستبداديين؛ حيث أغروا الناس بعداوة الدين وأهله.
واشتد حقدهم على نسبة أيّ حق أو عدل أو خير إلى الله عز وجل، فقد سخروا من كل من يعتقد ذلك ورموه بأنواع السباب؛ إذ ليس هناك -في ميزانهم- حق وعدل وخير وتوجيه من الله؛ إذ أن كل ما يصدر عن الناس من تصرفات إنما هي نتيجة للأحوال الاقتصادية، وتغيراتها المتلاحقة دون أن يكون هناك توجيه غيبي يسيّر الكون أو تظهر الأخلاق عن طريقه. وهم يرتاحون لنسبة الحق والعدل إلى الشيوعية، ولكنهما محرَّمان نسبتهما إلى الله تعالى، ولكن الله عز وجل متم نوره ولن كره الكافرون، وقد أذلَّهم الله تعالى أيَّما إذلال.
ومن الجدير بالذكر أن الملاحدة قد يتظاهرون أحيانًا بذكر كلمات الدين والتدين، فيظن من لا يعرف أهدافهم أنهم يريدون ذكر الدين والرضى به، بينما هم في الواقع في غاية البعد عن هذا المفهوم السليم، ولهذا يقول المفكر المسلم وحيد الدين خان:"إنه على الرغم من أن كلمة "الدين" موجودة في التفسير الجديد للدين، ولكن الدين هنا في صورته الحقيقة والعملية لا يختلف عن الإلحاد الكامل في شيء".
"في ضوضاء هذه الدراسة الاجتماعية والتاريخية المزعومة يضيع أصل الدين في هذا التفسير المستحدث فيصبح الدين مجرد ظاهرة
اجتماعية، ويفقد قيمته الحقيقة في توجيه الحياة والمجتمع وهداية الإنسان لما فيه خيره في الدنيا والآخرة"1.
وتارةً يرجع أولئك الملاحدة تفسير الدين حسب خرافاتهم إلى قابلية الشخص واستعداده الذهني لإدراك شتَّى الصور التي يتخيلها بعد ذلك دينًا، كالشاعر الذي يتصوّر أشياء في خياله اللاشعوري، وهذه تسمَّى نبوة عند بعض كبارهم.
ويرى محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية أنه يمكن تشبيه الدين بالفن؛ من حيث أن الفنَّان يتمتع بذوق غير عادي في الأمور الفنية، فكذلك رجل الدين يتمتَّع بنظرة قوية وأذن صاغية؛ فيصل بتجاربه إلى معرفة الدين، مع أنهم قد أقروا بأن الدين لا تدخل معرفته تحت التجارب -كما تقدَّم- وهم يهدفون من وراء هذا السخف إلى إنكار النبوات الإلهية ويقرر "ت.ر. مايلزم": إن الدين إذ قُصِدَ به ما بعد الطبيعة، أي: القول بأنه وحي من الله تعالى، فإنه حينئذ يفقد معناه الحقيقي، أما إذا أريد بالدين معنى مجازيًّا بمعنى قوة الذكاء والإلهام، فإنه حينئذ يكون معناه مقبولًا لدى الأشخاص الذين يتَّصفون بقابليتهم للتدين.
ويرى"اليكيس كاريل" أن التديُّن إنما يصل إليه الإنسان بجهوده الشخصية وتطلعه إلى ذلك مثله مثل الشخص الذي يريد أن يصبح مصارعًا فيستعد لتقوية بدنه بالرياضة وترويض أعضائه، فكذلك المتدين يصل بصقل روحه وتهذيبها إلى التدين الذي يقتنع به2.
1 الدين في مواجهة العلم، ص111.
2 انظر الدين في مواجهة العلم ص113-114.
وهذا التفسير للدين خرافة وسذاجة، وذلك لأنه يعتبر مصدر الدين قوة تخيل البشر وسموّ ذكاءهم لا أنه من الله تعالى، أو عن وحيه؛ إذ لا وجود لذلك في قاموس إلحادهم، فكيف يكون الدين من خيال البشر وله هذه المكانة في النفوس منذ أن وجدت البشرية إلى أن تنتهي؟ ألم تظهر روايات وقصص وكتابات خيالية لا حدود لها؟ ثم تنتهي في مدة وجيزة ولم يعد أحد يتأثر بها مع أنها أحيانًا نابعة من أعماق كبار الشعراء الذين يسميهم الملحدون أنبياء، ومن أعماق كبار أصحاب الفكر والأدب، ثم كيف تجمع البشرية على احترام التدين إلى هذا الحدّ لو كان ما يقوله الملحدون صحيحًا من أن التدين خيالات وفن؟ ولماذا نجح الأنبياء على طول الأزمنة وبقي ما خلفوه حيًّا في قلوب الناس، بينما تموت أفكار البشر وتنسى، بل وتمل على مر الزمان رغم تفنن أصحابها في الفصاحة، كذلك يقال لهم لو كان التدين يرجع إلى الذكاء؛ لكان لكل شخص دين يخصه يتوافق مع ذكائه وذوقه؛ لاختلاف الناس في الذكاء وفي الرغبات، ولما أمكن التفريق بين من يعمل الخير ومن يعمل الشر؛ لأن الخير والشر يصبحان لا ضابط لهما لاختلاف العقول والأديان من فرد إلى فرد، وهل الواقع يدل على هذا؟ أم أنه يدل على أن الناس يشتركون في دين حتَّى ينسخه الله بغيره، كما هو الحال في الأديان المنزَّلة على امتداد تاريخ البشر؟
كما أن هذا التفسير الإلحادي للدين يجعل كلمة النبوة أو ختم النبوة أمر لا معنى له؛ لأن النبوة إنما هي مجموعة صور خيالة جميلة، لا أن هناك إلهًا هو الذي يختار لها الشخص الذي يريده، وهو مفهوم شاذٌّ بالنسبة لما
أطبق عليه عامة الناس، وهل يصح أن يُلْتَفَتَ إلى كلام ملحد في آخر الزمان ويغفل إطباق تلك الملايين التي لا يعلم عددها إلّا الله وحده، فاتضح أن كل تفسيرات الملاحدة للدين أو استعمالهم لكلمة دين إنما يراد بذلك إمَّا المغالطة أو النفاق، وإمَّا أن نسميها سذاجة لبعدهم عن معرفة الدين، وجهلهم بكل حقائقه، فهم لا يفرِّقون بين الاتجاه الخاص بالدين وبين الاتجاهات الجاهلية التي أفرزتها عقول جاهلية ادَّعت معرفة كل شيء، ومن أعجب الأمور أن يسموا الدين الذي أطبقت البشرية على تقبله خيالات، ويسمون إلحادهم وخيلاتهم التي يردها العقل والواقع علميةً، وأين الثرى من الثريا؟
إن تفسير الملاحدة للتديُّن عن الإنسان كله كذب وافراض وهمي خيالي، فقد تصوروا في خيالهم أن نشأة الإنسان وظهور التدين عنده، ونشأة القيم والأخلاق إنما قامت على المادة وحدها، ومن المعلوم بداهية أنه مرت قرون عديدة والبشرية كلهم على التدين وعلى التعلق بإله قادر مهما اختلفت عبادتهم وعقائدهم وعبارتهم، فهل يلغي كل ذلك الاتفاق في تلك القرون السحيقة التي لا يعملها إلّا الله، ويؤخذ فيها برأي الملاحدة الشاذين، هذا ليس بمنطق صحيح أبدًا، وهل ما تصوروه من تطور الإنسان بسبب المادة يعضده دليل عقلي -إذ لا يوجد لهم دليل شرعي- إنه مجرد تحكّم أن يقسِّموا البشر إلى مجتمعات بدائية ومجتمعات زراعية ومجتمعات صناعية، وأن التدين في كل مرحلة كانت له أسبابه المادية، إنه تحكم كاذب، فمن أين لهم صحته، وهل شهدوا خلق السموات أو الأرض أو خلق أنفسهم؟!
لقد جازف هؤلاء الملاحدة وافترضوا ما لم يحيطوا بعلمه، وطرقوا ما لا مجال لهم فيه، وكذَّبوا البشر قاطبة، وكذَّبوا الواقع الذي يشهد بتفاهة تفسيرهم للتدين ولكل القيم الإنسانية الثابتة بما فيها التدين الصحيح، ومن يصدقهم في أنَّ الصفات الثابتة في الإنسان سببها الجوانب الاقتصادية، ومن يصدقهم أن الرغبات الجنسية وحب الانتقام والثأر والإحساس بالرحمة والحزن والفرح والبخل والكرم إنما يعود إلى الناحية المادية فقط، دون أن تكون تلك الصفات وغيرها صفات أساسية في فطرة الإنسان، تلك الفطرة التي حاربتها الشيوعية اليهودية؛ لكي يسهل عليهم استعباد البشر وإخراج الجوييم عن شريعة الله تعالى إلى شريعتهم الحاقدة على جميع البشر.
نعم، إن الإنسان حينما يقف عاجزًا عن معرفة سر هذا الكون، ويتفكَّر في خلق الله والأرض والنجوم وسائر الأفلاك، وتتابع الليل والنهار، والحياة والموت، وسائر ما أوجده الله في هذا الكون، إذا فعل الإنسان ذلك يجد نفسه عاجزًا عن إدراك كل هذا، وحينئذ يعرف بفطرته أن هناك موجد عظيم لهذا الكون هو أقوى منه، يستحق أنه يخضع له وأن يعبده ويرجو ثوابه ويخاف عقابه، لا أن يعتقد أن المادة خلقته، فإن التفكر في كل ذلك يهدي إلى الاعتراف بخالق عظيم قدير حكيم لا أنَّ للمادة معه، بل هي مخلوقة له حدثت بعد أن لم تكن، وهذا هو ما اعترف به الملاحدة في أنفسهم وجحدوه ظاهرًا تعصبًا لنظرياتهم الفاسدة، وقد ذكر الله عز وجل كثيرًا من عجائب هذا الكون، ورغَّب الناس في التفكر فيه واستخلاص العبر، فذكر سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.
ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا
1 سورة البقرة، الآية:164.
2 سورة النحل، الآية: 10-18.
لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1.
وهذا الآيات وغيرها تجعل الإنسان يقف على حقيقة وجوده ووجود من حوله، ووجود هذا الكون كله وما فيه، توقفه على مصدر التديُّن ومستحق العبودية، وتشبع فطرته عن كل تساؤلاته حول هذه الحياة وما بعدها في العالم الآخر، وتثير في فطرته ما كان كامنًا في التوجه إلى خالق هذه الحياة، وإلى الرغبة الكامنة في الالتجاء إليه، والخضوع والعبادة له، وهذه الفطرة هي التي يشعر الإنسان بواسطتها عظمة الله، والرغبة في الخضوع له، والدليل على ذلك أنه لم يخل جيل من الأجيال على امتداد التاريخ من التديُّن والتوجه إلى الله، وهذا ما أخبر الله عز وجل عنه:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 3، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 34.
1 سورة الواقعة، الآيات: 58-74.
2 سورة الطور، الآيات: 35-37.
3 سورة فاطر، الآية:24.
4 سورة الإسراء، الآية:15.
وهذا هو الحق، ولا اعتبار لكلام الشاذّين الساقطين الملاحدة الممسوخين الذين:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1، الذين حاربوا الدين النصراني ظانّين أنه الدين الصحيح، ثم غمرتهم النشوة بانتصارهم عليه، وما علموا أنهم إنما حاربوا دينًا مزيفًا كاذبًا من وضع الطغاة المشركين عبَّاد الصليب وأحبار الشيطان، ولهم أن يحاربوا كل الجاهليات ومن ضمنها هذا الدين، ولكنهم انحرفوا عن مكان المعركة الحقيقية فحاربوا النور، وغيَّروا الحقائق لينفسوا عن غيظهم وحقدهم الشديد على طغاة الكنيسة الذين أذاقوهم ألوان الذل وشر الاستعباد؛ وليحققوا أيضًا ما تطمح إليه اليهودية العالمية، ويجب أن يعلم أولئك الأشرار أنه ما من فترة مرَّت من فترات حياة البشر إلّا وكان توحيد الله نورًا وضَّاء لم يخل منه مجتمع في يوم ما من أيام حياة البشر، لم يكن للفن ولا للفنانين فيه أي شيء يذكر، ولا للفكر أو التجربة أيّ دخل كما يدَّعون.
وأمَّا ما يذكره الملاحدة من أن الإقطاعيين والرأسماليين كانوا يستخدمون الدين كمخدِّر للجماهير ليرضوا بالذل والظلم عليهم في مقابل أن يعشوا في جنة الله في الآخرة، فهذا أمر قد يكون وقع كذلك. ولكن ما هي العلاقة بين الدين الحق وبين فجور طغاة الكنيسة وجشع الرأسماليين المرابين، بل كان الأولى أن يوجَّه اللوم إلى أولئك الذين رضوا بهذا الحال ولم يبحثوا عن مخرج لهم، أو عن صحة تلك الوعود من أولئك المنتفعين، أو أن يخاصموا
1 سورة النمل، من الآية:14.
أولئك الأشرار الجشعين، ويصلحوا الأمور، لا أن يحاربوا الله ورسله، وهل يجب أن يلغى الدين لمجرد استغلال أولئك الأشرار له، وما هو ذنب الدين إن لم يحكم ولم يستشر، بل وضع في قفص الاتهام دون رحمة أو لين، ولماذا يحمل تبعة أخطاء الآخرين بل أخطاء أعدائه، وما هو السر في أن الملاحدة لم يرجعوا إلى الدين حتى بعد أن تبيَّن لهم أن طغاة الكنيسة والرأسماليين والإقطاعيين سلبوا الناس عقولهم وتفكيرهم باسمه وهو منهم برئ.
إن الجواب واضح، وهو أن الملاحدة قد بيَّتوا النية لمحاربة الدين ليستغلوا الناس هم أيضًا باسم الإلحاد الذي سموه تقدمًا ورفاهية، وغير ذلك من الأسماء الكاذبة، وقدسوه ليحلَّ محل الكنيسة، والكل ظالمون ومخادعون.