الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع عشر: الروحية
مدخل
…
الباب الرابع عشر: الروحية
تمهيد:
يعرف كل عاقل أن الإنسان مكوّن من جسم مشاهد معروف بتفاصيله وأشكاله وألوانه وقوته وضعفه وغذائه، وأن الله سخَّر له جميع أعضائه ليساعد بعضها بعضًا، تتألم كلها لألم بعضها رحمة من الله تعالى بعباده؛ ليفطن الشخص إلى مكان الألم فيعالجه قبل أن يستحفل الداء به، ولولا وجود الألم في تلك الأعضاء لربما تلف العضو دون أن يفطِن له الشخص.
أما تكوينه الآخر فهي الروح، وهي أهمَّ من الجسد وأشرف، ببقائها في الجسد يكون الإنسان حيًّا، وبمفارقتها له يكون ميتًا، يتمّ عليها الثواب والعقاب، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 1.
ولقد كثر الخلاف واشتدَّ بين سائر الطوائف في حقيقة الروح، ولكنهم لم ولن يدركوا حقيقتها أبدًا. هذه الروح جعلها الله في غاية الظهور وفي غاية الخفاء، فإن ظهورها يتمثَّل في بقاء حركات الجسم؛ إذ لولاها لسكن الجسم واضمحلَّ، وأما خفاؤها فيتمثَّل في أنه لا أحد على الإطلاق -غير الله تعالى- يعلم مكانها، أو يرى حقيقتها، فهي غيب مجهول للإنسان، وقد بيَّنَ الله تعالى ذلك في كتابه الكريم إثر سؤال وجهه المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم بتحريض من اليهود قائلين له: أين الروح؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا} 2.
1 سورة الملك آية: 2.
2 سورة الإسراء آية: 85.
وفي هذا الجواب قطع لكل طامع في معرفة سر الروح، وهذا بخلاف ما جاء في التوارة المحرَّفة التي تذكر أن الروح هي الدم، ولهذا يحرّم اليهود أكله1.
ولكن هذا التفسير باطل، ويكذبه الواقع، فلو كانت الروح هي الدم لأمكن تلافي الموت بكل بساطة، خصوصًا في عصرنا الحاضر الذي أمكن فيه نقل الدم من شخص إلى آخر في أسهل عملٍ وأتقنه.
وقد استقصى أخبار الروح الإمام العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في كتاب الروح المنسوب إليه، فصَّل فيه تفصيلات كثيرة ليست من أهداف هذه الدراسة هنا، فذكر أن الأرواح تعرف زيارة الأحياء لهم، وتسلِّم على من يسلِّم عليهم في القبور، وتعرف كل ما يجري على الأحياء من أهلها، وأن التقلين ينفع الميت، وذكر قصصًا مناميَّة كثيرة، الله أعلم بصحتها، وأكثرها يبدو عليه الضعف وعدم قبول العقل لها، وذكر أن أرواح الأموات وأرواح الأحياء تتلاقى بقدرة الله تعالى حينما ينام الحي، وأن الأموات قد يرشدون الأحياء إلى أمور يجدونها فعلًا كما أخبرتهم به أرواح الموتى، وقد حصل هذا فعلًا لبعض الصحابة والصالحين، وهل تموت الروح أم البدن وحده؟ اختلف العلماء في هذا، وقد جمع بين ذلك الاختلاف بقوله:"والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها. فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وأن أريد أنها تنعدم وتحفل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار"2.
1 وقد اشتهر من تعاليم التلمود أن اليهود في عيد الفصح لا بُدَّ أن يأكلوا أكلًا خاصًّا بهذه المناسبة يكون قد عُجِنَ الأكل بدم أحد المخالفين لليهود من الجويم، كما حصل للأب توما النصراني.
2 الروح ص49، ويظهر أن القول ببقاء الروح من الأمور المتَّفق عليها بين جميع الملل.
وثبت أن الروح ترجع إلى الميت في قبره عند سؤال الملكين له، وأنها ترفع إلى السماء ثم تعاد إلى الميت في قبره، في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، كما جاءت بذلك السنة المطهرة، كما ثبت عند أهل الحق أن الروح مخلوقة لله تعالى، أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه على الصحيح أن الروح توجد بعد تكوين الجسد، وأنها تفارقه إذا مات، وأنها جسم في داخل جسم الإنسان، ومن قال أنها عَرَض أو غير ذلك فقد أخطأ الحق.
كما أن الروح لا تعود بعد موتها على ما كانت عليه في الحياة الدنيا، فقد أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن الميت عليه برزخ إلى يوم القيامة، وأنه بعد الموت لا يمكنه أن يعمل، فقد انتهى زمن العمل في الدنيا، ولم يبق أمامه إلّا ما قدَّم في حياته الدنيوية من خير أو شر، ولم يقل برجعة الروح إلى جسدها قبل يوم القيامة أحد من المسلمين، ولا اعتبار لقول ابن سبأ ومن يتَّبعه من الرافضة، فهو قول خارج عن أقوال المسلمين ومعتقداتهم.
وما زعمه الروحيون من أنها ترجع إلى الدنيا وتحضر وقت طلبهم لها، وأنها تتجوّل بين الأحياء وتشاركهم أعمالهم ، وأن لها نفعًا ملموسًا أو ضررًا ملموسًا، إن هو إلّا افتراء وتكذيب بجميع الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه الكرام، وهذا هو الثابت الذي يجب اعتقاده، وترك أقوال الخرافيين من الصوفية وغيرهم من دعاة الروحية الضالين.