الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مدى أهمية العامل الاقتصادي في حياة الإنسان
لا شكَّ أن للعوامل الاقتصادية أثر واضح جدًّا في حياة الناس وفي طريقة معايشهم وتعاملهم فيما بينهم، وفي الإسلام أتَمَّ بيان لأهمية هذا الجانب والتأكيد على الاهتمام به، على أن الإسلام وإن كان يولي هذا الجانب أهمية فائقة، لكنه لا يقر ذلك الغلوّ الممقوت الذي قرَّره الملاحدة في تقديسهم للجانب الاقتصادي إلى حدِّ أن جعلوه البديل عن الله تعالى، وإلى حدّ أنه هو المنشئ للقيم والأخلاق والتدين والتاريخ.. إلخ. فهذا التصور جاهلي قائم على المغالطة للناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم كما عرفت سابقًا، وقائم على الإجحاف الظالم بكل القيم الإنسانية والدينية على مرِّ الدهور.
لقد تقرَّر في كل الكتب التي أنزلها الله والشرائع الإلهية، وأكد العلم الحديث أن المادة حدثت في فترة من الفترات، وأنها لم تكن موجودة قبل ذلك كما زعم الملاحدة أزلية المادة، أو أنه لا أوَّل لها ولا آخر لها.
ولقد أكد علماء الأحياء على أن كل الكائنات الحية -فضلًا عن الإنسان- تسير على طريقة تخالف فيها المادة غير الحية في النمو وفي الصفات وغير ذلك، كما ثبت كذلك أن الإنسان منفرد عن الحيوان حتى في كيانه الحيوي البحت، فضلًا عن سائر الصفات التي امتاز بها؛ كالعقل والروح والتفكير وكل
أموره الأخرى، فلم يبق للماديين ما يتمسكون به لإرجاع الإنسان إلى حفنة المادة المجرَّدة إلّا مجرد العناد والمغالطة الباطلة التي سلبوا فيها الإنسان أعزَّ ما يملك من القيم المثلى، والخصائص التي ميزه الله بها، والتي هي أرفع وأعلى وأعظم من مجرَّد المادة، أنَّ للإنسان قيمًا ثابتة أصيلة، لم يكن الحال الاقتصادي هو المنشئ لها كما زعم الملاحدة، مع ملاحظة تأثير الحال الاقتصادي نسبيًّا، وإنما كان الحال الاقتصادي مسايرًا لها وحافزًا لإشباعها الموجود أصلًا قبل الحاجة إلى المادة، فمثلًا الرغبة الجنسية موجودة في الإنسان، ولم يكن سببها الحال الاقتصادي، وإنما هذا الحال يكون حافزًا للوصول إليها، فيصبح مجموع الأمرين الرغبة ووجود المادة يسيران في طريق واحد تلبيةً لذلك الجانب الهام المسيطر في الإنسان، وهو جانب "النفس" الذي أهمله الملاحدة عمدًا لاقتصارهم على الإيمان بالمحسوس فقط.
فهذه النفس هي الأصل الذي يفسَّر به كل شيء عن الإنسان خيرًا أو شرًّا، هكذا أرادها الله الحكيم الخبير، لها مطالب عديدة، وتتشكل في أشكال مختلفة بتدبير الله تعالى لا بتدبير ذلك الإله الجامد المتمثل في المادة التي يدَّعيها الملاحدة.
ولا يشك عاقل سليم الفطرة أنَّ للإنسان صفات أساسية تحدّد طبيعته الإنسانية، حتى وإن بدا عليه التأثر بالمادة، فإن جوهره الروحي لا يزال فوق المادة وفوق مشابهة الحيوانات البهيمية، مع التفاوت الحاصل بين الناس في هذا الجانب من ناحية التطبيق الفعلي بعد اتفاقهم في الإطار العام للإنسان، والتي تفيد أن الخواصّ الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ
وجود الإنسان على الأرض في نواحي الرغبات والمظاهر، وأنه لا يتغير بسبب المادة، بل الذي يتغيّر فيه هو جانب السلوك، فمثلًا يتغيِّر فيه نوع العبادة التي يتعبَّد بها ونوع التشريع الذي ينظم حياته، هل هو التشريع والعبادة الجاهلية؟ أم هو التشريع والعبادة الإلهية؟ فهذا هو الذي يحدث فعلًا تغييره في حياة الإنسان، سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا، مزارعًا أم صانعًا، أو في أي حالة من الحالات، فهذه يغيرها الإنسان فعلًا؛ فالتغيرات المادية والاقتصادية إنما تغيّر الصورة ولكنها لا تغير الجوهر والحقيقة الثابتة للإنسان.
إن التغيير الشددي يأتي أولًا من داخل النفس، فالغضب والثورة في وجه الظلم والرحمة والحب والحزن ليس هو نتيجة حتمية لتغيّر المادة من طور إلى طور، وإنما سبب ذلك هو تلك الصفات الأصيلة في النفس: صفة حب العدل والحق والنفرة عن اللظم والظالمين، وكذا اللين والشدة وغيرهما هي صفات ميَّزَ الله بها الإنسان وفطره عليها، ليس سبب ذلك ما ذهب إليه الملاحدة في تفسيرهم الماديّ للتاريخ، والأدلة كثيرة على أصالة الصفات الإنسانية في الإنسان، وأن التغير لم يكن سببه المادة فقط كما زعم الملاحدة.
ومن الأدلة على فساد تعليل الملاحدة أن الإنسان حينما يأتي ما يخالف فطرته وإنسانيته يبدو عليه القلق والاضطراب وعلامات التذمُّر المعبِّرة عن كراهته لأي وضع يفرض عليه أو لا ينسجم مع رغبته، وحال الناس في أوروبا وانفلاتهم في كل اتجاه وانغماسهم في كل رذيلة -وهو وضع يخالف فطرة الإنسان وأصالته الأخلاقية- لم يُقَابَل ذلك الوضع البهيمي بالترحاب
والانقياد التام -حتى وإن كان يبدو أنه مقبول في الظاهر- فإن انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمور والمخدرات واتساع نطاق الجرمية وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسي كلها دلائل صارخة على عدم الرضى بتلك الحياة البيهمية المادية، فلو كان الإنسان لا قيم له ثابتة -كما قرره الملاحدة- لكانت تلك الحياة لا تقدم ولا تؤخر من نفسيته، بل يعيش في أي ظرف سعيدًا مطمئنًا كما تعيش البهائم التي لا تهتم إلّا بالمادة وليس لها سلوك الإنسان، وهذا يدل على أن ما زعمه الملاحة -كما تقدَّم- من أنّ شدة التدين وسيطرة الأدب في الأسرة الزراعية، وكذلك الحفاظ على الأعراض، والاهتمام بالعفة، وتنظيم الحياة الجنسية، والتعاون بين أفراد الأسر، إنما كان سببه تلك الحالة الاقتصادية في المجتمع الزراعي إن هو إلّا كذب محض ومغالطة للنفس وسلب لقيمها الرفيعة التي منحها الله إياها، وما يستدل به الملاحدة من أن الناس في المجتمع الصناعي أصبحوا لا يعيرون الأخلاق والدين والترابط والعفّة بالًا بسبب التطور الاقتصادي، هو في حقيقته كذب ووضع شاذ غير مرضي عنه ومغالطة، وإنما السبب الأكبر في ذلك هو نجاح المخطط الشرير لإشاعة الفاحشة وتهوين الجريمة، وسلب الجوييم قيمهم التي يعتزون بها، ويفتخرون بإنسانيتهم فيها، والدليل هو ما سبق من حنين أصحاب الحياة البهيمية إلى العودة للأخلاق الفاضلة، والرغبة في محاربة الجريمة، وقد نصح كُتَّابُهم وزعماؤهم وحذَّورا مجتمعاتهم من مغَبَّة تملك الحياة السائبة التي تهوي بهم إلى النهاية السحيقة بسرعة مذهلة، فلو أنَّ الإنسان لا قيم له لما أحس أولئك بأوضاعهم الشنيعة ولعاشوا دون اي نكير وهذا يدل على كذب الزعم الشيوعي أن الإنسان لا قيم له ولا قيمة ولأخلاقه وسلوكه إلّا من خلال الأوضاع الاقتصادية والسلوك الناتج عنها.